الشاعر عبد القوى الأعلامى
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالأحداثموسوعة الأعلامى الحرةأحدث الصورالتسجيلدخول

شاطر
 

 رحلة مع رهين المحبسين

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 02:43

ملكة السخر عند المعري


مم يسخر الانسان؟؟ إنه ينظر إلى مواطن الكذب من دعاوى الناس فيبتسم، وينظر إلى لجاجهم في الطمع واعناتهم أنفسهم في غير طائل فيبتسم؛ وهذا هو العبث وذاك هو الغرور.
فالعبث والغرور بابان من أبواب السخر بل هما جماع أبوابه كافة. وكل ما أضحك من أعمال الناس فإنما هو لون من ألوان الغرور أو ضرب من ضروب العبث. وكثيراً ما يلتقيان. فإن الغرور هو تجاوز الانسان قدره والعبث هو السعي في غير جدوى، ولا يكون هذا في أكثر الأحيان إلا عن اغترار من المرء بنفسه وتعد منه لطوره.
والناس يعملون ذلك بالبداهة. فهم يعلمون أن الغرور والعبث مادة الضحك وجرثومته التي يتفرع منها كل مضحك من الأعمال والأقوال، ويجربون ذلك كل يوم في مداعباتهم لصغارهم وامتحانهم لقوة أطفالهم. يقبض الرجل كفه لابنه على غير شيء، فيأخذه بأن يفتحها ويعده بكل ما يجده فيها اذا هو قوي على فتحها. فيجاهد الطفل في ذلك ما يجاهد: يقول ويقعد. ويشتد ويحتد. ويلتوي ويعتدل. ويرفع اصبعاً بعد أصبع فاذا الذي رفعه قد عاد فأطبق مرة أخرى، ويعيبه الجهد فيركن إلى الملق والخديعة. وهو في كل هذا يحسب نفسه قادراً على أن يغلب أباه عنوة وقسراً أو يغلبه خديعة ومكراً. وهذا هو الغرور.
ثم تلين تلك القبضة فيفتحها فاذا هي خاوية واذا بذلك العناء الذي أجهده وبهره قد ذهب سدى. وهذا هو العبث. ومن هذا وذاك تضحكنا الطفولة وتعجبنا غرارتها وكبرياؤها ونتخذها تسلية ولهواً. ولكن هل يضحكنا من الكبار شيء غير هذا؟؟ وهل مهازل الحياة ومساخر التمثيل الا صورة مكبرة من هذه اللعبة الصبيانية، وسذاجة مركبة من هذه السذاجة البسيطة؟؟


***


واذا كان هذا معدن السخر وأصل الدعابة فما أجدر رجلاً كصاحب رسالة الغفران أن يكون ساخراً؟ ؟ بل ما أجدره أن لا يكون له عمل في الحياة غير السخر؟؟ إنه رجل استخف بالحياة جمعاء وهانت عليه الدنيا بما وسعت. فما من دعوى من دعاوى الناس تتنزه عن الغرور في اعتقاده وما من غاية من غايات الناس لا تنتهي في تقديره إلى عبث فارغ وخديعة ظاهرة ، كلهم مغرور وكلهم عابث وكلهم متعلق من الأقدار بمثل تلك القبضة التي يعييه أن يفض أصبعاً منها.. حتى اذا فضها أو خطر في وهمه أنه فضها لم يجد ثم شيئاً، أو وجدها ملأى بما يشبه الفراغ سخية بما ليس يختلف عن الحرمان.. وكلهم محتقب عدة لا تنجع ومتقلد سلاح لا يصيب:


ورب كمى يحمل السيف صارما *** إلى الحرب والأقدار تلهو وتسخر
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 02:46

لا بل هبه وصل إلى الحرب بسيفه الصارم وقاتل وظفر وسلم فماذا عساه يغنم؟؟ ألعله الثناء على الأفواه؟ أو لعله عرش مملكة؟؟ ان كان ذاك وقل أن يكون فلعمر أبي العلاء ما قصارى الثناء والسمعة:


وما يبالي الميت في لحده *** بذمه شيع أو حمده؟؟


وما العروش والدول. وما الملوك والأقيال؟؟ فلكم عبر على هذه الأرض من جيل وكم زال فيها من مجد أثيل وملك عريض طويل


وكم نزل القيل عن منبر *** فعاد إلى عنصر في الثرى
وأخرج من ملكه عاريا *** وخلف مملكة بالعرا


ماذا مضى من قبلنا؟؟ ماذا يأتي بعدنا؟؟ ما نحن؟؟ ماذا يبلغ من عقبى سعينا وغاية تدبيرنا وأي شيء يختلف على توالي الأعصر من سنة الدهر وأطوار الحوادث التي لا بداية لها ولا نهاية؟؟


نزول كما زال آباؤنا *** ويبقى الزمان على ما ترى
نهار يضيء وليل يجيء *** ونجم يغور ونجم يرى


وهذه الأنجم الغائرة الطالعة ما شأنها في ذلك الفضاء وما نهاية دورانها وماذا يلحق بها في أجواز سمائها؟ أتسري أم تقف؟ أتخبو أم تظل هكذا مضطرمة على المدى؟ أيعفيها ذلك الناعب القابع في كسر داره من قضائها الحتم؟ أيشفع لها عنده سناؤها ووضاءتها ونظامها وأبدية آفاقها في شيء مما سبق به حكم الفناء؟ لا عفو ولا شفاعة. إنها لفانية وإن أجلها لمنظور. وانه ليشرف على ساحة الأكوان فاذا هي أشلاء فوق أشلاء وأنقاض مطمورة بأنقاض: أشلاء كواكب لا أشلاء جسوم وأنقاض عوالم لا أنقاض أطلال ورسوم. وقد يشك ولكن شك من يهز كتفيه كأن الأمر لا يعنيه ولا يبالي على أي وجه يصير. فهل تطفأ الشمس أو لا تطفأ ؟ يجوز . نعم


