|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 01:53 | |
| أبو العلاء والحكام
كان حبل الأمن مضطرباً في أيام المعري، تتعرض بلده للغارات المتتالية وأحس بالظلم الذي كان يعانيه الشعب، والقبضة الشديدة التي يسلطها الحكام على أهل وطنه ولم يكن من سبيل له للوقوف ضدهم إلا بالكلمة والحرف، فيذكر القوم والأمراء على حد سواء بأن هؤلاء ليسوا سوى خدم لأولئك، وعلى أولئك القوم التنبه لذلك.. فقال:
إذا ما تبيَّنَا الأمور تكشفتْ *** لنا وأميرُ القومِ للقومِ خادمُ
وقد قال ذلك قبل أن تكتشف جماعة حقوق الانسان بزمن أن الأمراء هم أجراء الأمة وكان ذلك بحق ثورة فكرية، يرجى لها الأثر الطيب، لو أنه سكبها في القالب الشعري الذي يفهمه عامة الشعب وليس طبقة معينة منهم، وجعل كلمته بسيطة مفهومة المعنى، علاوة على أنه قد عرض نفسه لحقد من ينقدهم ، فباتوا يتحينون الفرص لمحاسبته:
وَفي كُلِّ مِصرٍ حاكِمٌ فَمُوَفَّقٌ *** وَطاغٍ يُحابي في أَخَسِّ المَطامِعِ* يَجورُ فَيَنفي المُلكَ عَن مُستَحَقِّهِ *** فَتَسكُبُ أَسرابُ العُيونِ الدَوامِعِ
ويقول مخصصاً بقوله والي مصر:
أيا والي المصر لا تظلمنْ *** فكم جاء مثلك ثم انصرف
لكنه كثيراً ما كان يراجع نفسه ليقول بأن الحكام هم حماة الأمة في الأرض؛ وعلى الأمة اطاعتهم:
إِن يَظلِموا فَلَهُم نَفعٌ يُعاشُ بِهِ *** وَكَم حَمَوكَ بِرَجلٍ أَو بِفُرسانِ
أبو العلاء والطبقات
المال في رأي أبي العلاء مجلبة للهموم والتعب، وهو وسيلة الضلال في الوجود والفقر شعار الزهد والقناعة فقد قال:
وَكَثرَةُ المالِ شُغلٌ زادَ في نَصَبٍ *** وَقِلَّةٌ مِنهُ مَعدولٌ بِها الفَلتُ
وقال:
المالُ يُسكِتُ عَن حَقٍّ وَيُنطِقُ في *** بُطلٍ وَتُجمَعُ إِكراماً لَهُ الشِيَعُ*
ولم يسع مرة للحصول على المال، ولم يحاول مرة التزلف إلى الأمراء، ومدحهم بالقصائد الطويلة كما كان يفعل أكثر الشعراء في عصره، ولم يكن هذا ضعفاً منه، بل كان قناعة وزهداً في المال، لأن المال ظل لن يلبث أن يزول وعندما كان يُتهم بأن لديه مالاً كان يقول مكذباً ذلك بهدوء:
بِلا مالٍ عَنِ الدُنيا رَحيلي *** وَصُعلوكاً خَرَجتُ بِغَيرِ مالِ
ومن هنا لا بد لنا أن نوضح بأن نقده للأغنياء الذي سيأتي بعد قليل ليس مرده إلى حسده لهم كما يظن البعض، أو لأنه كان فقيراً، ولم يكن ذلك إلا من باب الشفقة على الفقراء، لكنه ليس إلى الحد الذي يريد به التخمة لهم، فهو وإن كان ينادي بضرورة إعطاء الفقير مال الغني إلا أنه لم يكن ليريد للفقير أن يصبح ثرياً كون ذلك سيزيد فقره علاوة على أن الفقر عنده هو أصل الانسان والغنى ليس سوى صفة عارضة اكتسبها الانسان:
إِذا زادَكَ المالُ اِفتِقاراً وَحاجَةً *** إِلى جامِعيهِ فَالثَراءُ هُوَ الفَقرُ
وهو راضٍ أبداً عن الفقر فيقول:
وَالفَقرُ أَحمَدُ مِن مالٍ تُبَذِّرُهُ *** إِنَّ اِفتِقارَكَ مَأمونٌ بِهِ السَرَفُ
