الصـيد الثـمين!نكأت التجارب المؤلمة للكثيرين من قرائك جراحى، فوجدتنى أكتب إليك تجربتى التى أخلصت فيها إلى أقصى درجة لمن ملكت شغاف قلبى، فإذا بها تغدر بى، وتتنكر لكل ما قدمته لها، فأنا معلم لإحدى اللغات الأجنبية بمدرسة ثانوية فى قرية بكفر الشيخ، عرفت الالتزام منذ صغرى، وربطتنى علاقة طيبة بكل من حولى، ومنذ فترة لاحظت اهتماما واضحا من إحدى بنات القرية بى، وكنت أعرفها من بعيد، وكانت تطيل النظر إلىّ وأحسست أنها تريد أن تفضى إلىّ بشىء ما لا أعرفه، وبمرور الوقت تحدثنا معا، وعرفت انها تدرس بطب الاسكندرية، وقالت لى إنها تشعر بالارتياح لى، وتتمنى أن ترتبط بى، فأفهمتها أننى أيضا ارتحت إليها، لكن أمور الزواج لا تؤخذ على هذا النحو.
وأن هناك حسابات كثيرة قد تعوق زواجنا، منها اننا نعيش فى الأرياف، حيث إن الطبيبة فىوضع اجتماعى لا يتيح لها الارتباط إلا بطبيب أو مهندس، ولا يميل أهلها بأى حال لتزويجها من معلم مثلى. واننى إذا تقدمت بطلب يدها إلى أسرتها سوف أواجه بالرفض، وسيكون ذلك إهانة بالغة لا أرضاها لنفسى، فسكتت، وانصرف كل منا إلى حاله، ومرت عدة شهور، ثم قابلتها بالمصادفة فى حفل زفاف أحد معارفنا، فجاءتنى مسرعة، وسلمت علىّ، وأكدت تمسكها بى، قائلة انها رفضت كل من تقدموا لخطبتها من أجلى، ولم تدع لى فرصة تأكيد وجهة نظرى فى هذا الموضوع، وواصلت كلامها بأنها سوف تقنع أهلها بى، وكانت وقتها طالبة فى السنة الثالثة بالكلية.
وبدأت مرحلة جديدة من علاقتنا، وتابعت خطواتها فى كل كبيرة وصغيرة، وصارت هى شغلى الشاغل فى ذهابها إلى الكلية، ومجيئها منها، فى ظل حالة الانفلات الأمنى التى صاحبت ثورة الخامس والعشرين من يناير، ولك أن تتخيل حالى وأنا عائد فى منتصف الليل من الاسكندرية، فلقد تعرضت للموت أكثر من مرة على أيدى بلطجية، كانوا يهدفون إلى إيذائى وسرقة سيارتى، ومع ذلك خاطرت بحياتى كثيرا من أجلها، وتفرغت معظم وقتى لتنظيم مواعيدها، وكنت أوقظها بالهاتف فى المواعيد التى تحددها لكى تستذكر دروسها، وأشترى لها كل ما تريده من كتب ومذكرات، ولم يكن النوم يعرف طريقه إلىّ قبل أن أطمئن عليها، وأخذت على عاتقى تجهيز كل ما يلزمها من أشياء وطلبات المعيشة، وحملها إليها فى المدينة الجامعية التى تسكن بها.
وخلال مناقشاتنا اتفقنا على أن نتزوج فى العام الأخير للدراسة، وسألتنى عن الشقة التى سوف نسكن فيها، فعرضت عليها أن أبيع قطعة أرض ورثتها عن والدى، واشترى بثمنها شقة فى المكان الذى تريده، أو أن ابنى لها بيتا فى مكان تعرفه وأثنت كثيرا على موقعه المتميز، وقد قدمت لها هذا العرض برغم أننى أملك شقة فى بيت العائلة، فقالت إنها تفضل أن يكون لها منزل ، مستقل، وليس شقة، فهى لاتحب الحياة فى الشقق، فالبيت له خصوصيته، وفيه راحة لا تتوافر فى الشقق المتجاورة، (على حد تعبيرها)!، وامتثالا لرغبتها قطعت مشوارا طويلا للحصول على ترخيص مبان لقطعة الأرض، وشرعت فى بناء المنزل المراد على مساحة مائتى متر مربع، وأسسته على خمسة طوابق، وبنيت منه طابقين، وصرفت عليه كل ما كان بحوزتى من مال!