يجوز أن تطفأ الشمس التي وقدت *** من قبل عاد وأذكى نارها الملك
فإن خبت في طوال الدهر جمرتها *** فلا محالة من أن ينقض الفلك


وقد يجزم ويبرم فاذا هو جزم لا فكاك منه وابرام تحس فيه صرامة القضاء:


زحل أشرف الكواكب دارا *** من لقاء الردى على ميعاد
ولنار المريخ من حدثان الدهر *** مطف وان علت في اتقاد
والثريا رهينة بافتراق الشـ *** ـمل حتى تعد في الافراد


فدنيا كهذه الدنيا التي يلحظها المعري أي شيء فيها يستحق العناء وأي عناء فيها يجل عن السخر؟ أي خطر لمهمة من المهام بين مصارع أكوان ومشاهد آباد وأزمان؟ أليس من ينشد ملكا أو ثراء في هذه المدرجة العاثرة كذلك الهالك الذي يفتقد حليته أو ساعته في السفينة الهاوية إلى قاع اليم؟ كلاهما مضحك!! بل ما من شيء إلا وهو مضحك في هذا الكون العامر بالخراب الثابت على التداعي والزوال!! وهل نسينا أن القبر يضحك من تزاحم الأضداد؟ فهكذا تتشابه الأمور فاذا الهزل كالجد واذا الحلم كالعيان


وشبيه صوت النعي اذا قيـ *** ـس بصوت البشير في كل واد


لا بل هو كل شيء ككل شيء. هو العلم كالجهل والحق كالباطل والهدى كالضلال:


وقد زعموا الأفلاك يدركها البلى *** فان كان حقاً فالنجاسة كالطهر


فعلام اذن يزعج الانسان نفسه وبأي شيء يحفل وما اجتهاده في التدبير والتقدير وتغيير ما كان بما سيكون؟ ألا أننا لنسعد ونشقى عبثاً ونسعى ونسكن عبثاً ونرجو ونقنط عبثاً ونبكي ونضحك عبثاً. ومن وراء ذلك كله هاتف يهتف بنا في غير رفق ولا رحمة.


تقفون والفلك المحرك دائر *** وتقدرون فتضحك الأقدار


نعم تضحك الأقدار وحق لها أن تضحك. ولئن ضحكت الأقدار لقد سمعنا من خلل ضحكاتها العالية ورواعد قهقهتها التي تغمر الأرض والسماء جميعاً تهانف ذلك الشيخ الساخر المتنكب عن طريق الدنيا العابرة في زاوية من زوايا المعرة.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 02:49

ففي المعري ملكة السخر التي في الأقدار وهو يضحك حين تضحك ويسخر مما تسخر هي منه لأنه ينظر بعينها ويقرأ خطوطها الغامضة في كتابها ويطل معها على ساحة واحدة.
فالسخر هو ملكة المعري حقاً لا التجميل ولا الخيال. وإنه لمن سخر الأيام أن يكون المعري أو يكون المتشائمون عامة من أطبع الناس على السخر وأفطنهم إلى مواطن الضحك. فقد يلوح ان ذلك من التناقض الغريب والسخرية؟ هذا عجيب ولكنه مع ذلك هو الحقيقة المطردة والقياس المستقيم.
إن المتشائمين مستخفون بالدنيا وما السخر وما الاستخفاف؟ فلعلهما بعد أبناء عمومة إن لم يكونا أخوين شقيقين أو توأمين. ومن استخف بشيء فقد سخر منه؛ أو كان كالساخر منه في وجهة النظر إليه.
والمتشائمون يستخفون بالدنيا لأنهم لا يرون فيها نعيما يؤبه له ولا وطراً يستحق أن يسعى إليه. وإنما يعتريهم ذلك من دقة الاحساس وتقزز الخاطر وشدة تبريح الألم بنفوسهم اذا مسها طائف منه ولو من بعيد. وناهيك بما يعتريهم من عذاب التناقض بين الفكر والاحساس: بين فكر يرى أعظم الأشياء أهون من أن يكون لها شأن خطير؛ واحساس يجعل لكل همسة من همسات الحياة شأناً بل شؤوناً خطيرة..؟
فلذلك – أي لدقة احساسهم- تنغص عليهم لذاتهم وتنتابهم الأحزان والأشجان وتغلب عليهم الكآبة والقنوط . ولذلك – أي لدقة احساسهم أيضاً – يفطنون إلى دخائل النفس الخفية ويستمعون إلى دبيب الوساوس المتنكرة فتنفضح لهم المضحكات والمغامز ويتراءى قبلهم وحدهم نفاق الطوايا وذبذبة الضمائر. فان بكوا فحيث يجهل الناس بالبكاء، وان ضحكوا فحيث يغفل الناس عن أسباب الضحك. وهذا أيضاً باب من أبواب الشقاء. اذ لا تجد في الأشقياء أشد شقاء ممن يبتلى بجهل الناس اياه فلا يشاطرونه ألماً ولا سروراً ولا يفقهون سر لبشاشة منه أو عبوس. وكأنما هو اذ يمشي بينهم هائم في صحراء بلقع لا نجي فيها ولا معين، أو كأنما هو بينهم سجين غريب اللسان بين أيدي زبانية موكلين بتعذيبه وايجاعه. وما ظنك؟ بمن يضاف عليه ألم الوحدة إلى آلام المصائب اللازبة والمحن المتراكبة؟