أي إن الفقر برأي أبي العلاء هو الحصن الذي يحمي الشرف والخلق. ومما سبق نرى أن نقده للغنى ليس كما عرفناه أو سنعرفه في نقده للمجتمع متفلسفاً واضعاً نظريات الاصلاح أو منادياً بفكرة معينة يُعمل بها، واذا علمنا أنه كان عارفاً بفكرة الشيوع ونظام المواريث وحق الملكية، واقتناء العقارات واكتناز المال، مطلعاً عليها مما وصله من الكتب اليونانية، وما كتبه في هذه الناحية فلاسفتها مثل افلاطون وسقراط وأرسطو. وإذا علمنا أيضاً أنه كان يحبذ تلك الأفكار نستطيع أن نجزم بأنه لم يضمن ذلك أشعاره وينادي بأية فكرة تتعلق بها كبقية النواحي الأخرى، وذلك لخوفه وخشية العاقبة وكان يكتفي بقول القليل حاضاً على الاشتراكية والديموقراطية، فلا نكاد نعثر إلا على النزر اليسير من شعره حول ذلك فيقول مثلاً:
لَو كانَ لي أَو لِغَيري قَدرُ أُنمُلَةٍ *** فَوقَ التُرابِ لَكانَ الأَمرُ مُشتَرَكا |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 01:56 | |
| وربما يكون ذلك القول يتم في حالة يكون فيها ناسياً نفسه أو قوميته العربية كما يقول أيضاً بأنه ليس للهاشمية إلا ما يجب أن يكون للبربري وهم سواسية:
لا يفخرنّ الهاشمي *** على امرئ من آل بربر
وهو يعود دائماً إلى وصف حياة الفقر فكأنما تلك الوسيلة الوحيدة لاستعطاف الأغنياء تلك الحياة التي يكشفها الشتاء برياحه العاصفة وأمطاره الغزيرة، ويكشف الفرق الكبير بين الفقير العريان، والغني المدثر بالثياب:
لَقَد جاءَنا هَذا الشِتاءُ وَتَحتَهُ *** فَقيرٌ مُعَرّى أَو أَميرٌ مُدَوَّجُ*
ويحذر أبو العلاء الملوك قائلاً لهم بأن الملك ليس إلا لله:
تَسَمَّت رِجالٌ بِالمُلوكِ سَفاهَةً *** وَلا مُلكَ إِلّا لِلَّذي خَلَقَ المُلكا
ويدعو إلى الثورة وإلى استبدال الضعف بالقوة، والكلمة بالسيف لأخذ الحق فيقول:
كَلِّم بِسَيفِكَ قَوماً إِن دَعَوتَهُمُ *** مِنَ الكُلومِ فَما يُصغونَ لِلكَلِمِ
أبو العلاء عدو المرأة والزواج
لقد نقد أبو العلاء المرأة نقداً عنيفاً وأكثر من ذكرها بشعرٍ لا يعرف التملق والهوادة، فكان قاسياً في كلماته، لاذعاً في أحرفه، وكأنني أرى كل النساء وقد بتن يخشين نقده، ويحسبن له الحساب، وأكثر من ذلك بعد عودته من بغداد حيث كان الفجور والخليعات، والمخنثون، والجاريات، لا يهمهم سوى اللهو والخمرة والهوى والمتعة. وكما نعرف أن أبا العلاء كان يتمنى للبشرية الفناء، وحتى أن يموت الوليد ساعة ولادته وتمنيه لو يستطيع أن يترك الدنيا، والرحيل إلى العالم الآخر، فإننا نستطيع أن نقول بأن كل ذلك قد ولّد في نفسه الكره للمرأة، وهي التي تلد وتزيد في النسل، وتُكثر في العالم الأشقياء، ولولاها لما كان ثمة أناس جدد يأتون إلى العالم، ولتوقفت الحياة بعد زمن. وكان يرى فيهن الكيد والتملق، والتظلم والمرأة هي دائماً الظالمة، فازداد كرهه لها وزاد من حدة نقده، حتى أنه دعا إلى عدم القاء التحية عليها، فاستمع إليه يقول:
وَلا تُرجِع بِإيماءِ سَلاماً *** عَلى بيضٍ أَشَرنَ مُسَلِّماتِ* أُلاتُ الظَلمِ جِئنَ بِشَرِّ ظُلمٍ *** وَقَد واجَهنَنا مُتَظَلِّماتِ
ووصفها بأنها بغير عقل، والكذب أولى صفات أكثرهن، بل ربما كان يود أن يقول أن جميعهن بغير عقل، ولم يكن يمنعه من قول ذلك سوى الود الذي كان يحمله لوالدته التي بكاها بقسوة وحزن حزناً عميقاً لوفاتها. وقد عاب على المرأة طلبها الزينة، وميلها إلى الزواج، حتى اذا لم تستطع ذلك انزلقت إلى الضلال وهذا ليس من صفات الرجال في شيء:
يُرِدنَ بُعولَةً* وَيُرِدنَ حَلياً *** وَيَلقَينَ الخُطوبَ* مُلَوَّماتِ
ويقول مبيناً إن الرجل وحده من يذود عن الوطن، والمرأة قابعة في بيتها وكأنما نسي الخنساء وخولة وغيرهما.,. بقوله:
وَلَسنَ بِدافِعاتٍ يَومَ حَربٍ *** وَلا في غارَةٍ مُتَغَشِّماتِ
وأن النساء لسن سوى حبال غيٍّ يغوين حتى الطفل الصغير الذي لم يكتمل عقله:
أَلا إِنَّ النِساءَ حِبالُ غَيٍّ *** بِهِنَّ يُضَيَّعُ العقلُ التَليدُ
وهن فوق كل ذلك يسعين بشتى أنواع أسلحتهن لاغواء الرجل؛ فيقول بأن جنودها الفتنة واعلامها الضلال وسلاحها الزينة، ولم ترض بما خلع عليها الله من جمال فسعت لتلوين وجهها فيقول:
فَوارِسُ فِتنَةٍ أَعلامُ غَيٍّ *** لَقينَكَ بِالأَساوِرِ مُعلِماتِ وِسامٌ ما اِقتَنَعنَ بِحُسنِ أَصلٍ *** فَجِئنَكَ بِالخِضابِ مُوَسَّماتِ* |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:01 | |
| وينتفض من مكانه ليقول لمن يحلم بليلة عرسه على أنها الليلة السعيدة في حياته فيبني عليها الأحلام الجميلة والآمال العراض ليقول له بأن عروسك ليست سوى أفعى فدعها. وهي ليس تنجب لك سوى الأحناش والأعداء والمصائب..
عَروسُكَ أَفعى فَهَب قُربَها *** وَخَف مِن سَليلِكَ فَهُوَ الحَنَش*
ويقول:
يَلِدنَ أَعادِياً وَيَكُنَّ عاراً *** إِذا أَمسَينَ في المُتَهَضَّماتِ*
وكان يعتبر أن ولادة المرأة ولداً أهون بكثير من ولادتها بنتاً، إذ أنها ستزيد النكبات والآثام وتلحق العار بذويها:
وَإِن نُعطَ الإِناثَ فَأَيُّ بُؤسٍ *** تَبَيَّنَ في وجوهِ مُقَسَّماتِ
ونراه أخيراً يدعو بعدما رأى من المرأة ما رأى وجال في خاطره حولها ما أسلفنا، يدعو إلى دفنها حية أثناء المصائب والتخلص منها، وإن ذلك إحدى المكرمات التي يجب أن يتحلى بها الرجل:
وَدَفنٌ وَالحَوادِثُ فاجِعاتٌ *** لِإِحداهُنَّ إِحدى المَكرُماتِ
بل ذهب إلى أبعد من ذلك فدعا إلى دفنهن في أي وقت كان، إذ أن ذلك خير لها من الزينة بالأكاليل، واقامتهن في الخدور فيقول:
وَدَفنُ الغانِياتِ لَهُنَّ أَوفى *** مِنَ الكِلَلِ المَنيعَةِ وَالخُدورِ*
ولم يكن يفرق في نقده بين امرأة وأخرى فينظر إلى حسبها ونسبها أو دينها ومذهبها، وأننا لم نعرفه مرة ناقداً للرجل معاتباً إياه على الزواج حتى ولو جمع بين أكثر من واحدة. لأنه إن تزوج اثنتين فإنه سيصبح محارباً ولن يستطيع الصمود وسيتغلبن عليه بكيدهن ومكرهن ويحذره من الوقوع في حبائل ثلاثة:
وَإِن كُنتَ غِرّاً بِالزَمانِ وَأَهلِهِ *** فَتَكفيكَ إِحدى الآنِساتِ الحرائِرِ
ترى هل جسر أحد على نقد المرأة كذلك قبله، وهل أتى أو سيأتي من يعلن مثل هذه الحرب ضدها؟!! الجواب بسيط وهو أنه لن يجسر أحد على ذلك، ويعرف أبو العلاء نفسه تلك الحقيقة ويعرف أن الزمن كلما تقدم ازداد غي المرأة ومكرها وبالتالي تسلطها، وليس بعيداً من أن يأتي اليوم الذي تحكم المرأة فيها زوجها ولو كان يحكم أمه:
وَهَل يُنكِرُ العَقلُ أَن يَستَبدِ *** دَ بِالمُلكِ غانِيَةٌ غَيلَمُ |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:03 | |
| اعتقاد أبي العلاء
لقد استطاع النقاد قديماً وحديثاً تقييم أبي العلاء من كل النواحي عدا الناحية الدينية التي ما زال أكثرهم يتردد قبل اصدار حكمه، أما من يصدر حكمه عليه فاما أن يتهمه بالزندقة والكفر وإما أن يصفه بأنه من أشد الناس إيماناً بوجود الله تعالى مستندين إلى بعض شعره وأقواله بأن الله حق وأنه لا ينبغي أن يشك أحد في وجوده، فيكفي لأن ننظر إلى الكون ونرى عجائبه لنؤمن بتلك القوة الالهية التي تسير أموره:
أَما تَرى الشُهبَ في أَفلاكِها اِنتَقَلَت *** بِقُدرَةٍ مِن مَليكٍ غَيرِ مُنتَقِلِ
ويقول مبيناً أن الله جل جلاله أعظم من أن يوصف أو يكون له شبيه، وداعياً إلى الايمان المطلق:
مولاكَ مَولاكَ الَّذي ما لَهُ *** نِدٌّ وَخابَ الكافِرُ الجاحِدُ آمِن بِهِ وَالنَفسُ تُرقى وَإِن *** لَم يَبقَ إِلّا نَفَسٌ واحِدُ
وقضية الايمان بالله لم ينقسم فيها النقاد ذلك الانقسام الذي انقسموه عندما يتطرق المعري إلى الايمان بالملائكة والرسل والكتب المنزلة، وربما كان من يقف معه قد ينقلب ضده عندما يقرأ شعره في موقفه مما ذكرت، فقضية الايمان عند المعري ليست قضية كتب وأنبياء وتعاليم، بل هي قضية إيمان بوجود الله فقط والتسليم له في كل الأمور، ويهاجم الاديان كلها؛ فاذا كان الايمان واحد، لماذا كل هذه الطوائف والمذاهب؟.. وقد سبب هذا الرأي في تشكك بعض اخوانه المسلمين الضعفاء في عقيدتهم، واذا كنا نسمع، وتأكدنا أنه كان ينطق بالشهادتين، ويصلي على الرسول صلى الله عليه وسلم ويقيم الصلاة ويحث على الزكاة، ويمتدح الاسلام والرسول (ص) أحياناً، ونعرف أنه حارب الاسلام في شعره وأبدى شكه في التعاليم التي جاء بها والعقائد الاساسية فيه، نستطيع أن نقول بأن إيمانه هذا لم يكن سوى تظاهر فقط، لكننا نتوقف لنقول بأنه ربما كان نفيه لتعاليم الاسلام والحاده وشكه يرجع إلى حالات عصبية وتشاؤمية كانت تعتريه في بعض الأحيان عندما يحس بالعاهة التي ألمت به، فينطق بأقواله دون تريث وتعقل .. وبامكاننا أن نرجح الفرض الأول بأن ايمانه كان تظاهرياً اذا ما استندنا إلى مسلكه العام في الابهام والغموض في أقواله