وأحسست أن الأمور استتبت بيننا، وزاد من هذا الاحساس انها طلبت منى أن أشترى لها سلسلة ذهبية، فخطر لى أنها تختبرنى إذا كنت سألبى لها هذا الطلب أم لا، فأخذتها معى فى نفس اللحظة إلى محل مجوهرات فى دمنهور، واشتريت لها سلسلة تعدى ثمنها أربعة آلاف جنيه، وأكدت لها أن شبكتها ستكون بمائة ألف جنيه، واننى مهما ضحيت بالمال، فإنه يكفينى أنها فضلتنى على كل من تقدموا للزواج منها!!.. ولكى ألبى لها ما تريده فكرت فى بيع السيارة، والحصول على قرض من أحد البنوك ،وطلبت منها أن تجلس مع أهلها وتتفاهم معهم على كل شىء يخص زواجنا، واننى سأوافق على جميع طلباتهم مهما كلفنى ذلك، فوعدتنى بأن تفعل كل ما تستطيع لإتمام زواجنا كما اتفقنا من قبل.
وحان الموعد المحدد لزيارة أهلها، لكى أطلب يدها منهم، فإذا بها تماطل، وتتذرع بأسباب واهية لتأجيل الموضوع، فقلت لها إننى قبلت بعلاقتى بها من أجل الزواج، وانها هى التى لفتت نظرى إليها، وحثتنى على أن أتقدم إليها فى الوقت المناسب، وانها قادرة على إقناع أهلها بى، فما الذى استجد إذن لكى تماطلنى؟ وما الذى ترمى إليه من عملية «التسويف» التى أشم فيها رائحة الخداع؟. فلاحظت عليها الارتباك، ولم تجد ما ترد به علىّ وانصرفنا، وانقطعت أخبارها تماما، ولم تعد هناك اتصالات بيننا، فظننت انها ستأتينى بالخبر السعيد بعد هذا الانقطاع، فإذا بأحد معارفى يبلغنى بعقد قرانها على شاب تقدم لها، ووافقت عليه هى وأسرتها، فسقطت من هول الصدمة مغشيا علىّ. فنقلونى إلى المستشفى وتبين من الفحوص اننى أصبت بذبحة صدرية، وظللت أتلقى العلاج وأنا ممدد على سرير المرض أياما عديدة، واسترجعت شريط الذكريات، فوجدتنى قد سلّمت لها بكل ما طلبته، ولم أقصر فى حقها، لكنها هى التى غدرت بى، وسيطر علىّ الحزن الذى لازمنى فى كل خطواتى، وكعادتها فى الظهور أمامى فى الوقت الذى تريده، جاءتنى لتبرير موقفها بأن أهلها أجبروها على عقد قرانها من شاب تقدم إليهم للزواج منها، ورأوه مناسبا لها، ولم يكن بيدها حيلة لرفضه، فلم أرد عليها، وطردتها، وأغلقت هاتفى، وانتهى كل شىء!!