***


وكم من شقاء غير هذا تجره على دقاق الاحساس من المتشائمين ملكة السخر وسرعة الفطنة إلى المضحك من أخلاق الناس!! فمن هذا الشقاء الكثير حذرهم من الضحك ونصبهم الناصب في توقي السخرية والبعد عن الجليل والدقيق من شبهاتها. فهم يحذرون السخرية لأنهم يشحذون سلاحها؛ وهم يغلون في الفرق من مظانها لأنهم يعرفون مناشئها. وفي ذلك بلاء لهم وأي بلاء.
ولا يبعد أن يكون هذا الخوف أول ما وسوس للمعري فجنح به إلى اجتناب الناس ولزوم داره . فقد كان الرجل شديد الاحتفاظ برصانته وابائه. وكان عظيم الاكبار لصفة الوقار. خصها بالذكر في رثائه لأبيه فقال:


ويا ليت شعري هل يخف وقاره *** اذا صار أحد في القيامة كالعهن
وهل يرد الحوض لروى مبادراً *** مع الناس أم يأبى الزحام فيستأنى


هذا وهو قد رثى أباه في شرخ الصبا وأوائل الشباب أي في سن الخفة والطيش وأوان العجلة والرعونة.
ولقد كان معه عزلته في داره اذ أراد أن يأكل انتحى جانباً من الدار مخافة أن يبدو من أكله بعض ما يعاب أو يزدرى، وكان يشتهي الخمر فلا يثنيه عنها الا أنها تحل عقال العقل وتطلق اللسان بالهذر، وكان يخشى أن يطول عمره وأكبر ما يخافه من طول العمر أن يهرم فيخرف فيعود أضحكومة لمن رآه وفي ذلك يقول:


وما أتوقى والخطوب كثيرة *** من الدهر إلا أن يحل بي الهتر


ومن كان هذا حذره من الضحك وخجله من السخرية فلن تطيب له عشرة الناس ولن يستريح منهم إلى مودة أو حفاوة. ولا شك أن الصبر على العزلة أولى به وأروح له وأهون عليه من اختلاط يعرضه لضحكة مؤذية أو لمزة جارحة؛ وهذا أيضاً من جنايات السخر على التشاؤم. ولكنهما كما قلنا رفيقان بينهما كثير من وشائج الرحم وأواصر المعرفة.



العقاد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 03:06

ولقد كان المعري شديد الاحتفاظ بالكرامة قوي الشعور بالواجب. كان يحمل على نفسه مضاضة الفاقة وشظف العيش لا لأن أبواب الرزق مغلقة دونه ولا لأن السعة محرمة عليه ولكن لأنه يضن بكرامته أن ينال منها نائل وأن تمسها دسيسة من مزاحم ماكر أو فرية حاسد متطاول؛ وكان يعف عما يشتهي من لحم الحيوان وألبانه وينهى أن يقتل البرغوث وأن يفجع النمل في العسل لاخشية من شر ذلك الحيوان ولا طوعا لشرع شارع ولكن لأنه يكره البغي ويستحي أن يدين غيره بما لا يدين به نفسه؛ ولأنه يعرف من معنى الواجب أنه شيء يفرضه الانسان على نفسه ولا يعرف من معناه ذلك الشيء الذي يفرضه عليه غيره.

فقد اجتمعت للمعري اذن خصال ثلاث: هذا الشعور النادر بالواجب، وتانك الخصلتان اللتان ذكرناهما في المقال السابق وهما : الاستخفاف بالدنيا ودقة الاحساس. وكل هذه الخصال من دواعي التشاؤم وكلها أيضاً من دواعي السخر فلا جرم يكون المعري الساخر ضريب المعري المتشائم؛ وتكون ملكة السخر فيه أول ما يسترعي النظر من تصانيفه وثمار قريحته.


***

هذه الملكة تظهر في نثر المعري ظهورها في شعره. وهي أظهر ما تكون في رسالة الغفران التي نحن بصدد الكلام عليها الآن. ففي هذه الرسالة كان المعري ساخراً جاداً في السخر؛ يخرج التشاؤم مخرج التفاؤل ويعرض اليأس في ثوب الأمل؛ ويبتسم من آمال الناس في الدنيا والآخرة ثم يعود فيبتسم من ابتسامه، ويعبث بالكافرين ويعرض بهم في ظاهر القول وهو بالمؤمنين أشد عبثاً وأبلغ تعريضاً. وقد وفق في بعض أحاديث الرسالة توفيقاً يذكرنا بغمزات هيني وتقريعات كارليل ودعابة سرفانتس؛ وغيرهم من كبار الساخرين والهجائين الذين تعتز الآداب الغربية بآثارهم ويعدها الكثير من قرائنا لغواً وهذراً لخلطهم بين الهزل والسخر وقلة تمييزهم بين ضحك المجون والبطالة وضحك المعرفة والشعور العميق.

