أحمد البرى
قــــــــــاهرة المستـــــــــــحيل
هزنى نداؤك فى بريد الجمعة إلى الأبناء بأن يكتبوا رسائل إلى أمهاتهم بمناسبة حلول عيدهن، فقررت أن أكتب إليك عن أم تختلف عن كل الأمهات.. أم من طراز خاص قاست الأمرين فى مشوارها مع الحياة، ولم تضعف أو تلين بالرغم من المصاعب الجمة التى اعترضت مسيرتها، وظلت كالطود العظيم فى تحديها ما أصابها من آلام...
إنها أختى التى تكبرنى بعدة سنوات، وعانت ظروفا صحية صعبة منذ نعومة أظافرها، حيث أصيبت بشلل الأطفال، واعوجاج فى العمود الفقري، ولاحظ أبى وأمى أن تركيبة جسمها تختلف كثيرا عن الطفلة الطبيعية، فحملاها إلى مستشفى معروف، ففحصها الاستشاريون، وأجرى لها أطباء الجراحة العديد من العمليات بالقدم والعمود الفقري، وانتهت بها الحال إلى تركيب عمود بلاتين يخترق ظهرها، وجهاز حديدى وعكازين تستند إليهما، ولم تكن تسير خطوات معدودة حتى تقع على الأرض، مرة من تلقاء نفسها، ومرات نتيجة اصطدام الأطفال بها، فيساعدها المارة على الوقوف على قدميها من جديد،وعندما بلغت سن المدرسة اشترى لها أبى مقعدا متحركا صار رفيقها فى كل تحركاتها داخل البيت وخارجه، وأقبلت على المذاكرة والتحصيل بنهم شديد ورغبة فى إثبات وجودها، وحققت تقدما ملحوظا فى الدراسة، وحصلت على الثانوية العامة بمجموع كبير أهلها للالتحاق بكليات عديدة، فاختارت كلية الآداب جامعة عين شمس، وهنا ظهرت عقبة جديدة، وهى كيف تنتقل إلى الجامعة يوميا، فطرقنا باب جمعية الوفاء والأمل، وكان القائمون عليها عند مستوى المسئولية، إذ وفروا لها (باص) بالكرسى المتحرك، ولم يتوانوا عن الحضور إليها صباح كل يوم، لأخذها إلى الكلية ثم إعادتها إلى المنزل بعد انتهاء المحاضرات.. وهو جهد عظيم لن أنساه ما حييت لأولئك الأوفياء.
ومضت أختى فى مشوارها الذى أذهل كل من يعرفون وضعها، فحفظت القرآن الكريم كاملا تلاوة وتجويدا، وعلمته للمئات من الفتيات بالمنطقة التى نقطن بها مؤمنة بأن (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) وعشنا فى تلك الفترة ظروفا عصيبة، إذ توفى أبى وتبعته أمي، وجزعنا لفراقهما، وسرعان ما استعادت أختى قواها وعزيمتها فاحتوتني، وصارت لى برغم عجزها الأب والأم والصديقة والأخت، وكل شيء فى الحياة.. وجاءنى شاب من أهل المنطقة طالبا يدي، فتولت هى المهمة كاملة بنفسها، وأشرفت على إعداد عش الزوجية، ولمست فى خطواتها معى لمسة رضا ونظرة حنان وابتسامة رقيقة لم تفارق شفتيها، مع أنها حرمت من أن تكون عروسا لظروفها الصحية.. وكان الله معها، إذ أيدها بنصر من عنده والتحقت بوظيفة فى نفس كليتها، وتسلمت عملها فور تخرجها أمينة بمكتبة الكلية.. وكانت مهمة (الباص) المخصص لها قد انتهت فظهرت عقبة المواصلات من جديد، وإذا بنا نفاجأ بمن يرسل لها سيارة مجهزة طبيا حتى تتمكن من الاعتماد على نفسها، جزاه الله كل خير، وكعادتها سارت فى عملها بخطى ثابتة وكلها إرادة وعزيمة على النجاح... ولم تكتف بذلك فكانت لها إسهامات فى مجال رياضة المعاقين، من خلال فرع الشباب والرياضة الخاص بهم، وخاضت جولات عديدة فى رمى (الجلة) والجرى بالكرسى المتحرك، وفازت بمراكز متقدمة فى المسابقات التى شاركت فيها وسافرت إلى دول أوروبية كثيرة بمؤازرة من اثنوا على موهبتها ورأوا أن بإمكانها تقديم الكثير فى هذا المجال أيضا..