واتباعه خطة الرمز والتلميح والكناية كستار يظهر الحاده من ورائه.. وبامكاننا أيضاً أن نعيد هذا التناقض في آرائه إلى باب التطور اذ أنه لم يثبت على عقيدته منذ البدء حتى النهاية، ولم يفكر بها ولا بأصلها، وقد أتاح له سجنه تلك الفرص، ليطلق لفكره العنان بذلك، فدخل مؤمناً بكل التعاليم الدينية الصحيحة، وخرج وهو لا يؤمن الا بوجود خالق لهذا الكون هو الله، وهجر كل العقائد فيقول مقررا الايمان بالله وحده، وأنه سيتجنب الاعمال القبيحة، ويلوم نفسه على أنه خدع عقله بعض الوقت، فصدق أرباب الأديان:
أَدينُ بِرَبٍّ واحِدٍ وَتَجَنُّبٍ *** قَبيحَ المَساعي حينَ يُظلَمُ دائِنُ لَعَمري لَقَد خادَعتُ نَفسِيَ بُرهَةً *** وَصَدَّقتُ في أَشياءَ مَن هُوَ مائِنُ
لقد كان المعري يعرف كيف يرضي أصدقاءه ويتحاشى خطر الاضطهاد والاتهام فجاء بهذا الشعر المبهم الغامض، متناقضاً حتى لا يستطيع أحد أن يأخذ عليه شيئاً فيتهمه. ولكن لماذا لا نعيد تناقضه هذا استحيائه من أن يقول أنه لم يفهم التعاليم الدينية وأنه كان بحاجة لمن يفهمه إياها؟!... إن شهرته التي ملأت الآفاق ومعرفته بالشعر واللغة قد يكون لها الاثر الأول في عدم طلبه صراحة من يرشده ويعطيه التفسير الصحيح لكل التعاليم التي التبس عليه امرها، ولم يكن له ازاء ذلك الا التصحيف والكناية.. ووفق بذلك، لكن أحداً لم يفهمه، فاتهموه بالزندقة والالحاد، ولم يكن يرد على ذلك الا بتأكيد ايمانه بالله حتى يسكت تلك الافواه التي تحاول اتهامه، ثم تراه يعود إلى تشككه: وبقي هكذا ورحل عن الدنيا ولم يأته من يقنعه ويلزمه الحجة.. ربما كان هذا خير رأي يمكننا الأخذ به فلا نظلم الشاعر، ونأخذه بحسن نية ولكننا نعود فنتساءل: لماذا حاول الاتيان بقرآن جديد في كتابه الذي أسماه "الفصول والغايات"؟!.. وعارض القرآن الكريم في "رسالة الغفران"؟!.. إن هذا يجعلنا نقف مرة أخرى حائرين مترددين!!.. |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:06 | |
| رأي ابي العلاء بالنبي محمد (ص)
لم يكن النبي (ص) في رأي أبي العلاء سوى مصلح اجتماعي امتدحه في مواضع قليلة من كتابه "اللزوميات" ولم يمتدحه كنبي، وانما كمصلح يدعو إلى الفضيلة وله في مديحه قوله:
دَعاكُم إِلى خَيرِ الأُمورِ مُحَمَّدٌ *** وَلَيسَ العَوالي في القَنا كَالسَوافِلِ وَأَلزَمَكُم ما لَيسَ يُعجِزُ حَملُهُ *** أَخا الضَعفِ مِن فَرضٍ لَهُ وَنَوافِلُ* وَحَثَّ عَلى تَطهيرِ جِسمٍ وَمَلبَسٍ *** وَعاقَبَ في قَذفِ النِساءِ الفَواضِلُ
إلى أن يقول:
فَصَلّى عَلَيهِ اللَهُ ما ذَرَّ شارِقٌ *** وَما فَتَّ مِسكاً ذِكرُهُ في المَحافِلِ*
إننا نراه يمتدحه كملك أتى بهذه التعاليم المستحسنة لديه من عنده وليست من عند الله. ولا نعتبره في البيت الأخير إلا حاذياً حذو أكثر الشعراء التقليديين الذين يبدأون كلامهم بالصلاة على الرسول الكريم وينهونه كذلك.
