في حكم التلقيح الاصطناعيِّ
السؤال:
ما حكمُ اللجوءِ إلى التلقيح الاصطناعيِّ لمن تَأَخَّرَ إنجابُه مدَّةً طويلةً أو ثَبَتَ عُقْمُه الدائم؟ وهل يصحُّ قياسُه على العمى والعَرَج؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فهذه المسألةُ عند الفقهاء ترجع إلى مدى اعتبارِ العقمِ ضررًا:
• فمَنِ اعتبره كذلك أباحَ اللُّجوءَ إلى طَلَبِ علاجه كغيره مِن الأمراض كالعمى والعَرَج بجامعِ كونه إصابةً ينتج عنها خللٌ وظيفيٌّ، وهو ما قرَّره المَجْمَعُ الفقهيُّ الإسلاميُّ في دورته الثالثةِ المُنْعَقِدة في عمَّان (صفر ١٤٠٧ﻫ)، موضِّحًا أنَّ فيه طُرُقًا جائزةً وأخرى محرَّمةً شرعًا، وممَّا قرَّروه أنه لا حَرَجَ في اللجوء إلى تلقيحِ بُوَيْضةِ الزوجة بمَنِيِّ زوجها تلقيحًا اصطناعيًّا ثمَّ إعادتِه إلى رَحِمِ الزوجةِ ليتمَّ الحملُ عاديًّا عند الحاجة، مع التأكيد على ضرورةِ الأخذ بكُلِّ الاحتياطات اللازمة.
• أمَّا مَن لم يَعْتَبِرِ العقمَ ضررًا فإنه لا يرى إباحةَ علاجِه لانتفاءِ الضرورة الشرعية والحاجةِ الشديدة إلى علاجه.
والذي تميل إليه نَفْسي أنَّ العقم يمكن اعتبارُه ضررًا نَفْسيًّا يُوَلِّد آلامًا عميقةً وَسَطَ الأسرة الخالي بيتُها مِن الأطفال، وتُجاه كُلِّ ألمٍ تكمن الضرورةُ والحاجة؛ إذ «الأَمْرُ إِذَا ضَاقَ اتَّسَعَ».
غيرَ أنَّ الذي يُعَكِّرُ على الحكمِ بالجواز على عمليَّاتِ التلقيح الاصطناعيِّ خطورةُ احتمالِ الخطإ فيها وترتُّبُ اختلاطِ النسب بالتَّبَع؛ إذ لا يُؤْمَن أَنْ يدخل في العمليةِ ما هو محظورٌ كأَنْ يُضِيفَ المختصُّ في المخبر إلى مَنِيِّ الرجل الضعيفِ مَنِيًّا آخَرَ ليُقَوِّيَهُ، أو يغيِّرَ بعضَ مقوِّماتِ بُوَيْضةِ الزوجة بإحلالِ مقوِّماتٍ أخرى لبويضةٍ أجنبيَّةٍ قَصْدَ إصلاحها وطمعًا في رَفْعِ نسبةِ النجاح، علمًا أنَّ التنافس بين المراكز المخبرية المتعدِّدة في تحسينِ نسبة النجاح وطَلَبِ الربح والتجارة فيه لا يُسْتَبْعَدُ مِن ورائه ـ إطلاقًا ـ وقوعُ إهمالاتٍ وتجاوزاتٍ؛ الأمرُ الذي يؤدِّي إلى المساس بعِرْضِ الرجل ودِينه؛ فهذه المَفْسدةُ الشرعية مُرْتبِطةٌ أساسًا بعدالةِ المختصِّين المُباشِرين لعملية التلقيح الاصطناعيِّ ومقدارِ الأمانة وحجمِ الثقة الموضوعة فيهم، فضلًا عن تَكَشُّفِ المرأةِ أمامَ الطبيبةِ أو الطبيب الذي غالبًا ما يقوم بنَفْسه بقَذْفِ البويضة الملقَّحة بحقنةٍ في جهاز المرأة التناسليِّ.
ولا يخفى أنَّ مِثْلَ هذه المَفاسِدِ مِن العسيرِ الاحترازُ منها واتِّخاذُ الاحتياطاتِ اللازمةِ لها، وإذا تَعَذَّرَ ذلك عُلِمَ أنَّ مصلحة الإنجاب عُورِضَتْ بمَفْسَدَةِ اختلاط الأنساب الواجبِ تقديمُها حالةَ التعارض عملًا بقاعدةِ: «دَرْءُ المَفَاسِدِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَحْقِيقِ المَصَالِحِ».
ولا يخفى ـ أيضًا ـ أنَّ مِثْلَ هذه المَفاسِدِ غائبةٌ في المَقيسِ عليه وهو العمى والعَرَجُ؛ وعليه فلا يصحُّ القياسُ مع ظهور الفارق بينهما والطارئِ الذي يَلْتَبِسُ به أحَدُهما.
هذا، وإذا حَصَلَ له الولدُ بهذه العمليةِ التلقيحية وارتابَ في صحَّةِ نَسَبِه وخاصَّةً مع عَدَمِ شَبَهِ الولد بأصوله؛ فله أَنْ يُجْرِيَ التحقيقَ بالبصمة الوراثية لإزالةِ أيِّ شكٍّ يطرأ أو ظنٍّ يحوم(١).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١١ شعبان ١٤٢١ﻫ
الموافق ﻟ: ٨ نوفمبر ٢٠٠٠م
(١) انظر الفتوى (٤٦٣) الموسومة ﺑ: «في مشروعيةِ استعمالِ البصمةِ الوراثية في مَجَالِ التحقيق الجِنائيِّ والنَّسَب».