انظر مثلاً إلى كوخ الحطيئة في الجنة. يذهب صاحب المعري "فاذا هو بيت في أقصى الجنة كأنه حفش أمة راعية، وفيه رجل ليس عليه نور سكان الجنة! وعنده شجرة قميئة ثمرها ليس بزاك
فيقول: يا عبد الله! لقد رضيت بحقير
فيقول: والله ما وصلت إليه إلا بعد هياط ومياظ وعرق من شقاء وشفاعة من قريش وددت أنها لم تكن"
فتأمل كيف ضن المعري على الحطيئة بقصر واحد حيث القصور لا عداد لها ولا كلفة في بنائها. ومثل في خلدك حال الحطيئة وقد أدخل الجنة بعد شق النفس فاذا هو بائس الدارين وساكن اكواخ في الأرض وفي السماء.. واذا هو لئيم غير زاكي المنبت خبيث اللسان ناكر للجميل كما كان في الدار الدنيا، فهو ينتفع بشفاعة قريش ويود أنها لم تكن. وينجو من النار ولا يحمد الله على ما صار إليه كأنه لا يزال يتمثل بقوله:


سئمت فلم تبخل ولم تعط طائلا ... فسيان لا ذم عليك ولا حمد

وإن شئت تستعين على استحضار صورة الكوخ في الجنة فتمثل موكباً من مواكب الفاتحين تمشي فيه بغلة أبي دلامة أو رهاناً في مضمار العتاق المسومات يدخله حمار كحمار المسيخ الدجال الذي تنبئنا عنه الأساطير. وانظر كيف يكون مرأى ذلك في النظر ووقعه في الخاطر! فكوخ الحطيئة في عليين هو بغلة أبي دلامة في موكب الملوك وحمار المسيخ في رهان الجياد وهو في جملته وتفصيله صورة مضحكة عريقة في الفكاهة بليغة في السخر والدعابة.

وانظر إلى قصة الاوز في الجنة. يمر بابن القارح صاحب المعري رف من أوز الجنة "فلا يلبث أن ينزل على تلك الروضة ويقف وقوف منتظر لأمر – ومن شأن طير الجنة أن يتكلم – فيقول ما شأنك؟؟
فيقلن: ألهمنا أن نسقط في هذه الروضة فنغني لمن فيها من شرب
فيقول: على بركة الله القدير
فينتفضن فيصرن جواري كواعب يرفلن في وشى الجنة وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يلتمس من الملاهي" ولا يزلن في غناء وقصف وانشاد اشعار حتى يبدو الشيخ فيقول للنابغة الجعدي:
"يا أبا ليلى! ان الله جلت قدرته من علينا بهؤلاء الحور العين اللواتي حولهن عن خلق الاوز: فاختر لنفسك واحدة منهن فلتذهب معها إلى منزلك تلاحنك أرق الحان وتسمعك ضروب الألحان. فيقول لبيد ابن أبي ربيعة: أن أخذ أبا ليلى قينة وأخذ غيره مثلها أليس ينتشر خبرها في الجنة فلا يؤمن أن يسمى فاعلو ذلك أزواج الاوز؟؟
فتضرب الجماعة عن اقتسام أولئك القيان..."

وكأني بخلائق المعري المتوزعة في كتبه قد ظهرت كلها في هذه الكلمة الاخيرة. ففيها مزح مليح وسخر ظريف؛ وفيها فوق ذلك دليل على شعوره باللياقة وحذره من التعرض للضحك وزجره النفس عن شهواتها ولذاتها من أجل ذلك وأمثاله. وصدق بلو تارك صاحب التراجم المشهورة اذ قال أن نكتة واحدة تنقل عن الرجل قد تغني في الدلالة عليه مالا تغنيه الترجمة المسهبة والحوادث الكثيرة وشبيه بهذا في الدلالة على شدة اتقاء المعري للضحك وحضور الحذر منه في ذهنه حواره الذي أجراه بين عدي بن زيد وابن القارح اذ يسأل هذا عديا في اعراب بيت من شعره فيقول له: "دعني من هذه الأباطيل! ولكني كنت في الدار الفانية صاحب قنص فهل لك أن نركب فرسين من خيل الجنة فنبعثهما على صيرانها وخيطان نعامها واسراب ظبائها وعانات حمرها؟؟ فان للقنيص لذة!
فيقول الشيخ: إنما أنا صاحب قلم ولم أكن صاحب خيل. وما يؤمنني ان ركبت طرفا وأنا كما قال القائل:


لم يركبوا الخيل الا بعد ما كبروا ... فهم ثقال على أكتافها عنف
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 03:09

أن يقذفني على صخور زمرد فيكسر لي عضدا أو ساقاً فأصير ضحكة في أهل الجنان.." وهذا حوار جاء عرضا مقتضبا مما تقدمه وتلاه، فيزيد في دلالته على ما أشرنا إليه أن المعري ابتدعه من عنده ولم يكن في سياق الحديث ما يدعو إليه أو يوحيه إلى الذهن بمناسبة قريبة. فكأن هاجس الحذر من الضحك قائم في ذهن المعري متجسم أمام وهمه تحركه أضعف المناسبات أو يحرك نفسه بغير مناسبة. ومثل هذا الحذر ينم بلا ريب على خلق كمين في النفس وعادة لاصقة بالفكر ويستدل منه على تيقظ الرجل للمضحكات واستعداده الدائم لتحاشيها، مما يدل على معرفة منه بمواطن السخر وسرعة اهتدائه إلى مناشئه ودواعيه.


***

وقد وضع المعري ابليس في جهنم كما ينبغي له. ولكنه لم يشغله عن الكيد والاغواء بما هو فيه من الضجر والعذاب. فلما أطال ابن القارح في سؤال أهل النار وأكثر عليهم من المناقشة مال ابليس إلى الزبانية يقول لهم: "ما رأيت أعجز منكم اخوان مالك! ألا تسمعون هذا المتكلم بما لا يعنيه؟؟ فلو أن فيكم صاحب نخيزة قوية لوثب وثبة حتى يلحق به فيجذبه إلى سقر!!" وهذا اصرار على الشر يستحق أن يضحك منه. اذ ما أبعد ما ينبغي أن يكون الاغواء من المعذب الذي يضطرب في الاغلال والسلاسل وتأخذه مقامع الحديد في أيدي الزبانية؟؟ وما أغرب أن يتخذ ابليس آلة وجنداً يستعين به على الاضرار والكيد وهم جند الله المسلط عليه لاضراره بالناس وكيده لهم؟؟ فهذا ما يسمونه المفارقة؛ أو هو التناقض المضحك الذي ألقاه المعري على شيخ الساخرين ليعجب من خبثه وعناده ويجعل منه سبيلا إلى ابتسامة من ابتساماته الهادئة الهازئة.. على أن أغرب ما في هذا الموقف أن يكون الساخر الاكبر نفسه سخرية وهزؤاً لأحد من الناس!!