وذات يوم أحست بتعب شديد، فاستدعينا لها الطبيب، وبعد الكشف والفحص أبلغنا بإصابتها بمرض السكر، فسمعت الخبر، ولم تتوقف عنده واحضرنا لها حقن الأنسولين، وخضعت يوميا لجرعاته التى لا تنتهى صابرة على هذا الابتلاء الجديد، ولم تزدها آلامها إلا راحة وطمأنينة، واقتربت من أبنائى وصارت لهم ولى أيضا بمثابة الأم التى ترعى صغارها وتخشى عليهم من (الهواء) كما يقولون.. وامتدت أمومتها وحنانها إلى كل الأطفال الذين تعرفهم وحرصت على شراء الحلوي، ووضعها فى حقيبتها ثم توزيعها على من يقابلها صغارا وكبارا، فى مشهد متكرر يغلفه الحب وتكسوه روح الدعابة التى لم تفارقها لحظة واحدة، وإننى أعجز عن وصف لفتاتها الإنسانية، وهى تحاور الأطفال، وتناقش الجيران فى المسائل العامة، وتضع معهم الحلول لمشكلاتهم الخاصة.
وبرغم هذا القلب الكبير الذى احتوى الجميع، فإن هناك صنفا من البشر ليست لديهم مشاعر، ولا أحاسيس، أو قل هم كالجماد، وربما أسوأ منه باعتبار أن الجماد لا يضر ولا ينفع.. أما هؤلاء فلا يراعون الله فى أعمالهم، ولا فى سلوكهم.. ونالت أختى من بعضهم أذى كثيرا.. هل تتصور يا سيدى أن مديرها فى العمل لم يكن يعطيها حوافزها كاملة، كما يعامل من هم أقل منها جهدا وكفاءة، بل وموقعا فى العمل بدعوى أنها معاقة، وكأن الإعاقة سبة فى جبين من يعانيها.. ولم يدرك ذاك المدير قيمة أختي، ولم يراع الله فيها، ولم يختلف عنه بعض الجيران قساة القلوب الذين تعمدوا إلقاء فضلات الطعام للقطط تحت شباك حجرتها، وأحيانا يلقون القاذورات على كرسيها المتحرك، ولما أقمنا مزلقانا بسيطا أمام باب المنزل لكى تتمكن من الدخول بالكرسى إليه فوجئنا فى الصباح بإزالته بحجة أنه استقطع مساحة من الشارع، ولا يتمكن من (ركن) سيارته... ولم يغير هذا السلوك شيئا من شخصيتها الحنونة والعطوفة وهدوئها المعهود، ولم تنطق بكلمة واحدة تعليقا على ما فعله هؤلاء بها، وأوكلت أمرها إلى خالقها... ثم داهمها مرض الكبد وتدهورت حالتها بشكل سريع وحدثتنى أنها تريد أداء العمرة، فأشفقت عليها من التعب فى ظل ظروفها المرضية لكنها أصرت على السفر كعادتها فى كل خطوات حياتها... وحصلنا لها على التأشيرة بعد اتخاذ الترتيبات اللازمة لمن تعانى ظروفها، وسافرت إلى الأراضى المقدسة واعتمرت، وعادت إلينا بعد عشرة أيام، وقد بدا على وجهها نور لافت لنظر كل من يراها، ووجدناها تردد (سبحان الله والحمد لله) والدموع تترقرق فى عينيها، وقد التف حولها أبنائى وأبناء الجيران، وهى جالسة على كرسيها، وأنا أنظر إليها، وأتأمل وجهها الملائكى بينما يمر بذاكرتى شريط حياتها الحافل بالتحدى وقهر المستحيل.. ولم تمض دقائق حتى فاضت روحها إلى بارئها وهى بين أيدينا وأمام ناظرينا.
إنها حاضرة فينا على الدوام وفضلها ثابت علينا ويطالبنا دائما وبرقة الأمومة أن نذكرها ونتذكرها ولا ننساها... وكيف لنا أن ننسى من ملأت حياتنا بشرا وسرورا، وكانت لنا هادية إلى طريق الحق والعمل والإيمان..
وإننى استعيد الآن كلمتها الأخيرة لأبنائى (تذكّروني).. وكأن النسيان هو أقسى ما تخشاه منهم، فهم أبناؤها الذين كرست لهم حياتها، وكانت تتصدى لى إذا عنفت أحدهم وتأخذه فى حضنها وتربت على كتفيه، وتنصحه بأن يفعل كذا، ولا يفعل كذا فيستمع إليها باهتمام وينفذ ما أشارت به عليه باقتناع تام.. وها أنا يوم عيد الأم أجمع أبنائى ونقرأ جميعا الفاتحة لروحها، ونبتهل إلى الله أن يسكنها فسيح جناته، فلقد عاشت حياتها راضية بالقليل، سعيدة بالزهيد، وحملت ما استطاعت من أثقال الحياة، ولم أر على ملامحها أبدا علامة اليأس، وظل الأمل يكسو وجهها إلى النهاية.