رأيه في الأديان الأخرى وبقية الأنبياء
إن طعن أبي العلاء بالاسلام من وراء ستار قد نجاه من القتل، ولم يكن يستطع طعنه إلا كذلك، اذ ليس للملحد سوى القتل اذا لم يعد إلى دينه. ولكنه كان يستطيع الطعن في الأديان الأخرى كالمسيحية واليهودية دون عقاب، فتهجم عليها صراحة واسمعه يقول ساخراً:
تَفَوَّهَ دَهرُكُم عَجَباً فَأُصغوا *** إِلى ما ظَلَّ يُخبِرُ يا شُهودُ إِذا اِفتَكَرَ الَّذينَ لَهُم عُقولٌ *** رَأَوا نَبَأً يَحُقُّ لَهُ السُهودُ* غَدا أَهلُ الشَرائِعِ في اِختِلافٍ *** تُقَضُّ بِهِ المَضاجِعُ وَالمُهودُ* فَقَد كَذَبَت عالى عيسى النَصارى *** كَما كَذَبَت عَلى موسى اليَهودُ وَلَم تَستَحدِثُ الأَيّامُ خُلُقاً *** وَلا حالَت مِنَ الزَمَنِ العُهودُ |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:08 | |
| وفي بيته الأخير تهجماً خفياً على الاسلام كونه جاء ولم يُزِلْ الشرور مثله مثل اليهودية والنصرانية ويقول مكذباً ادعاء المسيحية بأن المسيح عليه السلام بلا أب وأنه صلب:
عَجَباً لِلمَسيحِ بَينَ أُناسٍ *** وَإِلى اللَهِ والِدٍ نَسَبوهُ أَسلَمَتهُ إِلى اليَهودِ النَصارى *** وَأَقَرّوا بِأَنّهُم صَلَبوهُ يُشفِقُ الحازِمُ اللَبيبُ على الطِف *** لِ إِذا ما لِداتُهُ ضَرَبوهُ وَإِذا كانَ ما يَقولونَ في عي *** سى صَحيحاً فَأَينَ كانَ أَبوهُ كَيفَ خَلّى وَليدَهُ لِلأَعادي *** أَم يَظُنّونَ أَنَّهُم غَلَبوهُ
وهو يهاجم كل الرسل بعنف وبكل ما جاءوا به وأنهم السبب الوحيد لفساد الكون إذ قسموه إلى شيع ومذاهب:
ولا تحسب مقال الرسلِ حقاً *** ولكن قول زورٍ سطّروهُ وكان الناس في عيش رغيطٍ *** فجاءوا بالمحال فكدروه
وعلى هذا الأساس يخاطب الناس حاثاً إياهم على الانتباه من غفوتهم فيقول:
أفيقوا أفيقوا يا غواةُ فإنما *** دياناتكم مكرٌ من القدماء
ومنه قوله الذي يتعرض فيه لكل الاديان فيقول:
عجبتُ لكسرى وأشياعه *** وغسلِ الوجوهِ ببولِ البقرْ وقولِ النصارى إلهٌ يضامُ *** ويُظلمُ حياً ولا يَنتَصِرْ وقول اليهود إلهٌ يَحِّبُ *** رشاشَ الدماءِ وريحَ القترْ* وقومٍ أتوا من أقاصي البلادِ *** لرمي الجمار ولثم الحجر فواعجبي من مقالاتهم *** أيعمى عن الحق كل البشرْ
ويقول أن كل طفل يولد دون اختيار منه، وينشأ ليحمل الدين الذي يحمله أبوه دون تفكير به ودون أن يجد الشجاعة لرفضه فيأخذه كما هو:
وَيَنشَأُ ناشِئُ الفِتيانِ مِنّا *** عَلى ما كانَ عَوَّدَهُ أَبوهُ وَما دانَ الفَتى بِحِجىً* وَلَكِن *** يُعَلِّمُهُ التَدَيُّنَ أَقرَبوهُ
ويبين للناس أن كل تعاليمهم هي تقليد للقدماء حتى ايمانهم بالله:
في كُلِّ أَمرِكَ تَقليدٌ رَضيتَ بِهِ *** حَتّى مَقالُكَ رَبِّيَ واحِدٌ أَحَدُ
ويعود فيسخر من كل الأديان إذ أن كل دين يأتي فيبطل ما قبله ويجيء بتعاليم جديدة :
دَعا موسى فَزالَ وَقامَ عيسى *** وَجاءَ مُحَمَّدٌ بِصَلاةِ خَمسِ وَقيلَ يَجيءُ دينٌ غَيرُ هَذا *** وَأَودى الناسُ بَينَ غَدٍ وَأَمسِ
إذا كان أبو العلاء قد هاجم الأنبياء والشرائع فما أحراه بأن يهاجم الأديان والمذاهب التي لا غاية لها إلا كسب المال باسم الدين، وما أحراه بأن ينقم على مستغليها ويسخر منهم، وقد بلغ من سخريته من أحد المشايخ الذي لم يره مرة واحدة يدخل المسجد للصلاة، فيشبهه بابليس لأنه لم يسجد:
ما لي رَأَيتُكَ لا تُلِمُّ بِمَسجِدٍ *** حَتّى كَأَنَّكَ في البَلاغِ السابِعِ*
وهو يرى أن شيوخ عصره وقسوسته لا عمل لديهم سوى المكر والحيل فيقول لأحد المغررين بهم:
رُوَيدَكَ قَد غُرِرتَ وَأَنتَ حُرٌّ *** بِصاحِبِ حيلَةٍ يَعِظُ النِساءَ يُحَرِّمُ فيكُمُ الصَهباءَ* صُبحاً *** وَيَشرَبُها عَلى عَمَدٍ مَساءَ