***

وفي الرسالة كلمات كثيرة مبثوثة على هذا النحو تارة في وضوح وصراحة وتارة في خفاء ومواربة. فتأمل مثلا قول النابغة الجعدي لصاحبه الذبياني "أقسم أن دخولك الجنة من المنكرات. ولكن الأقضية جرت كما شاء الله! لحقك أن تكون في الدرك الأسفل من النار، ولقد صلى بها من هو خير منك ولو جاز الغلط على رب العزة لقلت أنك قد غلط بك" وتأمل قول الشيخ ابن القارح حين أراد أن يصلح بينهما: "يجب أن يحذر من ملك يعبر فيرى هذا المجلس فيرفع حديثه إلى الجبار الأعظم فلا يجر ذلك إلا إلى ما تكرهان. واستغنى ربنا أن ترفع الأخبار إليه ولكن جرى ذلك مجرى الحفظة في الدار العاجلة. أما علمتما أن آدم أخرج من الجنة بذنب حقير. فغير آمن من ولد أن يقدر له مثل ذلك!" وتأمل قول اوس بن حجر من أهل النار وهو تكرار لمعنى كلام النابغة الجعدي من أهل الجنة "ولقد دخل الجنة من هو شر مني ولكن المغفرة أرزاق. كأنها النشب في الدار العاجلة!". وأمثال هذه الكلمات كثيرة في رسالة الغفران لا نحصيها ولكن نحيل القارئ عليها. وحسبنا أن نقول هنا أن الرسالة كلها في وضعها وفي تركيبها وفيما بدا من معانيها القريبة وما انطوت عليه من المغازي البعيدة والمضامين الخفية ان هي إلا ضحكة واحدة متصلة يجهر بها المعري حينا ويوارب بها أحيانا. وقد يغرق في السخر حين يوارب ويداري حتى تخاله ساخراً من السخر مترفعاً عن الاهتمام لاظهار قصده لشدة استخفافه وقلة مبالاته.



العقاد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 03:11

حول رأي المعري في المرأة


المرأة أكبر حبائل الحياة. من تعلق منها بسبب فقد تعلق من الحياة بأسباب وخاض من الدنيا في أعمق الغمرات. فلا عجب أن يرفض المرأة من يرفض الحياة وأن يكون شعور المتشائمين من ناحية المرأة مختصر شعورهم من ناحية الحياة: حب يشوبه ضغن وشوق يغالبه حذر. وسوء ظن دائم بالحسن منها والقبيح على حد سواء، بل لعلة يكون بالحسن أشد واعظم لأنه باب الخديعة وحبالة الأطماع؛ ولأن القبيح من السهل أن يتقى ويدفع أما الحسن فلا يتقى إلا بمبالغة ولا يدفع إلا بعناء.

وليس ينتظر من المعري إلا أن يكون على دين زملائه واخوانه المتشائمين في الشرق والغرب في هذه العقيدة. فهو كاره للحياة كاره للمرأة ق برم بالعالم كله فقال في نفس واحد.


فأف لعصريهم نهار وحندس *** وجنسي رجال منهم ونساء!


ولكنه اذا التفت إلى المرأة خاصة عرف أنها الحياة مصغرة في ثوب من الجسد وأنها خلاصة ما في الحياة من الغوايات التي يوصى بالحذر منها والشرور التي يألم لها والغير والصروف التي يزدري الحياة من أجلها. فيرفضها رفضا مضاعفا ويخصها بذم غير مشارك . وله في اللزوميات أشعار كثيرة تنطق كلها بهذا الرأي في عبارات مختلفة. فهو اذا رفق فالمرأة ألعوبة ملهية:


وما الغواني في ملاعبها *** إلا خيالات وقت أشبهت لعبا


واذا اشتد فالمرأة حية مؤذية:


وإنما الخود في مساربها *** كربة السم في تسربها


وهي على كل حال آفة اللب وفتنة الحلم


يفندن الحليم بغير لب *** وهن وإن غلبن مفندات


ولن نصل منهن إلى خير ولن نحمد لمسراهن غبا


ولكن الأوانس باعثات *** ركابك في مهالك مقتمات
صحبنك فاستفدت بهن ولدا *** أصابك من أذاتك بالسمات
ومن رزق البنين فغير ناء *** بدلك عن نوائب مسقمات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 03:14

وليست عصمة المرأة بمأمن ولا عفتها بمعقل محصن. فوصيته لكل ذي زوج أن يصاديها ويداريها ولا يرفع عين الخفارة عنها:


فإن أنت عاشرت الكعاب فصادها *** وحاول رضاها واحذرن غضابها
فكم بكرت تسقى الأمر حليلها *** من الغار اذ تسقى الخليل رضابها


واذا بلغ الوليد العشر فليضرب بينه وبين النساء بحجاب:


اذا بلغ الوليد لديك عشرا *** فلا يدخل عل الحرم الوليد
فان خالفتني وأضعت نصحي *** فأنت وان رزقت حجى بليد
إلا أن النساء حبال غي *** بهن يضيع الشرف التليد