إننى منذ ذلك الوقت لا أقوى على العمل، ولا أدرى لماذا خدعتنى كل هذه المدة؟ وما الذى تريده الآن بعد كل ما جرى؟.. لقد أبلغت والدتى بما فعلته بى، فكانت صدمتها هى نفس صدمتى، وأصيبت بأزمة صحية ألزمتها الفراش، وبكت كثيرا لما حدث لى على يد فتاة غررت بى، وأنا الذى ضحيت من أجلها بكل ما أملكه.. وقالت أمى لى إنها ادخرت عشرة آلاف جنيه من المصروف الذى نعطيه لها أنا وإخوتى، لكى تقدم لها هدية فى حفل خطبتنا تقديرا لها وحبا فيها، فهل مثل هذه الفتاة تستحق ما فعلناه من أجلها؟
لقد تم زفافها إلى فتاها الجديد، أما أنا فكرهت كل شىء فى الدنيا، وكلما تذكرت ما فعلته بى أبكى كالطفل الصغير، ولا أجد ما أقوله سوى «حسبنا الله ونعم الوكيل».. ولعل فى قصتى عبرة وعظة لأمثالى ممن يتوسمون فى بعض البنات الصدق والصراحة. ثم يفاجأون بالحقيقة المرة بأنهن انتهازيات، لا هدف لهن سوى تحقيق مصالحهن، ولو على حساب الفضيلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ولكاتب هذه الرسالة أقول:
لم تكن أنت بالنسبة لفتاتك سوي «صيد ثمين» نالت منه أغراضها، ثم ألقت ببقاياه في أقرب سلة مهملات، فبحكم أنكما من قرية واحدة، كانت تعلم بثرائك، فجذبتها السيارة، والأموال والأملاك التي بحوزتك، ولذلك سعت إلي استنزافك، والحصول علي ما تبغيه منك بدعوي الحب، ثم ركلتك في اللحظة التي تأكدت فيها أنه ليس لديك جديد يمكن أن تقدمه لها.. نعم هذه هي الحقيقة التي غابت عنك، واعتقد أنك في داخلك كنت تشعر بها، لكنك تعاميت عن كل الشواهد من حولك علي عدم نقاء سريرتها تجاهك، وركزت تفكيرك علي شيء واحد فقط هو كيف تجذبها إليك بشتي السبل، ونسيت أو تناسيت أن ما بني علي غير أساس لا يصمد أمام أول عاصفة تهب عليه.
هل يعقل يا سيدي أن تبني أوهاما بهذا الشكل، فتتخذ قرارات مصيرية تتعلق بكل ما لديك من مال، وتبيع كل شيء من أجل أن تبني منزلا جديدا، وأنت تملك أكثر من شقة جاهزة للسكن فيها، وأن تنفذ كل ما أملته عليك دون أي كلمة مع أهلها لتتبين حقيقة موقفهم منك، بل وحقيقة موقفها هي أيضا!!، فهذا التصرف الذي أقدمت عليه غامض، ولا أجد له تفسيرا، ثم ما معني أن تتركها هي التي تتفق مع أهلها علي ما يريدونه، ثم تنفذ ما يطلبونه دون قيد أو شرط؟.. وأي عقل هذا الذي يذهب بصاحبه إلي هذا التفكير غير العقلاني؟.. وأي هوس ذلك الذي أوصلك إلى أن تصنع هذا الصنيع؟!
إنني لا أري فارقا في المستوي التعليمي بينكما، فكلاكما حاصل علي مؤهل عال، ولكل منكما مجال عمل غير الآخر، أنت في التدريس، وهي في الطب، فما الذي جعلك تدني نفسك إلي هذه الدرجة، فتظهر أمامها فى صوره أقل منها، وأن ارتباطها بك سيكون منّة منها باعتباره أملا يفوق الخيال!.. لقد كان هذا الموقف من جانبك، بداية مغالاة من جانبها فى انتظار اللحظة المناسبة التي تنبذك فيها من حياتها، تنازلات ورضوخ من جانبك لطلباتها دون أي ارتباط رسمي، بل إنك كنت تخشي عدم الاستجابة لما تطلبه منك، خوفا من أن تفقدها، فاختلقت مبررات لتصرفاتك.. مرة لإرضائها، ومرة لأنها تختبر حبك.. حدث ذلك كثيرا، خصوصا عندما اشتريت لها سلسلة ذهبية غالية الثمن، وحين بعت قطعة الأرض وأقمت منزلا جديدا، ثم فكرت في بيع سيارتك والاقتراض من البنك الذي تتعامل معه، وكل هذا لمجرد «ثرثرة» بينك وبينها، سميتها حبا وارتباطا!!.. وكان طبيعيا والحال كذلك أن تمتص هذه الفتاة دم الصيد الذي وقع بين يديها ثم تتركه باحثة عن شريك الحياة الذى يناسبها، ويبارك أهلها زواجها منه.
