شرف الدين البوصيري
شاعر سخر شعره لمدح أشرف خلق الله
من اشهر شعراء المدائح النبوية وهو شرف الدين البوصيري, شاعر من العصر المملوكي, اشتهر بنظم المدائح النبوية, ومن أشهر قصائده "البردة", هذه القصيدة التي شرحها وعارضها الكثير من الشعراء، وكانت ومازالت واحدة من أروع القصائد في مدح أشرف خلق الله رسولنا الكريم محمد "صلى الله عليه وسلم".
التعريف به
شاعرنا اسمه كاملاً محمد بن سعيد بن حماد بن عبد الله الصنهاجي البوصيري المصري شرف الدين أبو عبد الله، ولد عام 1212م – 608 هـ، بقرية دلاص إحدى قرى بني سويف في صعيد مصر، وترجع أصوله إلى إحدى قبائل البربر التي استوطنت جنوب المغرب الأقصى، ونشأ البوصيري وترعرع بقرية بوصير والتي استمد منها لقبه.
كان أول تعليم البوصيري القرآن الكريم الذي حفظه في طفولته، ثم تتلمذ على يد عدد من علماء عصره، نظم البوصيري الشعر صغيراً، وجرب أنواعاً من الشعر إلا انه مال إلى الزهد والتصوف فأتجه إلى المدائح النبوية، والشعر الصوفي.
شعر البوصيري
بلغت شهرة البوصيري الأفاق في نظم الشعر في المدائح النبوية، فظهرت قصائده مغلفة بالروح العذبة والمعاني الصادقة مع روعة التصوير والتعبير والتي أستلهمها من حبه للنبي الكريم "صلى الله عليه وسلم"، فجاءت ألفاظه دقيقة بديعة السبك والنظم، فكانت قصائده بمثابة مدرسة لشعراء المدائح النبوية.
وأمتاز شعر البوصيري بالرصانة والجزالة وأجاد في استعمال البديع، والبيان وغلبت على قصائده المحسنات البديعية، كما تميز شعره بالقوة والرصانة، وتأتي قصيدة البردة للبوصيري على رأس قصائد المدائح النبوية، والتي عارضها أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته "نهج البردة ".
انكب البوصيري على مذهب الصوفية، فاطلع على سير عدد من أربابها قديماً وحديثاً وغاص فيها، وتلقى الصوفية على يد أبي الحسن الشاذلي، ومدح الشاذلية في شعره، وقد غلب على الشعر في العصر المملوكي والذي ينتمي إليه البوصيري، المدائح النبوية والموضوعات الدينية، ومنظومات الزهد والتصوف.
أعْـنِي أَبـا الحَسَنِ الإِمامَ المُجْتَبَى مِـــنْ هَــاشِـمٍ والـشَّـاذِليَّ الـمَـوْلِدِ
إنَّ الإِمـــــامَ الــشَّـاذِلـيَّ طَــرِيـقُـهُ فِي الفَضْلِ واضحَةٌ لِعَيْنِ المُهْتَدِي
فـانْـقُـلْ ولـــوْ قَـدَمـاً عَـلَـى iiآثــارِهِ فـــإذَا فَـعَـلْـتَ فَـــذاكَ آخَـــذُ iiبـالْـيَدِ
قصة البردة
يقال عن تسمية هذه القصيدة "بالبردة" لأن المرض كان قد أشتد على البوصيري، وفي إحدى المراتسبب عندما كان نائماً رأى النبي "صلى الله عليه وسلم" وقد غطاه ببردته - عباءته – فأصبح وقد شفي مما هو فيه، وسميت هذه القصيدة أيضاً بالبرأة، والميمية لأنها تختتم قافيتها بحرف "الميم"، وفي هذه القصيدة يجمع كل أدواته الشعرية ويجمع همته لمدح خير خلق الله "محمد" صلى الله عليه وسلم، وقد شرح وعارض هذه القصيدة العديد من الشعراء.
ويبدأ البوصيري "البردة" بالأبيات التالية:
أمِــــنْ تَــذَكُّــرِ جِــيـران بِـــذِي iiسَــلَـمٍ
مَـزَجْـتَ دَمْـعـاً جَــرَى مِـنْ مُـقْلَةٍ iiبِـدَمِ
أمْ هَـبَّـتْ الـريـحُ مِــنْ تِـلْـقاءِ iiكـاظِمَةٍ
وأوْمَضَ البَرْقُ فِي الظلْماءِ مِنْ إضَمِ
فــمــا لِـعَـيْـنَيْكَ إنْ قُــلْـتَ iiاكْـفُـفـاهَمَتا
وَمـــا لِـقَـلْـبِكَ إنْ قُـلْـتَ اسْـتَـفِقْ يَـهِـمِ
أَيَـحْـسَـبُ الــصَّـبُّ أنَّ الــحُـبَّ iiمُـنْـكتِمٌ
مـــا بَــيْـنَ مُـنْـسَجِمٍ مـنـهُ iiومُـضْـطَرِمِ
لـولاَ الـهَوَى لَـمْ تُـرِقْ دَمْعَاً عَلَى iiطَلَلٍ
ولا أَرِقْــــتَ لِــذِكِــرِ الــبَــانِ iiوالـعَـلَـمِ
فـكـيـفَ تُـنْـكِرُ حُـبّـاً بـعـدَ مــا iiشَـهِـدَتْ
بـــهِ عـلـيـكَ عــدولُ الـدَّمْـعِ iiوَالـسَّـقَمِ
وَأَثْـبَـتَ الـوجِـدُ خَـطَّـيْ عَـبْـرَةِ وضَـنىً
مِــثْـلَ الـبَـهـارِ عَــلَـى خَـدَّيْـكَ وَالـعَـنَمِ
نَـعَمْ سَـرَى طَـيفُ مَـنْ أهـوَى iiفَأَرَّقَنِي
والــحُــبُّ يَــعْـتَـرِضُ الــلَّـذاتِ بــالألَـمِ
ويستمر في مدح الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم" في نفس القصيدة قائلاً:
مُــحَـمَّـدُ سَــيِّـدَ الـكَـوْنَـيْنِ والـثَّـقَـلَيْنِ
والـفَـرِيقَيْنِ مِــنْ عُـرْبٍ ومِـنْ iiعَـجَمِ
نَـبِـيُّـنَـا الآمِـــرُ الـنَّـاهِـي فـــلاَ iiأَحَـــدٌ
أبَّـــرَّ فِـــي قَـــوْلِ لا مِــنْـهُ وَلا iiنَــعَـمِ
هُــوَ الـحَـبيبُ الـذي تُـرْجَى شَـفَاعَتُهُ
لِــكـلِّ هَـــوْلٍ مِــنَ الأهــوالِ iiمُـقْـتَحَمِ
دَعــا إلــى اللهِ فـالـمُسْتَمْسِكُونَ iiبِــهِ
مُـسْـتَـمْسِكُونَ بِـحَـبْلٍ غـيـرِ مُـنْـفَصِمِ
فــاقَ الـنَّـبِيِّينَ فـي خَـلْقٍ وفـي iiخُـلُقٍ
وَلَـــمْ يُــدانُـوهُ فـــي عِــلْـمٍ وَلا iiكَــرَمِ
وَكـلُّـهُـمْ مِـــنْ رَسُــولِ اللهِ iiمُـلْـتَمِسٌ
غَـرْفاً مِـنَ الْبَحْرِ أَوْ رَشْفاً مِنَ iiالدِّيَمِ
ووَاقِـــفُــونَ لَـــدَيْــهِ عــنــدَ iiحَــدِّهِــمِ
مِـنْ نُـقْطَة العِلْمِ أَوْ مِنْ شَكْلَةِ الحِكَمِ
فــهْـوَ الـــذي تَــمَّ مـعـناهُ iiوصُـورَتُـه
ثــمَّ اصْـطَـفَاهُ حَـبـيباً بــارِىءُ الـنَّسَمِ
مُــنَـزَّهٌ عَــنْ شَـرِيـكٍ فــي iiمـحـاسِنِهِ
فَـجَـوْهَرُ الـحُـسْنِ فـيه غـيرُ iiمُـنْقَسِمِ
دَعْ مــا ادَّعَـتْهُ الـنَّصارَى فـي نَـبيِّهِمِ
وَاحْـكُمْ بـما شْـئْتَ مَدْحاً فيهِ iiواحْتَكِمِ
وانْسُبْ إلى ذانه ما شئْتَ مِنْ شَرَفٍ
وَانْـسُبْ إلى قَدْرِهِ ما شِئْتَ منْ iiعِظَمِ
فـــإنَّ فَـضْـلَ رســولِ الله لـيـسَ iiلــهُ
حَــــدُّ فــيُـعْـرِبَ عــنــه نــاطِـقٌ بِــفَـمِ
أجاد البوصيري الخط، وتعلم قواعد هذا الفن على يد إبراهيم بن أبي عبدالله المصري وكان واحداً ممن اشتهروا بتجويد الخط في مصر، شغل البوصيري عدد من الوظائف في القاهرة والأقاليم، فعمل في صناعة الكتب خلال فترة شبابه، ثم عمل ككاتب للحسابات بمدينة بلبيس بالشرقية، ووقعت بعض المصادمات بينه وبين المستخدمين المحيطين به فضاق بهم وبأخلاقهم فنظم عدد من القصائد هجاهم فيها وذكر فيها عيوبهم مما قاله:
ثَـكِـلْتُ طـوائِـفَ iiالـمُـسْتَخْدَمِينا
فَــلَـمْ أَرَ فِـيـهـمُ رَجُـــلاً أَمِـيـنـا
فَـخُـذْ أَخْـبَـارَهُمْ مَـنِّـي iiشِـفـاهاً
وَأنْــظِـرْنـي لأُخْــبِـرُكَ iiالـيَـقِـينا
فَـقَـدْ عَـاشَـرْتُهُمْ وَلَـبِـثْتُ iiفِـيهمْ
مَعَ التَّجْرِيبِ مِنْ عُمْرِي سِنينا
حَـوَتْ بُـلْبُيْسُ طـائِفَةً iiلُـصُوصاً
عَــدَلْـتُ بِــوَاحِـدٍ مِـنْـهُمْ iiمِـئِـينا
فُـرَيْـجِي والـصَّـفِيَّ iiوَصـاحِـبَيْهِ
أبَــا يَـقْطُونَ والـنَّشْوَ iiالـسَّمِينا
فَـكُـتَّـابُ الـشَّـمالِ هُــمُ جَـمِـيعاً
فــلا صَـحِـبَتْ شِـمالُهُمُ الـيَمِينا
وَقَـدْ سَرقُوا الْغِلالَ وما iiعَلِمْنا
كـما سَرَقَتْ بَنُو سَيْفِ الجُرُونا
غادر بعد ذلك البوصيري الشرقية إلى القاهرة، وافتتح كتاباً لتعليم الأطفال ثم مالبث أن غادره إلى الإسكندرية، وظل بها حتى أخر حياته، وبها تعرف على الشيخ أبا العباس المرسي، وتتلمذ على يديه وأقبل على طريقته الصوفية، وظل بالإسكندرية حتى وفاته.
المدح النبوي
أنكب البوصيري على قراءة السيرة النبوية الشريفة، ومعرفة أخبار ومواقف في حياة الرسول الكريم "صلى الله عليه وسلم"، ثم انطلق ينشد العديد من القصائد المميزة التي تجلى فيها حبه للرسول وبالإضافة لقصيدته الشهيرة "البردة" قدم القصيدة الهمزية التي لا تقل روعة عن "البردة" ويقول فيها:
كــيـف تــرقَـى رُقِــيَّـك iiالأَنـبـياءُ
يــا سـمـاءً مــا طـاوَلَتْها سـماءُ
لَـمْ يُـساوُوك في عُلاكَ وَقَدْ iiحالَ
ســنــاً مِــنــك دونَــهـم iiوسَــنـاءُ
إنّــمـا مَـثَّـلُـوا صِـفـاتِـك iiلـلـناس
كــمــا مــثَّــلَ الــنـجـومَ الــمــاءُ
أنتَ مِصباحُ كلِّ فضلٍ فما تَصدُرُ
إلا عــــن ضــوئِــكَ iiالأَضــــواءُ
لـكَ ذاتُ العلومِ من عالِمِ iiالغَيبِ
ومــــنـــهـــا لآدمَ الأَســـــمــــاءُ
لم تَزَلْ في ضمائرِ الكونِ iiتُختَارُ
لــــــــك الأُمــــهـــاتُ الأَبـــــــاءُ
مـا مـضتْ فَـترةٌ مـن الرُّسْلِ iiإِلّا
بَــشَّـرَتْ قـومَـهـا بِـــكَ الأَنـبـياءُ
تـتـباهَى بِــكَ الـعـصورُ iiوَتَـسْمو
بِــــكَ عــلْـيـاءٌ بــعـدَهـا عـلـيـاءُ
وَبَــــدا لــلـوُجُـودِ مــنــك كــريـمٌ
مــــن كــريــمٍ آبَــــاؤُه كُــرمــاءُ
نَــسَـبٌ تَـحـسِـبُ الــعُـلا iiبِــحُـلاهُ
قَــلَّـدَتْـهَـا نـجـومـهَـا الْــجَــوزاءُ
حــبــذا عِــقْــدُ سُــــؤْدُدٍ وَفَــخَـارٍ
أنـــتَ فــيـه الـيـتيمةُ الـعـصماءُ
وُمُـحَيّاً كـالشَّمس مـنكَ مُـضِيءٌ
أسْــفَــرَت عــنـه لـيـلـةٌ iiغَـــرّاءُ
لـيـلةُ الـمـولدِ الـذي كَـان لـلدِّينِ
ســـــرورٌ بــيــومِـهِ iiوازْدِهــــاءُ
وتـوالَتْ بُـشْرَى الهواتفِ أن iiقدْ
وُلِــدَ الـمـصطفى وحُــقّ iiالـهَناءُ
وتَـدَاعَـى إيــوانُ كِـسْرَى ولَـوْلا
آيـــةٌ مِـنـكَ مــا تَـدَاعَـى iiالـبـناءُ
وغَـــدَا كـــلُّ بــيـتِ نـــارٍ وفــيـهِ
كُــرْبَـةٌ مِـــنْ خُـمـودِهـا وَبـــلاءُ
وعارض قصيدة "بانت سعاد" لكعب بن زهير فقال البوصيري في قصيدته:
إلـى مـتى أنـتَ باللَّذَّاتِ مَشغُولُ
وَأنتَ عن كلِّ ما قَدَّمْتَ مَسؤُولُ
فِي كلِّ يَوْمٍ تُرَجِّي أن تتوب غدا
وَعَقدُ عَزمِكَ بالتَّسوِيفِ مَحْلُولُ
كما قدم بائياته الثلاثة والتي قال في إحداها:
وقَــفَــتْ بِــجــاهِ الـمـصـطـفى آمــالُـه
فــــكـــأَنـــه بـــذنـــوبـــه iiيَـــتَـــقَـــرَّبُ
وَبَـــــدا لـــــه أنَّ الـــوُقُــوفَ iiبِــبـابِـهِ
بــــابٌ لِــغُـفْـرانِ الــذُّنــوبِ iiمُــجَــرَّبُ
صــلَّــى عــلـيـه الــلَّـهُ إنَّ مَـطـامِـعي
فـــي جُــودِهِ قــد غــارَ مـنـها أشـعَـبُ
لِــــم لا يــغــارُ وقــــد رآنــــي دونَـــه
أدركْــتُ مِــنْ خَـيْرِ الـوَرَى مـا أطـلُبُ
مـــــاذا أخــــافُ إذا وَقَــفْــتُ iiبِــبـابِـهِ
وصَـحـائِـفي سُـــودٌ ورأْسِــيَ iiأشْـيَـبُ
والمصطَفى الماحي الذي يمحو الذي
يُحْصِي الرقيبُ على المُسيء iiوَيَكْتُبُ
توفى البوصيري بالإسكندرية عام 1296م – 696هـ، وقد ترك إرثاً قيماً للأجيال اللاحقة تمثلت في عدد كبير من قصائده والتي ضمها ديوانه الشعري، بالإضافة لقصيدة البردة أو "الكواكب الدرية في مدح خير البرية"، والقصيدة "المضرية في الصلاة على خير البرية"، والقصيدة "الهمزية"، و"المحمدية"، ولامية في الرد على اليهود والنصارى بعنوان: "المخرج والمردود على النصارى واليهود".