أما العلم فحسبهن منه ما يصلح للمنزل من نسج وغزل وردن غناء ولا حاجة بهن إلى قراءة وكتابة:


ولا تحمد حسانك إن توافت *** بأيد للسطور مقومات
فحمل مغازل النسوان أولى *** بهن من اليراع مقلمات


هذا كلامه في اللزوميات. أما في رسالة الغفران فمجمل ما يؤخذ من وصفه للحور ونساء الجنة أن المراة عنده لا تعدو أن تكون متعة ولهوا وعونا على البطالة كأنها باطية خمر أو معزف من معازف السماع لا فرق بينها وبين هذا الضرب من الملاهي إلا في كونها تحس وتنطق وأنها أحب وأشهى إلى الحس من سائر تلك الملاهي. وأحر بمن كان هذا وصفه لنساء الجنة أن يصد عن قرب المرأة في الدنيا، لأنها اذا كانت في الجنة لذة لا تعقب ألما ولهواً لا يورث حسرة ولا يضيع أربا فليست هي في الدنيا كذلك وليس أحسن ما تطلب لأجله وهو اللهو والطرب بخال من أوشابه ومعقباته ولا بسليم من عيوبه وآفاته – فهي أمن إلى وجل ولذة إلى ملل وحظوة وشيكة إلى حرمان عاجل. وهي إن أسعفت حالت دونها العوائق وإن وفت لم تف بها الأيام. على أنها قل أن تسعف وندران تفي لأنها طبعت على شيمة الدنيا من التغير والتقلب واخلاف الظنون واجتواء الأصحاب والخلان؛ وقد كاد علقمة الفحل يستحق الجنة عند أبي العلاء لقوله في وصف النساء:


فإن تسألوني بالنساء فإنني *** بصير با دواء النساء طبيب
اذا شاب شعر المرء أو قل ماله *** فليس له في ودهن نصيب
يردن ثراء المال حيث وجدنه *** وشرخ الشباب عندهن عجيب


ولأبي العلاء في اللزوميات أشعار كثيرة بهذا المعنى؛ ولشعراء العرب مثلها بل هذا هو الرأي الغالب في أقوال الرجال عامة ولا سيما أبناء الأمم الشرقية. فهم مجمعون على أن المرأة قليلة الوفاء سريعة التحول لا يحفظ لها عهد ولا تصبر عن هوى ولا تعدل بحب الشباب والمال شيئاً. وعابوا على المرأة ذلك وتنقصوا عقلها وأخلاقها من أجله وسيروا فيه الأمثال والعبر وأجمعوا على ذلك اجماعا يدعونا إلى أن نسأل: هل أصاب القائلون بهذا القول وهل أنصفوا؟؟ إلا أنها مسألة جامعه متشعبة لا نريد أن نعرض لها هنا إلا من وجهة واحدة. اذ ليس مرادنا أن نحيل القضية على محكمة الأخلاق ولا أن نقابل عيوب النساء بعيوب الرجال ليعلم هؤلاء أنهم ينظرون إلى النساء وينسون أنفسهم . فهذا غرض لم نقصد إليه هنا؛ ولكننا إنما نريد أن نرجع الأمر إلى وظيفة المرأة وأن نبحث عن مكان هذه الأخلاق في طبيعتها لنرى هل هناك أصل لها نشأت منه؛ وهل هناك مسوغ لها يعتذر به ان كان في الأمر ما يوجب الاعتذار؟!

والذي نقوله في جملة واحدة أن المرأة وفية صادقة: وفية للحياة لا لهذا الرجل أو لذاك، وصادقة في الحب لا في ارضاء أهواء من تحب. ولو أنعمنا النظر لعرفنا أن المرأة تخون نفسها كما تخون الرجال في سبيل الأمانة للحياة، وتكذب على نفسها كما تكذب على محبيها في صيانة عهد الحب. فهي وفية بالفطرة رضيت أم لم ترض؛ وهي صادقة بالالهام حيث أرادت وحيث لا تريد. ومهما يؤخذ على المرأة من شيء في أهوائها وأخلاقها فذلك سيئة الحياة لا سيئتها؛ وأولى بنا أن نعده سيئة في ظاهر الأمر أما في الحقيقة فهو حسنة نافعة وفضيلة مطلوبة، أو هو عيب في اليوم واليومين أما في طويل السنين والأجيال فهو نافي العيوب ودرج الكمال. إن المرأة خلقت رسول الجسد وحارس النسل فهي تعرف كيف تؤدي رسالتها وتقوم بحراستها وهي أحصف من أن تتلقى درساً في تبليع السر الذي أودعته؛ نعم وأحرص من كل حريص على ذلك السر الذي أخذته من الحياة لتسلمه إلى الخلود دون أن تحزم حرفاً منه، لأنها أخذته سراً أعجم وتسلمه سراً أعجم دون أن تعي منه حرفاً ولا معنى.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 03:16

ليقل علم الأخلاق ما بدا له فيما ينبغي أن يكون من أخلاق المرأة وليشهد النساك والمتشائمون شهادتهم وليزكها الرجال قاطبة تزكيتهم؛ فإن قالت المرأة بعد ذلك بلسان حالها لا بلسان مقالها أن للوفاء حداً وأن للأخلاق معنى غير معناها الذي يفهمه طلاب الراحة والرضى فلنصدق ما تقول فإن كل امرأة حذام فيما توحى به الفطرة؛ وكل امرأة في هذه الشئون قادرة على أن ترى القطامن مسيرة الأبد لا من مسيرة ثلاثة أيام.. ولنعلم أن ههنا صوتاً يتكلم أعلى من صوت الأخلاق، وحكما يأمر أنفذ وأقدس من حكم العرف والمواضعات: هما صوت الحياة وحكم القدرة التي تبعث الحياة في طريقها المجهول.

