خلي السلاح صاحي (الحلقة التاسعة)

إلى من يختصرون التاريخ . إلى من يريدون محو صفحات مضيئة من تاريخ الأمة . إلى الحاقدين على الوطن . إلى من يقومون بتخطي وتزييف وتشويه نضال الشعوب العربية . إلى من يقدمون للعدو خدمات غير مدفوعة الأجر وأحياناً مدفوعة . إليهم أقدم ومضات سريعة على سجل حافل من الكرامة العربية . يعجز التاريخ عن حصره بأكمله أو إحصائه . هذا السجل لشعب دفع ومازال يدفع فاتورة العروبة حتى الآن . أنهم رجال 48 ورجال 56 وهم من ذاقوا طعم المرارة في 67 وأذاقوا العدو الذل والهوان في سنوات حرب الاستنزاف . وهم أبطال العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 73 وهم من كسروا غطرسة وغرور العدو الصهيوني في ( 6 ) ساعات . إليكم أخواني وأخواتي أتقدم بهذه الحلقات وأتمنى من الله أن تنال ولو القليل من استحسانكم .

=======================================

الدفاع الشعبي

السلام عليكم يا عم ( رضوان ) .

رد عم رضوان : وعليكم السلام ورحمة الله بركاته

يا ( أمين ) يا أبني .

أنه عم رضوان بائع الكيروسين . منذ فتحت عيناي على الدنيا وأنا أراه

مبتسماً . وحصانه الذي يجر عربة الكيروسين يبدوا هزيلاً منهكاً . عم

رضوان يبدو كذلك أيضا رغم ابتسامته التي لا تفارق وجهه . فهو

مطلوب منه أن يسعى لسد أفواه أثنى عشر من الأبناء وأمهم أو يهتم

بنفسه وحصانه . فآثر أولاده والزوجة على نفسه وحصانه . رغم القدم

الخشبية . فنحن سمعنا من أهالي الحي بأن له قدماً خشبية . فقدها في

الحرب . رغم أنه يحاول ألا تظهر . لكن عرجته الخفيفة كانت تؤكد ذلك .

أنا هذه الأيام أكتب يوميات عن حرب أكتوبر . أنها فرصة آتتني كي

أعرف شيئاً جديداً عن الحرب . فربما يكون في حقيبة النقود الجلدية

التي معه بعض الحكايات .

سألته : هل ممكن تحكي لي عن الحرب يا عم رضوان .

لحظة صمت . عم رضوان ينظر إلى قدمه الخشبية تارة ويوجه عيناه لي

تارة أخرى . فهو تأكد أني أعرف أنه قد حارب .

قال : أركب بجانبي يا ولدي وسأحكي لك ونحن نبيع الكيروسين .

ركبت بجانبه . هو يمسك بلجام الحصان وأنا أمسك بالكرباج الذي يصدر

أصوات الفرقعات دون أن يمس الحصان . والحصان المسكين يحمد الله

مع كل فرقعة بأن الكرباج لم يلهب ظهره . الناس يتضاحكون . ويشرون

ناحيتي . فأنا ألبس زياً رسمياً كاملاً . حتى رباط العنق والنظارة

الشمسية . وواضع على رجلي الحقيبة ( السامسونايت ) . أنا أعذرهم .

فهو منظر غريب فعلا . عربة كيروسين . وهذا الزى الرسمي . وبيدي

كرباج . لا يهم . المهم أن يخرج عم رضوان الحكايات من حقيبته

الجلدية .

وتكلم أخيراً : البداية يا ولدي كانت في سنة 1956 م كنت شاباً أبن

السادسة عشر سنة . سمعنا من المذياع الوحيد في الحي وكان يملكه

محمود أفندي . سمعنا أن إسرائيل وفرنسا وإنجلترا قادمون لحربنا .

والهدف قناة السويس . والله أعلم بما بعدها . تقدمت لمركز الدفاع

الشعبي بالحي . فأنا أحب عبد الناصر . فرحت جداً عندما قالها . بعودة

القناة لمن حفروها لمن تركوا ديارهم . ورجوعها لأبناء من ماتوا ودفنوا

فيها . تمت إجراءات انضمامي للجيش الشعبي . أعطونا مهمات

للتدريب . ملابس صفراء بلون الرمال وحذاء ثقيل جداً . وذهبوا بنا

لمعسكر التدريب . هناك تدربنا . سال منا العرق . سال الدم . الكل يريد

أن يكون لائق عسكرياً ليذهب إلى شط القناة قبل الآخر . تم توزيعنا على

السويس وبورسعيد والإسماعيلية . كان أسعدنا حظاً من ذهب إلى

بورسعيد فقد حارب . قد قاوم . قد ناضل . قد نال النصر على أعتى دول

العالم ظلماً في ذلك الوقت .

رجعنا بعد النصر رجعنا جنوداً مجهولين . لا يهم . المهم أننا قد صدقنا

ما عهدنا الله عليه . فوهبنا النصر .

