الوفاق المستحيل!
نكأت التجارب المؤلمة للعديد من قرائك جراحى القديمة المغلقة على ما فيها من مرارة وأدمت قلبى الذى ينزف، منذ أكثر من سبع سنوات، ودفعتنى إلى أن أروى لك قصتى مع الحياة، فأنا شاب تخرجت فى احدى الكليات المرموقة، وشغلت وظيفة ممتازة
وقد عرفت الالتزام الدينى والأخلاقى منذ صغرى بحكم تربيتى الريفية، ولى أخوات تربين على الفضيلة، ولم نعرف جميعا الاختلاط بالآخرين، وانحصر اهتمامنا فى المذاكرة والتحصيل... وكعادة الاسر المصرية الحت علىّ أسرتى للخطبة والزواج، وبالغ كل من حولى فى وصف من رشحوها لى، ولم يذكر أحد أى عيب أو نقيصة فيها، فامتثلت لرغبتهم، وتعرفت على أسرة (الزوجة المنتظرة) وعرفت أن أباها خريج الأزهر، ويعمل إماما وخطيبا لأحد المساجد، وسافر إلى احدى دول الخليج، وظل بها لمدة خمسة وعشرين عاما جمع خلالها مالا وفيرا، ولم يكن يزور أسرته إلا فى الاجازات المتباعدة، وترك مهمة تربية الأبناء لزوجته التى انتحلت (الصرامة) فى معاملتها لهم لتعويض غياب أبيهم، وتوقفت كثيرا عند طبيعة (حما المستقبل) فوجدته شخصية ضعيفة، لا يستطيع إدارة حوار أو الدخول فى نقاش، وهو ما يتنافى مع كونه خطيبا لكنه يدارى نفسه بالشخط والصوت العالى، ورسم نظرة الجدية على وجهه!.. ولو أن الأمر بيده لطبق الشرع على كل الناس ماعدا أسرته!، ويحفظ الاحاديث التى تحض الرجال على حسن معاملة النساء، ولا يعرف أى أحاديث تحض النساء على حسن معاملة الرجال.
وتبين لى من أول لقاء نظرته المادية إلى الحياة، حيث سألنى عن مرتبى، وما إذا كان بحوزتى مبلغ ثلاثين ألف جنيه لتوفير مستلزمات الزواج، وكلما تمادى هو وزوجته فى الحديث معى، تكشفت لى صفات جديدة فيهما، وفى الأسرة كلها بالتبعية، فالناس فى عرفهم يكرهونهم، وهم فقط الذين يحبون بعضهم، ولذلك لا تجمعهم أى صلات إنسانية أو اجتماعية مع الآخرين حتى أقاربهم خصوصا من ناحية الأب الذى قاطع كل أخوته، وأمه وظل بعيدا عنها إلى أن ماتت رحمها الله.
وجاءت العروس وجلست معى، ووجدتها متوسطة الجمال، وهى كما يقولون حبيبة أمها وأبيها وأخوتها، وتحدثت معها فى أكثر من موضوع، فلاحظت أنها فارغة
العقل ولا تتمتع بأى قدر من الثقافة، أو حتى تعرف شيئا عن القراءة والاطلاع، وأن شخصيتها ذائبة تماما فى شخصية أمها الآمرة الناهية التى تختار لها كل شىء حتى الملابس، وهى صديقتها الوحيدة!
وتغاضيت عن هذه الملاحظات متصورا أنه من الممكن تداركها، وأعلنا الخطبة، ولم نتقارب كثيرا خلالها برغم أنها استمرت عاما تقريبا، وكنت أسافر إلى عملى بإحدى المحافظات النائية لمدة شهرين، وأعود فى اجازة لفترة تتراوح بين أسبوع وعشرة أيام، ولم أشعر خلال غيابى بالانجذاب نحوها أو أحس بالشوق لرؤيتها، وأوصلنى إلى هذه الحال ما لمسته أيضا من أبيها الذى ينظر دائما إلى المسائل المادية وحدها، فلقد كرر سؤاله لى، هل ستستطيع توفير حياة مريحة لها مثل المستوى الذى تعيش فيه؟.. وتعجبت من سؤاله، فهم يعيشون فى منزل ريفى مقام على أرض زراعية بالمخالفة لقوانين البناء، ويعيشون حياة عادية، ولا يظهر عليهم المستوى الذى يتحدث عنه... وأدهشنى أن تكون هذه نظرة أسرة فتاتى إلى المال دون أن يكون لديهم أى احساس بالانسان والمشاعر والألفة والمودة والراحة النفسية، فمادام المال متوافرا، فلا شىء يهمهم بعد ذلك!.