تحب المرأة الشباب ومنذا الذي لا يحب الشباب؟؟ إن الشباب نفحة الخلود وروح من روح الله، تصور الأقدمون الالهة فلم يفرقوا بينهم وبين الشباب وأسبغوا عليهم كساء سرمدياً من نسجه وبهاء متجدداً من صنعه. شعوراً منهم بأن الشباب سمة الحياة الخالدة وروح المعاني الالهية وترجيحاً لخير الشباب على شره ولمحاسنه على عيوبه، ولم يزل للشباب من لدن تشب عن الطوق إلى أن توارى في التراب ، وفي الدين الذي تلتهب به حرارة العقيد الفتية في صدور المؤمنين به؛ وفي رياض الربيع النامية، وفي ألاعيب الحب العابث حتى في قلوب الشيوخ. والشباب هو الحياة لأن ما قبله استعداد له وما بعده استعداد للموت.

والناس قد ألفوا أن ينظروا إلى حظ الشاب من شبابه فيلصقوا الشباب بحضيض هذه الأرض ويستصغروه لأنهم لا يرون ثمة إلا شهوات وأرجاساً. ولكنهم يخطئون ويظلمون. فما هذا الحظ القليل إلا اختلاس اللص السارق أو الأجير المسخر من تلك الأمانة الهائلة التي يشتمل عليها الشباب؛ وما يشتمل عليها إلا لفائدة الإنسانية كلها بل لفائدة الحياة التي تتخذ الانسانية آلة من آلاتها وجسراً لها على غاياتها. والمرأة إنما تساق سوقاً إلى عشق هذا الشباب الذي ليس لذاتها منه إلا نصيب قليل. فلو أنها نظرت إليه بعين التاجر لرفضته رفضاً لأنها تخسر منه أكثر مما تربح وتشقى به أضعاف ما تسعد؛ ولكنها تنظر إليه بعين المجاهد المغامر الذي تغلبه على رشده حماسة الحرب ونخوة البطولة. وتلك تفدية لا تستحق من العارفين بقدر الحياة إلا كل تقديس وإجلال.


***


ثم تحب المرأة المال ومنذ الذي يكره المال؟ غير أننا قد نرى للمرأة سبباً غير سائر الأسباب التي تغري بحب المال واعظام أصحابه. نرى أن كسب المال كان ولا يزال أسهل مسبار لاختبار قوة الرجل وحيلته وادعى الظواهر إلى اجتذاب القلوب والأنظار واجتلاب الاعجاب والاكبار. فقد كان أغنى الرجال في القرون الأولى أقدرهم على الاستلاب وأجرأهم على الغارات واحماهم أنفاً وأعزهم جاراً فكان الغني قرين الشجاعة والقوة والحمية وعنواناً على شمائل الرجولة المحببة إلى النساء أو التي يجب أن تكون محببة إليهن. ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أصبرهم على احتمال المشاق وتجشم الأخطار والتمرس بأهوال السفر وطول الاغتراب وأقدرهم على ضبط النفس وحسن التدبير فكان الغني في هذا العصر قرين الشجاعة أيضاً وقوة الارادة وعلو الهمة وصعوبة المراس. ثم تقدم الزمان فصار أغنى الرجال أبعدهم نظراً وأوسعهم حيلة وأكيسهم خلقاً وأصلبهم على المثابرة وأجلدهم على مباشرة الحياة ومعاملة الناس فكان الغني في هذا العصر قرين الثبات والنشاط ومتانة الخلق وجودة النظر في الأمور . وهكذا نجد اكتساب المال الكثير في كل عصر دليلاً على فضل الرجل وعلامة توحي إلى نفس المرأة ما يعين غريزتها على اختيار أجدر الرجال بحبها وأصلح الآباء لأبنائها. فلا تثريب عليها أن تختبر مزايا الرجل بهذا المسبار السهل القريب ولا لوم عليها أن تريد ثراء المال ولا تعدل به الفقر والفاقة. نعم ان هذه الحالات تختلف أحياناً وتنعكس في بعض المطالب التي يزاولها الرجال ولكن الفطرة العامة والميول الغريزية لا تركب على الشواذ ولا تبنى على المطالب الخاصة المستثناة وإنما تركب على القواعد الأصيلة والمطالب العامة التي تزاول في أكثر الأحوال وأشيعها على اختلاف الأمم والعصور.
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 03:18

