إلى من يختصرون التاريخ . إلى من يريدون محو صفحات مضيئة من تاريخ الأمة . إلى الحاقدين على الوطن . إلى من يقومون بتخطي وتزييف وتشويه نضال الشعوب العربية . إلى من يقدمون للعدو خدمات غير مدفوعة الأجر وأحياناً مدفوعة . إليهم أقدم ومضات سريعة على سجل حافل من الكرامة العربية . يعجز التاريخ عن حصره بأكمله أو إحصائه . هذا السجل لشعب دفع ومازال يدفع فاتورة العروبة حتى الآن . أنهم رجال 48 ورجال 56 وهم من ذاقوا طعم المرارة في 67 وأذاقوا العدو الذل والهوان في سنوات حرب الاستنزاف . وهم أبطال العاشر من رمضان السادس من أكتوبر 73 وهم من كسروا غطرسة وغرور العدو الصهيوني في ( 6 ) ساعات . إليكم أخواني وأخواتي أتقدم بهذه الحلقات وأتمنى من الله أن تنال ولو اليسير من استحسانكم. ================== التنحـي
الزمان : يونيو سنة 67 . المكان : مدينتي الهادئة . كنت صغيراً وقتها . لكنى كنت مدركاً بعض الشئ لما يدور حولي . خبت أنوار مدينتنا. تعيش المدينة في ظلام دامس كلما جن الليل . رجال الدفاع المدني يجوبون الشوارع . فهم من رجال وأبناء الحي .يراقبون إطفاء الأنوار . ويتأكدون من أن زجاج المنازل قد تم دهانه باللون الأزرق . كنت أنا وأصدقائي الصغار نكون فرقاً صغيرة نحاكي بها الكبار . كنا نساعدهم في مراقبة عدم صدور أضواء من المنازل . ننادي على صاحب المنزل الذي يتسلل منه الضوء . نأمره بإطفاء الأنوار . وإذا لم يستجيب . نخبر أفراد الدفاع المدني المتواجدين . كانوا يحترموننا رغم حداثة سننا . يأتي معنا فرد أو أكثر . ليقوم بتوجيه الأوامر للمخالفين . فالكل خائف من طائرات العدو وخاصة بعد أن قامت بضرب المطار العسكري المتاخم لمدينتنا . كان أبي يجتمع يوميا وأهل الحي في النادي الاجتماعي . يسمعون بيانات الحرب الخادعة . مثل سقوط عشرون طائرة للعدو في هذا اليوم . وأن النصر قد لاح . كانت هذه البيانات ضرورية حتى لا تنهار الجبهة الداخلية .... هكذا كان يعلق أبي . حتى جاء يوم ألتف كل رجال الحي حول المذياع . اليوم خطاب عبد الناصر . الكل يريد أن يفهم . الشعب كله غير مستوعب . ومطلوب من عبد الناصر أن يفهمهم حقيقة ما يحدث . وقد كانت الطامة الكبرى . قالها وبدون مواربة . بشجاعة . تحمل أمام كل العالم تبعات الهزيمة. وقرر أن يكون مواطناً عادياً في وسط الجماهير. قرر التنحي . وكانت أول مرة أسمع بكاء ونحيب الرجال . سمعت بكاء عم عبده البقال وعم حسين الخياط وسمعت نحيب كل الموجودين . رأيت عينا أبى اغرورقت بالدموع . يخبط كفاً بكف ويقول : أنها لمصيبة كبرى . هزيمة وتنحى !! أنا قد فهمت كلمة هزيمة ولم أفهم معنى كلمة تنحي . ولم أفهم أيضاً ما هذا الشئ الذي أبكى كل هؤلاء الرجال . فأنا لم أرهم يبكون عند موت عزيز عليهم أبداً . كانوا كالجبال . نمت هذه الليلة وفي عقلي علامة استفهام كبرى . استيقظت في صباح اليوم التالي على صوت لغط وهمهمات رجال كثيرة في الشارع . نظرت من نافذة الغرفة . وجدت مئات من الرجال وصور عبد الناصر ولافتات كبيرة معهم . نزلت أسرع من البرق إلى الشارع . الرجال يأتون من كل صوب . يتجمعون أمام المساجد . فهمت من أحاديثهم أنهم لم يناموا منذ الأمس . وأن ( جمال عبد الناصر ) لا يجب أن يتركهم في هذا الوقت . سألت أحد المتواجدين : هل صحيح أن عبد الناصر سيتركنا ويذهب إلى بلد آخر ليحكمه ؟ أجابني الرجل : نعم تقريباً يا ولدي . قلت له : أرجوك يا عمي قل له أني سأعطيه مصروفي وليبقى فأنا أحبه جداً . وقلت له أيضاً : أني لن أفعل شئ يغضبه بعد الآن . وهنا إذ بالرجل يبكي ويحتضنني وقال لي : أننا ذاهبون إليه الآن يا ولدي وبإذن الله سأبلغه وسيبقى معنا . رجعت إلى المنزل بسرعة . طلبت من أمي أن تصنع لي لافتة وعليها صورة عبد الناصر . وتحت ضغط بكائي صنعتها من الكرتون والخشب وصورة عبد الناصر التي كانت لا يخلوا منها منزل . أخذتها وذهبت بسرعة إلى الجمع . بدءوا في التحرك . رددوا هتافاتهم وأنا أرفع الصورة وأردد معهم . أذكر منها ( عبد الناصر يا حبيبنا وحياة خالد ما تسيبنا ) . أنهم ذاهبون وأنا معهم . فمن المؤكد أن عبد الناصر يسكن في حي قريب منا . سأذهب له وأكلمه . سأقول له أنى مستاء منه جداً لأننا نحبه كثيراً وهو يريد أن يتركنا . وكلما سار الجمع التقى بجمع آخر وبدأ يكبر ويكبر ككرة الثلج المتدحرجة من أعلى . أصبحوا آلاف . وصلوا إلى محطة قطارات السكة الحديدية .سألت أحد الرجال : هل يسكن عبد الناصر في المحطة ؟ ؟ ؟ قال لي : لا يا ولدي أنه في القاهرة ونحن ذاهبون إليه من كل محافظات مصر المحروسة . وهنا خشيت بأنني لو ذهبت معهم إلى القاهرة فأبي سيعاقبني . وأخذت طريقة العودة إلى المنزل . وعند المسجد وجدت جميع أطفال الحي يجتمعوا ومعم صور عبد الناصر . وهنا لم أتمالك نفسي . وهتفت بأعلى صوتي ( عبد الناصر يا حبيبنا وحياة خالد ما تسيبنا ) ووجدتهم يقفون ويجتمعون حولي ويرددون من ورائي . تحركت بهم وهم يسيرون ورائي . رفعني أحدهم على أكتافه . وأنا أردد الهتاف وهم يرددون معي . ليسير موكب الرجال الصغار في كل شوارع المدينة . وكلما سرنا أذادت الأعداد حتى وصلنا بالآلف . سمعتنا النسوة في البيوت . وقفن في النوافذ . رأيتهم يشرن لنا ويبكين بكاء حار . حتى سمعنا آذان المغرب . تفرق الجمع وأتجه كل منا إلى منزله . عدت إلى المنزل لأرتمي في أحضان أمي وأبكي . ووجدت شيئاً دافئاً يسقط على وجهي . فرفعت عيناي لأجد الدموع تسيل من عينا أمي . فاختطفت صورة عبد الناصر وصعدت مهرولاً إلى سطح منزلنا . رفعت صورته إلى أعلى . أهتف . وهتافي يخرج بكاء ( عبد الناصر يا حبيبنا وحياة مصر ما تسيبنا )
إلى اللقاء في الحلقة القادمة
أيمن عبد القوى الأعلامى
عدل سابقا من قبل أيمن عبد القوى في 13/7/2011, 00:33 عدل 1 مرات
رأفت الجندى المدير الإداري
العمر : 65عدد الرسائل : 9511بلد الإقامة : الفيوماحترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 13231ترشيحات : 29الأوســــــــــمة :