في تفسير المَلال
وحُكْمِه على الله تعالى
السؤال:
ما معنى حديثِ: «إِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فهذا الحديثُ ثابتٌ مِن روايةِ عائشةَ رضي الله عنها قالت: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي امْرَأَةٌ حَسَنَةُ الْهَيْئَةِ فَقَالَ: «مَنْ هَذِهِ؟» فَقُلْتُ: «هَذِهِ فُلَانَةُ بِنْتُ فُلَانٍ يَا رَسُولَ اللهِ، هِيَ لَا تَنَامُ اللَّيْلَ»، فَقَالَ: «مَهْ مَهْ، خُذُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَأَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ قَلَّ»(١)، وفي روايةٍ لمسلمٍ: «فَوَاللهِ لَا يَسْأَمُ اللهُ حَتَّى تَسْأَمُوا»(٢).
والمَلَالُ: هو اسْتِثْقَالُ الشيءِ ونفورُ النفسِ عنه بعد محبَّتِه، وهو يُفْضي إلى التركِ؛ لأنَّ مَن مَلَّ شيئًا تَرَكَه وأَعْرَضَ عنه.
وقد تَباينَتْ تفاسيرُ أهلِ العلم لمَعْنَى قولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «..فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا»، ومَرَدُّها إلى التحقيقِ في حرفِ «حتَّى» في الحديث:
• فمَنْ حَمَلها على انتهاءِ الغايةِ فسَّر معناها على وجهين:
الأوَّل: أنَّ اللهَ لا يقطع عنكم فَضْلَهُ حتَّى تمَلُّوا سؤالَه فتَزْهَدوا في الرغبة إليه.
الثاني: أنَّ اللهَ لا يترك الثوابَ والجزاءَ ما لم تَمَلُّوا مِن العمل؛ فكان ـ بهذا الاعتبارِ ـ معنى «المَلالِ»: التركَ؛ لأنَّ مَن مَلَّ شيئًا تَرَكه؛ فكنَّى بالمَلالِ عنِ التركِ لأنه سببُه؛ فسُمِّيَ ذلك مِن بابِ تسميةِ الشيءِ باسْمِ سبَبِه، ولو ثَبَتَ حديثُ عائشةَ رضي الله عنها مرفوعًا: «اكْلَفُوا مِنَ الْعَمَلِ مَا تُطِيقُونَ؛ فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ مِنَ الثَّوَابِ حَتَّى تَمَلُّوا مِنَ الْعَمَلِ»(٣) لَكان تفسيرًا لمعناهُ، «لكنَّ في سَنَدِه موسى بنَ عُبَيْدَةَ وهو ضعيفٌ» كما ذَكَرَ الحافظُ في «الفتح»(٤)، وقال في موضعٍ آخَرَ: «أخرجه الطبريُّ في تفسيرِ سورة المزَّمِّل، وفي بعضِ طُرُقِه ما يدلُّ على أنَّ ذلك مُدْرَجٌ مِن قولِ بعضِ رُواةِ الحديثِ»(٥).
• ومنهم مَن حَمَلَ «حتَّى» على معنَى «الواو»، ويكونُ التقديرُ: «لا يَمَلُّ وتَمَلُّون»؛ فنَفَى عنه المَلَلَ وأَثْبَتَه لهم.
• ومنهم مَن حَمَلَها على معنَى: «حين» أي: «لا يَمَلُّ اللهُ حين تَمَلُّون».
• وقد جَعَلَها بعضُهم بمعنَى: «إِنْ»، وتقديرُه: «إِنَّ الله لا يَمَلُّ وَإِنْ مَلَلْتُم»، وهو ما ذَكَرَه البغويُّ في «شرح السُّنَّة» وقال: إنَّ المَلالَ على اللهِ لا يجوز(٦).
ونَقَلَ الحافظُ في «الفتح» الاتِّفاقَ على أنَّ المَلالَ على اللهِ مُحالٌ(٧).
قلتُ: ينبغي تنزيهُ الله تعالى عن كُلِّ صفةِ عيبٍ أو نَقْصٍ مِن المَلل أو غيرِه، وإذا كانَتْ دلالةُ الحديثِ مُثْبِتَةً لوصفِ المَللِ على اللهِ تعالى فإنَّ المقصود به مَللٌ ليس كمَلَلِ المخلوق؛ لذلك يُحْمَلُ على وجهٍ يَليقُ بجَلالِه سبحانَه وتعالى مِن غيرِ أَنْ يَتضمَّنَ شيئًا مِن النَّقصِ أو العيبِ الذي يعتري حالَ الإنسانِ؛ ذلك لأنَّ الصفاتِ المذمومةَ مِن البشرِ لا يقتضي ذَمُّها منهم نَفْيَها عنِ اللهِ تعالى؛ جريًا على قاعدةِ أهلِ السنَّةِ والجماعة: أَنْ يُوصَفَ اللهُ تعالى بما وَصَفَ به نَفْسَه وبما وَصَفَتْهُ به رُسُلُه إثباتًا بلا تمثيلٍ، وتنزيهًا بلا تعطيلٍ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا شبيهَ له في ذاتِه ولا صفاتِه ولا أفعالِه، ولا يَلْزَمُ مِن تماثُلِ الشيئين في الاسْمِ والصفةِ أَنْ يَتماثلَا في الحقيقة؛ فلا يجوز أَنْ يُقَاسَ اللهُ بخَلْقِه؛ لأنَّ القياسَ إنما يكون للنظِيرَيْن، واللهُ سبحانَه لا نظيرَ له؛ فقَدْ يَحْسُنُ منه ما لا يجوز للبشرِ الاتِّصافُ به كالعظمةِ والكبرياءِ، وقد يَحْسُنُ مِن خَلْقِه ما يُنَزَّه عنه سبحانَه كالعبودية، قال الشيخ محمَّد بنُ إبراهيم ـ رحمه الله ـ: ««فإنَّ اللهَ لا يَمَلُّ حتَّى تَمَلُّوا»: مِن نصوص الصفات، وهذا على وجهٍ يَليقُ بالباري لا نَقْصَ فيه: كنصوصِ الاستهزاءِ والخداع فيما يَتبادرُ»(٨).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٢١ مِن المحرَّم ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٠ فبراير ٢٠٠٦م
(١) أخرجه البخاريُّ في «الإيمان» باب: أحبُّ الدِّينِ إلى الله عزَّ وجلَّ أَدْوَمُه (٤٣)، ومسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٧٨٥)، واللفظُ لأحمد (٢٥٦٣٢)، مِن حديث عائشة رضي الله عنها.
(٢) أخرجه مسلمٌ في «صلاة المسافرين» (٧٨٥) مِن حديثِ عائشة رضي الله عنها.
(٣) جاء في «السنن الكبرى» للبيهقي (٤٧٣٨): «وقال الشيخُ أبو بكرٍ الإِسماعيليُّ: قولُه عليه السلام: «فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» قال فيه بعضُهم: «لا يَمَلُّ مِنَ الثواب حتَّى تَمَلُّوا مِنَ العمل»».
(٤) «فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٠٢).
(٥) «فتح الباري» لابن حجر (٣/ ٣٧).
(٦) انظر: «شرح السنَّة» للبغوي (٤/ ٤٩).
(٧) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (١/ ١٠٢).
(٨) «الفتاوى والرسائل» لمحمَّد بنِ إبراهيم (١/ ٢٠٩).