وأرجو أن تدعو لها بالرحمة وأن يسكنها الله فى الفردوس الأعلي، ولعل من عاملها بجفاء أو بخسها حقها يراجع نفسه، ولا يكرر فعلته مع من يعانون نفس ظروف أختى الراحلة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
< ولكاتبة هذه الرسالة أقول:
لقد تجسدت كل معانى الأمومة فى أختك الراحلة فظلت لكل من حولها مصدر الحنان والرعاية والعطف والعطاء بلا حدود، واحتوت الجميع وزرعت فيهم بذور الأمن والطمأنينة وهدتهم إلى طريق الإيمان والهدوء النفسي، وبرغم مرضها وعجزها الذى يقهر الرجال، فإنها لم تهتز وواجهت أقدارها بقوة وشجاعة، وكانت إشراقة النور فى حياتكم ومدرسة الحياة مفتوحة الأبواب لكى يتعلم فيها الراغبون ليلا ونهارا، ولم يتوقف برنامجها التربوى ومنهجها الفطرى فى التعامل مع الآخرين ساعة واحدة، واستطاعت أن تكسب القلوب بالحب والفهم، فلمس فيها من عرفوها نقاءها ومعدنها الأصيل، ولأن لكل قاعدة استثناء فإن الاستثناء هنا بعض صغار العقول، ومتحجرو القلوب الذين نظروا إلى الحالة الصحية التى تعانيها نظرة دونية فلم يقدروها حق قدرها، ومنهم ذاك المدير الذى بخسها حقها فى الحوافز برغم أن عطاءها يفوق عطاء الأصحاء، وكذلك بعض الجيران الذين عبثوا بأشيائها وأزالوا التسوية البسيطة لمدخل المنزل لكى تتمكن من إدخال كرسيها الذى لا تستطيع التحرك بدونه وأجبروها على تركه أسفل المنزل فى الشارع، وهؤلاء صنف من البشر تعاموا عن ان الحساب قادم يوم يقفون أمام الله ليلقوا جزاء ما صنعوا وما اقترفوا من شرور وآثام .. يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، فلقد غرتهم الدنيا بأشياء بسيطة، ونسوا أن متاعها زائل، ولا تساوى عند الله جناح بعوضة، وأنى اسأل هؤلاء وأمثالهم من المنتشرين فى بقاع الأرض، لماذا كل هذا الحقد، وهذه التصرفات اللاإنسانية التى لامبرر لها على الإطلاق.. ألا تدرون أن الله يمهل ولا يهمل، وأن الذين ظلموا سوف يواجهون سوء المصير وسيحصدون جزاء صنيعهم هذا فى الدنيا قبل الآخرة فلا يغتر أحد بقوته ولا بسلطانه؟!
وما أكثر الأصحاء الذين عاشوا فى الدنيا وغادروها دون أن يتركوا أثرا فيها، بينما من تعرضوا للابتلاء تركوا بصمات شاهدة على عطائهم، وذكرى جميلة تتناقلها الأجيال، مثلما فعلت أختك الراحلة، وصارت العيوب التى يراها البعض فيمن تعرض للابتلاء مزايا لا يدركها إلا العاقلون وفى ذلك يقول الشاعر بشار بن برد
وعيرنى الأعداء والعيب فيهمو
وليس بعار أن يقال ضرير
إذا أبصر المرء المروءة والتقى
فإن عمى العينين ليس يضير
رأيت العمى أجرا وذخرا وعصمة
وإنى الى تلك الثلاث فقير
فالإعاقة تمثل دائما حافزا على التحدي، وتزيد العقلاء قوة فلا ينهارون إذا صادفتهم عقبات، بل يتخذون منها نقاط انطلاق جديدة، وهذا ما فعلته أختك التى حققت نجاحات كثيرة، فحصلت على شهادتها الجامعية، وعملت فى وظيفتها التى التحقت بها فور تخرجها وظلت بها حتى اللحظة الأخيرة التى فارقت فيها الحياة وحفظت القرآن الكريم وعلمته لأبنائك وأبناء جيرانكم، وحصدت بطولات رياضية.. ومثلها تستحق أن تكون المثل الأعلى لكل من اقترب منها، فهى مثار فخر واعتزاز ومنهل للعطاء الذى لا ينضب أبدا ويتعلم منه الأبناء الإيثار، وتستفيد منه الأمهات الطريقة المثلى للتربية ومواجهة المحن والشدائد.
إن الإيمان بالله والعمل الصالح هما عماد الحياة الطيبة السعيدة وأحسب أن اختك الراحلة قد أدركت ذلك بفطرتها منذ مطلع حياتها، فآمنت بأن كل شيء بقضاء وقدر وأن ليس للإنسان إلا ما سعي، فدبت فى الأرض، ولم تلق بالا للمصاعب ولا للعوائق، وتحملت أقدارها بشجاعة من منطلق أن من لا يصبر اختيارا سوف يصبر اضطرارا، وهنا يقول المتنبي:
رمانى الدهر بالأرزاء حتى
فؤادى فى غشاء من نبال
فصرت اذا اصابتنى سهام
تكسرت النصال على النصال
وهان ولا أبالى بالرزايا
لأنى ما انتفعت بأن أبالي
فليكن عيد الأم فرصة لتذكير أولادك بخالتهم التى كانت أما لم يقل عطاؤها لهم عنك وليتخذوها قدوة فى العمل الصالح والدأب فى الحياة، وأسأل الله لها حسن الجزاء، وفقك الله إلى طريق الخير والتوفيق والسداد.