وإذا كانت هذه حالك فإنني لا ألوم والدتك، السيدة البسيطة علي موقفها المساند لك، لأنه رد فعل طبيعي لموقفك، فالأم ـ أي أم ـ تريد لابنها أن يحقق كل أمانيه، وأن يسعد بحياته، وهي لم تفعل ما فعلته بادخار مبلغ لشراء هدية لفتاتك بعد الخطبة، إلا ثقة في حسن اختيارك، وبأنك رتبت أمورك بطريقة صحيحة، أخلت فتاتك بوعدها لك، انهارت باكية حزنا علي غدرها بك.
وأما أهلها ومن واقع ما رويته، فلم يعلموا شيئا عن علاقتك بابنتهم، وكان الأمر كله خديعة كبري من فتاة وثقت فيها. فإذا بها تخون الثقة، وتفصح عن وجهها الحقيقي، وتنكر جميلك، وما أسديته لها من خدمات، وفي ذلك يقول الشاعر:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته
وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
فحين لا يقر الإنسان المعروف والصنائع الجميلة التي أسديت إليه يكون منكرا للجميل، جاحدا للنعمة، كما أن الحياة والمشاعر الإنسانية والعلاقات الزوجية، لا تخضع لقوانين مطلقة، فما أكثر الزيجات الناجحة برغم فارق المستويين التعليمي والمادي، فأهم الشروط الواجب توافرها في الطرفين هي الأخلاق العالية والتمسك بالثوابت الدينية، فقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في شأن المرأة «فاظفر بذات الدين»، وقال في شأن الرجل «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه»، وهذا بالطبع مع تقارب العوامل الأخري، وليس تطابقها.
ولو أنك تزوجت من هذه الفتاة، لصارت كلمتك ثانوية، ولأصبحت كلمتها هي الحاكمة للبيت، وحين تكون الزوجة الآمر الناهي لزوجها، فإن شخصيته سوف تهتز أمام أبنائه، ولن ينصاعوا لتعليماته، ولا يعني هذا أنني أؤيد تسلط الزوج علي زوجته، فهذا أيضا أمر مرفوض.. والصحيح أن يبقي الرجل علي طبيعته في التعامل معها، مع تأكيد أن القوامة مسألة مهمة وخطيرة، أوكلها الله إليه، لما يحمله من قوة وشجاعة، ورباطة جأش، وقدرة علي مواجهة الشدائد بما يجعله الأقدر علي إدارة الأسرة، والسير بها إلي بر الأمان، ولا يجوز له أن يهين نفسه أو يضعف أمام أي امرأة مهما يكن شأنها، فهذا ليس من الرجولة في شيء، لأنه إذا انعكس الوضع، فسد القوام وفسدت الأسرة.
ولعل ما حدث لك يفيقك من غفلتك، ويساعدك علي شق طريق جديد لك في الحياة، تكون فيه واثقا من نفسك، ومستفيدا من دروس تجربتك، فلا تتذكر ما مضي، وإنما تنظر إلي يومك، وإلي الفجر الجديد الذي انبثق في حياتك بإزاحة الستار عما كنت ستتعرض له علي يد طالبة الطب، وأذكر كلمة للممثل المسرحي الهندي الشهير »كاليداسا« حين كتب »تحية للفجر« قال فيها»انظر إلي هذا النهار، لأنه هو الحياة بل حياة الحياة، ففي فترته الوجيزة توجد مختلف حقائق وجودك.. نعمة النمو، العمل المجيد، وبهاء الانتصار، ولأن الأمس ليس سوي حلم، والغد ليس إلا رؤي، فانظر جيدا إلي هذا النهار الذي تعيشه بأكمله.. هذه هي تحية الفجر«.
أسأل الله لك التوفيق مع تباشير الصباح الجديد الذي تعيش فيه الحقيقة بعيدا عن الأوهام التي سيطرت عليك، وكادت أن تؤدي بك إلي الضياع، وهو وحده المستعان.