المرة الثانية يا ولدي كانت في سنة 1967 م وعندما صدرت الأوامر

للجيش المصري بالانسحاب العشوائي . الذي جعل من الجيش أهدافاً

حتى لنبال الأطفال الصهاينة لو أرادوا . انهزم الجيش . انهزمت

القضية . انهزمت الوحدة الخيالية . لكن لم ينهزم الشعب . الجيش

أنسحب عشوائياً من سيناء , ونحن هرولنا إلى مدن القناة أيضاً بطريقة

عشوائية . فلابد من حماية الأرض حماية العرض .أما عن النفس ؟ ..

فلا تهم .

شاهد الصهاينة أفواه بنادقنا منتظرة . عيوننا تلمع من فتحات الخنادق

كالذهب . خاف العدو . فهو لو غامر فهي تكون محسوبة . خشي على

نفسه من الدخول . أغار بالطائرات . قصف بالمدافع . هزم الجيش .

ولكنه يخاف من مواجهة إرادة الشعوب .

قلت له : وبعد يا عم رضوان . هل أصبت في هذه المرة ؟

قال عم رضوان : لا يا ولدي إصابتي كانت في 1973 م في أيام

الانتصار . عبر الجيش البطل . اجتاحوا حصون العدو الحصينة

كالطوفان . هزم العدو هزيمة نكراء . وأراد أن يعوض الهزيمة على

الجبهة السورية . ضغط عليها بعض الشئ . فأمر الرئيس السادات

بتطوير الهجوم . حدثت فجوة ما بين الجيش الثاني والثالث الميداني من

أثر التطوير . دخل منها العدو ليحقق شئ للتفاوض . دخل من

الدفرسوار . عينه على مدينة السويس . علمنا بذلك . هرول كل من يقدر

على حمل السلاح . ذهبت إلى هناك . وقفنا حائطاً منيعاً ومعنا الجيش

البطل ضد أحلام ( جولدمائير ) و ( وموشي ديان ) . بكى ديان وأيضاً

مائير من قصص البطولة التى سطرها الأبطال . كان معي في هذه

المعركة مصطفى ومحمد وعوضين وياسر ومحمود . كنا لا نتقابل إلا في

ساحات النزال .

قلت له : ولكن كيف فقدت ........ ؟

عم رضوان : تقصد قدمي لا عليك يا ولدي فهي الوسام .

سأحكي لك حكاية القدم المبتورة . كنت أحمل سلاح( الآر بي جي ) .

ومعي الزملاء . كانت مهمتي التي اخترتها هي أن أناور دبابات العدو من

الأمام . ويكمن زملائي لها من الأجناب . يتحرك البرج في ناحيتي وأيضاً

الرشاش . أقفز . أنبطح . أجري عن اليمين وعلى اليسار . أحاول

أصبتها ولكن مهمة الإصابة كانت من نصيب الكامنين من الرجال

قلت له : ولكن مهمتك كانت أخطر من مهام كل الرجال .

عم رضوان : كنت أهوى يا أبني محاورة دبابات العدو . لأثبت لمن فيها

قوة مصر . قوة شعب لا يخاف الدبابات . كنا نجعلهم يبولون داخل

الدبابات . ونسمع من داخلها الصرخات . حتى جاء اليوم الذي تعثرت في

حفرة ولم استطع الوقوف . وصوب الجبان من داخل حصنه الحديدي .

وغبت عن الوعي . فقدت قدمي ولكن العدو لم يستطع أن يمر .

تدحرجت عبرة من عيني ولم أدري إلا وأنا أنحني وأنا من فوق عربة

الكيروسين على قدم عم رضوان المبتور وقعت حقيبتي من العربة .

قال عم رضوان : حقيبتك وقعت يا أمين يا ولدي . سأحضرها لك .

قلت له : لا تهتم فهناك الأهم . وملت على قدمه المبتورة لأطبع عليها

قبلة . فهي الآن قد سبقته إلى الجنة . حاول أن يسحب رجله من بين

يداي .

قلت له : يا عمي لا تحرمني من ريح الجنة .

إلى اللقاء في الحلقة القادمة

بسم الله الرحمن الرحيم

أخي الكريم

أ... أيمن كل عام وانت بكل الخير

ومصرنا الغاليه بكل الخير

وكل العروبه بكل الخير

سلمت يمينك

مع خالص تحياتي

أستاذى أيمن بك عبد القوى

لماذا لا تثبت هذه الملحمة الرائعة أو تضمها معا

فى مكان واحد أو تضع روابط لتصلنا بها جميعا

دمت كاتبا وأديبا مميزا

خلي السلاح صاحي (الحلقة التاسعة) 58

» خلي السلاح صاحي (الحلقة الأولى)
» خلي السلاح صاحي (الحلقة الحادية عشر)
» خلي السلاح صاحي (الحلقة العاشرة)
» خلي السلاح صاحي (الحلقة الثامنة)
» خلي السلاح صاحي (الحلقة السابعة)