وهكذا اتضحت لى جوانب سلبية عديدة فى طبيعة هذه الأسرة على مدى عام من الخطبة لكنى تجاوزتها، واتممت ارتباطى بفتاتى!... وقد تسألنى يا سيدى : ما الذى دفعك إلى هذه الزيجة، وكل الشواهد تؤكد أنها مرشحة للفشل؟.. فأقول لك : أننى أطرح على نفسى هذا السؤال ليلا ونهارا، ويؤلمنى أشد الألم أننى لا أجد له إجابة واضحة.. وحاولت رأب الصدع كلما حدثت خلافات بيننا، وعلى مدى عام ونصف العام قدمت تنازلات عديدة، أملا فى أن تتحسن الأحوال حتى لا أهدم الأسرة التى كونتها بالجهد والعرق، ولكنها تهدمت بفعل المشكلات التى لاحقتنى بها زوجتى، والتى بدأتها بعد شهر واحد من الزواج، إذ عزفت عن التعامل مع أهلى، ورأت أنهم أناس سيئون، خاصة أمى، وساعدتها على ذلك أمها، إذ كانت تبلغها بتقرير يومى عن كل كبيرة وصغيرة تحدث بيننا، وتنتظر تعليماتها لتعرف كيف تتصرف معى!... ومن بين ما فعلته أنها أصرت على أن تقضى أيام وجودى فى العمل عند أهلها، وتأتى إلى بيتنا يومى الخميس والجمعة فقط من كل أسبوع.. وبعد عام رزقنا الله بطفل جميل فرحت به كثيرا، وتصورت أنها بقدومه سوف تتغير إلى الأفضل بعد أن أصبحت أما، لكنها تمادت فى موقفها، وتركت البيت خمس مرات، آخرها يوم مناقشتى رسالة الماجستير، إذ لم أجدها بعد عودتى من المناقشة وحصولى على الدرجة العلمية بدلا من أن تفرح لى، وتشجعنى على الاستمرار فى مشوارى الناجح، ولما اتصلت بها ردت بأنها لن تعود إلىّ إلا بعد أن استأجر لها شقة فى قريتهم لتكون بجوار أمها! فرفضت طلبها غير المنطقى، إذ لم أجد له مبررا، فأصرت على موقفها، فلجأت إلى المعارف لتقريب المسافات بيننا، فلم يوافق أهلها على أى حلول سوى هذا الحل الذى ليس له أى مبرر، واستنفدت معهم كل محاولات الصلح، فعرضت عليهم الانفصال وديا بعيدا عن المحاكم مع إعطائها كل حقوقها المادية، لكنهم رفضوا وأصروا على أن (يجرونى) إلى المحكمة حسب تعبير والدها سامحه الله!.
وبدأت مرحلة جديدة من العذاب معها أمام محكمة الاسرة لكى أرى ابنى الذى حرمونى منه عاما كاملا، وبعد جلسات ومشاوير وبهدلة قضت لى المحكمة برؤيته لمدة ثلاث ساعات يوم الجمعة من كل أسبوع فى مركز شباب القرية، لكنهم نفذوا قرار المحكمة حسب مزاجهم.. مرة يأتون بالطفل، ومرات يتجاهلونى، فأذهب إلى مركز الشباب وأجلس بالساعات ولا يحضر أحد!.. وإذا جاءوا به يتركوه بصحبتى ساعة واحدة تحت رقابة جدته الصارمة! وتحاول أن تتشاجر معى، ويعلو صوتها علىّ أحيانا بألفاظ أخجل من أن أذكرها، فاتجاهلها وأبدو كأنى لم أسمعها حرصا على نفسية ابنى الذى بلغ الآن ثمانى سنوات، وبرغم سنه الصغيرة، فإنهم يروون له الحكاية من جانبهم، ويبثون الأكاذيب فى نفسه، ويتناسون أنهم يدمرونه ويجعلونه إنسانا معقدا!.