ولقد عيب على المرأة تناقض شديد في الأخلاق والأطوار. فبينا هي عنيدة متغطرسة اذا هي مستسلمة ذليلة وبينا هي حكيمة حاذقة اذا هي غريرة ساذجة؛ تصبر صبر الأبطال ثم تجزع جزع الأطفال؛ وقد تخور فاذا قلب تهوله ذرات الهباء؛ وقد تقر فاذا جأش تنهزم عنه زعازع الأنواء. تقسو فتريك الوحش ضاريا. وتلين فتريك الماء جاريا. لها تضحية يضرب بها المثل. ولها أثرة تعز فيها الحيل. وهي في غالب أطوارها إما إلى هذا الطرف واما إلى ذاك الطرف ذهاباً وجيئة بين النقيضين المتباعدين؛ فلا توسط في فضائلها ولا اعتدال في نزعاتها؛ ولا يهمنا هنا من هذه الخلال أن ننقدها ونحاسب المرأة عليها وإنما نشير إليها لنقول أننا نحسبها من مقتضيات طبيعة المرأة وضرورات وظيفتها. ونبين ذلك فنقول أن المرأة خلقت يتنازعها احساسان قويان هما احساس العاشقة واحساس الوالدة وليس أغلب على نفسها ولا أملك لمشاعرها من هذين الاحساسين الغريزيين. فاذا تنبه فيها احساس العاشقة رامت من الرجل مراماً بعيداً وسرها منه أن يكون غلاباً لانداده مستعليا على خصومه مجازفا في مطامعه رهيب الجانب منيع الحوزة؛ وثارت في نفسها ثورة المزاحمة وما تستتبعه من عدد الجهات وصفات القسوة واللدد؛ واذا تنبه فيها احساس الأمومة آثرت الرفق والهوينا وودت لو كانت الأرض رخاء كلها فلا حرب ولا خصومة ولا غل ولا ملاحاة الا المودة والحسنى والسماحة للأعداء والعفو عن المسيئين؛ ومن هذا التناقض بين هذين الاحساسين ينشأ تناقض آخر في كثير من الهنات والبدوات. لأن الطبيعة متى بنيت على اختلاف الأهواء لم يقف هذا الاختلاف على موضوعه الأول وهو التنازع بين احساس العشق واحساس الأمومة بل تجاوزه إلى كل ما يجيش بالنفس من المشاعر والمدركات؛ والمرأة سواء نظرت بعين الحب الجنسي أو بعين الحنان الأموي تنقاد في الحالين للغريزة والشعور فلا تملك ارادتها ولا تستمع لنصيحة العقل اذا أمرها أو نهاها ومن كان لا يملك ارادة ولا يستمع لنصيحة عقل فهو عرضة للتناقض في كل حين كلما تغيرت عليه الطوارئ وتجاذبته الدواعي. كأنه سفينة تختلف عليها مهاب الرياح .

ومما يعاب على المرأة الرياء. ولست أبرئها منه ولكني أظن رياءها أنفع من صراحتها وأصدق في نظر الحياة من صدقها. فالمرأة مجبولة على الزينة والتمنع. والزينة ضرب من الرياء ولكنه منتسب إلى حب الجمال ونواميس الطبيعة في جميع طبقات الحيوان، والتمنع خلة تبلو بها المرأة أقصى ما عند الرجل لكيلا تسلم في قلبها لمن لا يستحق شرف الابوة لأبنائها. وقد تميل المرأة إلى الرجل لأول نظرة ولكنها تمنع نفسها منه حتى ترى أقصى ما يستطيعه من حول وحيلة وقوة جنان وخلابة لسان. فاذا سلمت له بعد ذلك سلمت مغلوبة على أمرها حتى لا ينال حبها إلا رجل غالب متفوق بين الرجال.

ان الزينة هي العناية بالظواهر والتمنع هو اخفاء ما في باطن النفس. وكلاهما لازم للمرأة أو للطبيعة وكلاهما يستدعي الرياء والمحاولة؛ ولا سيما إن كانا في خلق ضعيف لا يقدر على اظهار كل ما يخالجه ولا يأمن أن يبوح بكل سره. ولو أننا خيرنا بين امرأة صريحة أن تهجر الزينة وتطيع أول رغبة وبين امرأة مرائية أي تتحلى وتستعصم لما طال بنا التردد والاختيار ولعلمنا حينئذ أن فلسفة الطبيعة أصدق وأحكم من فلسفة علم الأخلاق.


***


وللمرأة خلال كثيرة من هذا القبيل يأباها علم الأخلاق وينفيها الفلاسفة من عداد الأخلاق الكريمة ولكنها عريقة في الطبيعة بعيدة الغور في الحياة فخير ما تصنعه المدنية في هذه الخلال أن توفق بينها وبين مطالبها أحسن توفيق مستطاع. أما أن تستأصلها وتقضي عليها فتلك جريمة كبرى وسعي عقيم.



العقاد
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
الوتر الحزين
شخصيات هامة
شخصيات هامة
الوتر الحزين

ذكر
العمر : 57
عدد الرسائل : 18803
رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 210
بلد الإقامة : مصر
احترام القوانين : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 111010
العمل : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Unknow10
الحالة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Yragb11
نقاط : 32733
ترشيحات : 121
الأوســــــــــمة : رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 112

رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 Empty
مُساهمةموضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين   رحلة مع رهين المحبسين - صفحة 4 I_icon_minitime17/6/2009, 03:21

إلى هنا تنتهي سلسلة مقالات العقاد عن المعري في كتابه ( مطالعات في الكتب والحياة)
وتنتهي معه رحلتنا في عالم المعري التي آمل أنها أمتعت وأفادت في فهم شيء من حكمة وفلسفة هذا المتشاءم والساخر ممن يدعي فهمه
:

أقررت بجهلي وادّعى فهمي *** قوم فأمري وأمرهم عجب

وأخيراً ولمن يرغب بالاستزادة فهنالك دائماً المزيد:
إطلالة على السخرية عند أبي العلاء المعري
مع أبى العلاء فى سجنه
تجديد ذكرى أبى علاء
شروح سقط الزند


شكراً لكل من مر وقرأ واستمتع وترك أثراً
شكراً لكم وإلى اللقاء مع رحلة قادمة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://alalamy1.yoo7.com
 
رحلة مع رهين المحبسين
استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 4 من اصل 5انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» رحلة بلا عودة
» رحلة المسواك
» رحلة بلا عودة
» رحلة فى الكون
» رحلة الصرصور اليومية

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الشاعر عبد القوى الأعلامى :: المنتديات الأدبية :: المنتديات الأدبية :: منتدى الشعر العامودى الفصيح-
انتقل الى: