المحراب والمقصورة
السؤال:
إذا تقرَّر أنَّ المحرابَ بدعةٌ مُحْدَثةٌ وأنه ليس مِن المَصالِح المُرْسَلةِ فالمعلومُ أنَّ المحرابَ لا يتمُّ بناؤه إلَّا ببناءِ المقصورة في الغالب، وجريًا على القاعدة: «مَا أَدَّى إِلَى حَرَامٍ فَهُوَ حَرَامٌ» و«مَا لَا يَتِمُّ تَرْكُ الحَرَامِ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ»، فهل يقال: إنَّ بناءَ المقصورةِ الآنَ محرَّمٌ لغيره؟ أَفْتونا مأجورين، جزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعْلَمْ أنَّ المقصورة مِن التوابعِ المُلْحَقةِ بالمسجد، وهي حُجْرةٌ مبنيَّةٌ مخصَّصةٌ في مكانٍ مِن المسجد: ففيها يُحضِّر الإمامُ خُطَبَه ودروسَه غالبًا، ويجتمع فيها مع لَجْنَةِ المسجد والمؤذِّنين، وفيها يخلو بالمُتَخاصِمين ويُصْلِح بينهم، ونحو ذلك مِن المَصالِحِ والحاجيات.
وبناءُ المقصورةِ ليس مِن الأمور الضرورية في كُلِّ مسجدٍ، وإنما المَرْجِعُ في بنائها العُرْفُ والحاجةُ مِن جهةٍ، ولا يُشْتَرط ـ مِن جهةٍ أخرى ـ أن تكون في أوَّلِ المسجد أو تقييدُها بالمحراب؛ فإنْ كانَتِ المقصورةُ مقصودةً بالفعل مِن أجلِ تحقيقِ غَرَضٍ بِدْعيٍّ فحيلةٌ محذورةٌ شرعًا؛ لأنَّ «الْوَسِيلَةَ لَهَا حُكْمُ الْغَايَةِ»، و«النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ جَمِيعِ لَوَازِمِهِ وَأَجْزَائِهِ» كما تقرَّر في علمِ القواعد.
أمَّا إن بُنِيَتِ المقصورةُ ولم يَكُنْ للقائم بها غَرَضٌ ومَقْصِدٌ مِن ورائها سوى الحاجةِ والمصلحةِ المُقْتَضِيَةِ لها، فإن كانَتْ موجودةً فلا يجوز إحداثُ مقصورةٍ أخرى لانتفاءِ الحاجةِ ولأنه يؤدِّي إلى تضييقِ المسجد على المُصَلِّين يومَ اجتماع الناس، فضلًا عن كونِها مِن قبيلِ تحصيلِ الحاصل وتحصيلُه مُحالٌ، أمَّا إنِ انعدمَتْ فإقامتُها تُشْرَعُ في الحدود التي تُلَبِّي حاجياتِ أهلِ المسجد، وهذا كُلُّه مبنيٌّ على المَقاصِدِ والنيَّات عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى»(١)؛ فإن نوى التذرُّعَ بالمقصورة للوصول إلى ما لا يرضاه الشرعُ فإثمُه عليه، و«الأُمُورُ بِمَقَاصِدِهَا».
علمًا أنَّ المقصورةَ معدودةٌ مِن التوابعِ المُتَّصِلةِ بالمسجد اتِّصالَ قرارٍ؛ فيجوز الصلاةُ فيها، وبخاصَّةٍ عند ضِيقِ المسجد بالمُصلِّين(٢).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢٠ ربيع الثاني ١٤١٨ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٥ أوت ١٩٩٧م
(١) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «بدء الوحي» باب: كيف كان بدءُ الوحي إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟ (١)، ومسلمٌ في «الإمارة» (١٩٠٧)، مِن حديث عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه.
(٢) رُوِي أنَّ الحسن كان لا يصلِّي في المقصورة لأنها حَدَثَتْ بعد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في المساجد [انظر: «إعلام الساجد» للزركشي (٣٧٥)].