وقد تركته أمه فى رعاية جدته، وسافرت أكثر من مرة طمعا فى جمع المال، ولا يعنيها تربية ابنها مادامت تقوم بالواجب المادى نحوه، وجاءتنى أخبارها من المعارف بأنها تسعى للزواج من رجل تخطى سن الخمسين، وأولاده فى الجامعة وتنوى السفر معه إلى الخارج، وهذا لا يعنينى، فمن حقها أن تتزوج وتعيش حياتها بالطريقة التى تروق لها، لكن لتترك لى ابنى لكى أربيه، وللأسف الشديد، فإن قانون الرؤية العقيم يقول إنه فى حالة زواجها تسقط عنها الحضانة لتذهب إلى أمها!.
إننى من الناحية الأسرية أعيش حياة مستقرة فلقد تزوجت وأنجبت، ولا ينغص علىّ معيشتى إلا عدم وجود ابنى معى... صحيح أنه لا ينقصه شىء، وأؤدى له كل حقوقه المادية التى قررتها المحكمة، وأزيد عليها الكثير من الملابس والأدوات المدرسية والمصاريف الشخصية، ولكنى مازلت فى نظرهم (الجلاد) وهم (الضحية)، ويحز فى نفسى كثيرا أن أسمع ابنى وهو يقول (أنا بحب الفلوس قوى، وهى أهم حاجة فى الدنيا).. وهذا ليس كلام أطفال، ولكنه السم الذى تبثه فيه أمه وجدته!.
ولقد توفى شقيق مطلقتى فى ريعان شبابه، نتيجة حادث أليم تعرض له، وتأثرت لرحيله كثيرا، وتصورت أن مصابهم الجلل سوف يغير نظرتهم إلى الحياة، لكنهم لم يتزعزعوا عن موقفهم، وازدادوا ظلما لى، وتباعدت المرات التى يأتون فيها بابنى إلى مركز الشباب الذى نلتقى فيه.
إن الكلمات والحلول الوردية التى تنصح المطلقة وأهلها بتغليب مصلحة الطفل على دوافع الانتقام والكراهية الناجمة عن الخلافات والقضايا، لن تقدم أو تؤخر شيئا، فبعد الطلاق يتعامي الأهل عن قول الله تعالى (ولا تنسوا الفضل بينكم) ويعتبرون الأب عدوا بالمعنى الحرفى للكلمة، ويتفننون فى الكيد له والانتقام الأعمى منه، حتى لو خالفوا الشرع والضمير والدين، وكان ذلك على حساب الطفل الذى لا ذنب له فى أخطاء أبويه.
ومنذ بداية مشكلتى قبل سبع سنوات، وأنا أسمع عن تقنين الرؤية وتشريع الاستضافة، ولم أجد شيئا ملموسا على أرض الواقع، ويخرج من جانب الأم من يقولون إن الأب سيخطف الطفل لو استضافه، ولن يعيده لأمه، فهل هذه حجة؟.. وهل عجز رجال القانون عن وضع الشروط التى تكفل حقوق الطرفين فى تربية أبنائهما؟... أليس من حق الأب التواصل الحقيقى مع ابنه بالمعيشة معه لفترة من الوقت بدلا من أسلوب زيارة الأندية (العقيم)؟!
وتجدر الإشارة إلى أن القانون يقول فيما يتعلق بالزيارة إن أهل المطلقة إذا لم يحضروا الطفل لكى يجلس مع أبيه فى المكان الذى حددته المحكمة ثلاث مرات، عليه تحرير محضر بذلك، ثم يرفع دعوى فى المحكمة، فينذر القاضي الأم بإسقاط الحضانة عنها لو تكرر ذلك (أى اننا ندور فى حلقة مفرغة).
إن الوفاق بين الأب والأم بشأن أبناء الطلاق أمر مستحيل، ولابد من قانون صارم ملزم للطرفين يفند حقوق وواجبات كل منهما تجاههم حتى ينشأوا نشأة سوية، مثل أبناء الأسر المستقرة، وهذا ما تقوله تجارب من تعج بهم محاكم الأسرة.. أليس كذلك؟.
ولكاتب هذه الرسالة أقول :
عندما تستحيل العشرة بين الزوجين يصبح الطلاق هو الحل الوحيد لمصلحة الطرفين، ففشلهما فى الحياة الأسرية يترتب عليه أحد أمرين، إما استمرارهما معا مع وجود النكد وسوء المعاشرة والشقاق والنزاع، وإما الافتراق بالانفصال... والحقيقة أن الحل الثانى هو الأصح، وأراه (المحطة النهائية) التى ستصل إليها علاقتهما إن عاجلا أو آجلا، فهذه هى النتيجة الطبيعية للحياة الزوجية التى تقوم على خلافات عميقة لا يرجى حلها، كما فى حالتك.. ولقد كان بإمكانك منذ البداية ألا تكمل هذه الزيجة، فوفقا لروايتك كانت الشواهد كلها تؤكد أن نمط حياة أسرة فتاتك لا يتناسب مع طريقة تفكيرك، وقناعاتك الشخصية، بدليل أنك عددت الملاحظات حول أسلوب معيشتها، ونموذج الأب الذى وصفته بأنه ضعيف الشخصية، وأن زوجته هى التى تتولى تسيير الآمور فى الأسرة بمزاجها، وأن الكل يأتمر بأمرها والمادة تسيطر على تفكيرهم، حيث تحتل المرتبة الأولى على ماعداها من عوامل إنسانية واجتماعية، وكان طبيعيا أن تنتهى علاقتك بزوجتك إلى الطلاق لأنها قامت على اساس هش، فالواضح أنك أردت إتمام الزواج منها رغبة فيها حتى لو ادعيت إحساسك بغير ذلك خلال فترة الخطبة، وأملا فى أن يتحول سلوكها إلى الخط الذى تريده، وأن تتخلى عن تبعيتها لأمها، فلما لم يتحقق لك ما كنت تبغيه.. لجأت إلى الانفصال بعد إنجاب طفل هو الآن ضحية لتفكيرك الخاطئ، وزيجتكما الفاشلة.
وبالرغم من أن الطلاق كان هو الحل الذى لا مناص منه، فانكما افتقدتما (الطلاق الناجح) الذى يستند إلى ترتيبات خاصة قبل الانفصال وبعده بشأن ابنكما دون تصعيد الخلافات، وتأزيم العلاقات، وشحن نفسية الطفل بالمشاعر السلبية.. وحتى الآن وبرغم مرور سبع سنوات على طلاقكما، فإنه مازال غائبا عنكما ما جاء بالقرآن الكريم فى ذلك حيث يقول تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) وقال أيضا فى حق المطلقين (ولا تنسوا الفضل بينكم)، كما أشرت فى رسالتك.. والواجب على جدة طفلك وأمه، وعليك وعلى كل الأهل من الطرفين، ألا يسىء أحدكم إلى الآخر أمام الطفل، بل وعلى الأطراف أن تذكر بعضها بالخير، فأى كلام مسىء يسبب خللا فى التوازن النفسى للطفل، كما أن تدليل الأب أو الأم له بصورة مبالغ فيها من أجل استقطابه يفسده ويسلمه إلى طريق الهلاك.
والحقيقة أن نظام الرؤية لا يفيد (المحضون) فى شىء، فساعة واحدة يقضيها الطفل مع أبيه لا تنعكس عليه بنتيجة إيجابية تذكر، إذ لن يستطيع الأب أن يقدم له أى دعم معنوى أو تربوى خلال هذه الساعة، ويجب على الأقل أن يقضي معه اليوم بأكمله، أو أن يبيت الطفل عنده ليلة كل أسبوع، فينهل من حنان أبيه وعطائه، ويتربى بشكل سليم، ويتشكل داخليا بصورة سوية.
من هنا فإن على مطلقتك أن تراجع موقفها بشأن التعامل مع طفلكما، من أجل بناء التوازن النفسى والتربوى لديه على أسس سليمة، وأرجو ألا يلجأ أحدكما إلى تشويه الآخر أمام الطفل، فعمره الآن ثمانية أعوام وهي السن التى يتكون فيها وعيه، وإدراكه لما حوله، ولاشك أن الإساءة إلى أحدكما فى نظره قد يترتب عليها انهيار نفسيته وفقدانه إلى الأبد.
والوفاق بشأن الطفل ليس مستحيلا إذا اردتما ذلك، فيتنازل كل منكما عن بعض شروطه التى يحاول أن يفرضها على الآخر، وتتوصلان إلى حل وسط يكفل تنشئته بينكما، ولا يشعر بوجود فارق بينه، وبين أخوته من أبيه، أو إخوته من أمه إذا تزوجت بآخر، ورزقت منه بأولاد، فبقليل من الإدراك السليم تستطيعان العبور به إلى بر الأمان... والله المستعان.