ويقول أنه ليست العبرة في المسابح الطويلة وأن هذه من وسائل المخادعة:
وَلَيسَ عِندَهُمُ دينٌ وَلا نُسُكٌ *** فَلا تَغِرَّكَ أَيدٍ تَحمِلُ السُبَحا
ويقول بأن اليهودي لا يحمل توراته إلا لكسب المال:
وَإِنَّما حَمَّلَ التَوراةَ قارِئَها *** كَسبُ الفَوائِدِ لا حُبُّ التِلاواتِ إِنَّ الشَرائِعَ أَلقَت بَينَنا إَِحناً *** وَأَودَعَتنا أَفانينَ العَداواتِ* |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:11 | |
| وأنه لا يجمع هذا المال إلا ليعصي به الله ويقتنص النساء فيقول:
وَإِنَّما رامَ نُسواناً تَزَوَّجَها *** بِما اِفتَراهُ وَأَموالاً تَمَوَّلَها*
ويرجع إلى أصحاب المذاهب الاسلامية الذي أضلّوا الناس بقولهم فيقول:
أَجازَ الشافِعِيُّ فَعال شَيءٍ *** وَقالَ أَبو حَنيفَةَ لا يَجوزُ فَضَلَّ الشيبُ وَالشُبّانُ مِنّا *** وَما اِهتَدَتِ الفَتاةُ وَلا العَجوزُ
ولا يسلم المتصوفة من نقده اللاذع وسخريته فكان لهم خصماً عنيداً في كل وقت فيقول هازئاً منهم أنهم إن كانوا صوفيين فإن المعري وقومه قطنيون، وحسبهم القطن لباساً:
نَحنُ قَطنيَّةٌ وَصوفيَّةٌ أَن *** تُم فَقَطني مِنَ التَجَمُّلِ قَطني* تَقطَعونَ البِلادَ بَطناً وَظَهراً *** إِنَما سَعيُكُم لِفَرجٍ وَبَطنِ
والمنجمون في رأي أبي العلاء هم أشد الناس كفراً، فيأكلون مال الناس بالكذب والخداع ويفسدون العقل بالوهم، يتظاهرون بمعرفتهم للغيب وهم لا يعرفون شيئاً حتى عن أنفسهم:
يُنَجِّمونَ وَما يَدرونَ لَو سُئِلوا *** عَنِ البَعوضَةِ أَنّى مِنهُمُ تَقِفُ
ويؤكد بأن الله وحده هو الذي بيده مفاتيح الغيب فيقول:
يُحَدِّثُنا عَمّا يَكونُ مُنَجِّمٌ *** وَلَم يَدرِ إِلّا اللَّهُ ماُ هُوَ كائِنُ
ويتناول النساء اللائي يقفن بباب المنجمين يسألنهم علم الغيب، فيقول واصفاً إحداهن وقد جاءت تسأل عن حال زوجها الذي تغير فراح هذا يكتب لها تعاويذه بالزعفران:
وَقَفَت بِهِ الوَرهاءُ وَهيَ كَأَنَّها *** عِندَ الوُقوفِ عَلى عَرينٍ تَهجُمُ* سَأَلَتهُ عَن زَوجٍ مُتَغَيِّبٍ *** فَاِهتاجَ يَكتُبُ بِالرِقانِ وَيُعجِمُ* وَيَقولُ ما اِسمُكِ وَاِسمُ أُمُّكِ إِنَّني*** بِالظَنِّ عَمّا في الغُيوبِ مُتَرجمُ يولي بِأَنَّ الجِنَّ تَطرُقُ بَيتَهُ *** وَلَهُ يَدينُ فَصيحُها وَالأَعجَمُ
رأي أبي العلاء في العقائد الاسلامية:
لم يكن أبو العلاء يؤمن بأركان الدين الاسلامي كاملة فكان يؤمن منها بثلاثة فقط هي الصلاة والصيام والزكاة ويتجاهل غيرها، فلا يعتبر الحج مثلاً ركناً من أركان الإسلام. وينف منه، فيقل في حثه على الصلاة والزكاة:
أَزولُ وَلَيسَ في الخَلّاقِ شَكُّ *** فَلا تَبكوا عَلَيَّ وَلا تُبَكّوا خُذوا سِيَري فَهُنَّ لَكُم صَلاحٌ *** وَصَلّوا في حَياتِكُم وَزَكّوا
أما عن حثه على الصيام فيقول:
وَصُم رَمَضانَ مُختاراً مُطيعاً *** إِذِ الأَقدامُ مِن قَيظٍ رَمِضنَه
وقد كان يزدري الحج كثيراً ويحتقر أولئك الذين يسيرون الاميال الكثيرة كل عام للقيام بتلك الفريضة:
أَرى عالَماً يَرجونَ عَفوَ مَليكِهِم *** بِتَقبيلِ رُكنٍ وَاِتِّخاذِ صَليبِ فَغُفرانَكَ اللَهُمَّ هَل أَنا طارِحٌ *** بِمَكَّةَ في وَفدٍ ثِيابَ سَليبِ
ويقول مخاطباً إحدى النساء أنه لا يعتبر ذلك فريضة على النساء والعجائز والبنات:
أَقيمي لا أَعَدُّ الحَجَّ فَرضاً *** عَلى عُجُزِ النِساءِ وَلا العَذارى
لكننا لم نعثر له على قول يحدد فيه أن الحج للرجال فقط، لكنه يقرر أنه لن يحج ما دام يحمي مكة قومٌ سفهاء يشربون الخمر فيها، وقد حرم الاسلام ذلك..
وَما سَيري إِلى أَحجارِ بَيتٍ *** كُؤوسُ الخَمرِ تُشرَبُ في ذَراها
ويقول:
فَفي بَطحاءِ مَكَّةَ سِرُّ قَومٍ *** وَلَيسوا بِالحُماةِ وَلا الغَيارى
وفي اعتقادي أن قوله هذا لم يكن إلا حجة أتى بها لئلا يقوم بهذه الفريضة، لأنه لم يكن يعتقد بها، في قرارة نفسه أو قد نفر منها كثيراً، ويمكننا أن نرجع ذلك إلى أسباب منها أنه كان يرى فيها عودة إلى الحياة الوثنية إذ يقول:
لَم يُثبِتوا بِقِياسٍ أَصلَ دينِهِمُ *** فَيَحكُموا بَينَ رُفاضٍ وَنُصّابُ ما الرُكنُ في قَولِ ناسٍ لَستُ أَذكُرُهُم *** إِلّا بَقِيَةُ أَوثانٍ وَأَنصابِ |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:15 | |
| القضاء والقدر
تردد أبو العلاء وحار في امره بين مذاهب ثلاثة في الاختيار والاجبار أو رفض الاثنين معاً، فتارة نراه يلقي اللوم على الانسان في كل أعماله المسيئة وأنه من المستحيل أن يرغم الله عز وجل، انساناً على القيام بعمل يضر به فيقول مثلاً:
كَذَبَ اِمرُؤٌ نَسَبَ القَبيحَ إِلى *** الَّذي خَلَقَ الأَنامَ وَخَطَّ في بِرسامِهِ*
ثم يقف موقف المتردد فلا يستطيع أن يلقي اللوم على الانسان كذلك لا يمكنه الشك بقول الخالق جل وعلا فيقول:
رَأَيتُ سَجايا الناسِ فيها تَظالُمٌ *** وَلا رَيبَ في عَدلِ الَّذي خَلَقَ الظُلما
لكننا نراه في نهاية البيت يقرر أن الظلم من خلق الله، ويمكننا أن نرجع ذلك إلى إيمانه بأن الإنسان مجبر في أعماله مخالفاً بذلك قوله السابق، ثم يقرر أخيراً بأن الإنسان مسير في كل أعماله فيقول:
ما بِاِختِياري ميلادي وَلا هَرَمي *** وَلا حَياتي فَهَل لي بَعدُ تَخييرُ وَلا إِقامَةَ إِلّا عَن يَدَي قَدَرٍ *** وَلا مَسيرَ إِذا لَم يُقضَ تَسييرُ*
ويقول إن العقل الذي واجه مشاكل كثيرة وتغلب على المصاعب. لا يمكنه الوقوف أمام سلطان القدر:
وَالعَقلُ زينٌ وَلَكِن فَوقَهُ قَدَرٌ *** فَما لَهُ في اِبتِغاءِ الرِزقِ تَأثيرُ
ولكننا سرعان ما نراه يدعونا إلى ترك مذهب الاختيار، ومذهب، ومذهب الجبر أيضاً والوقوف في منزلة الوسط بينهما فيقول:
لا تَعِش مُجبِراً وَلا قَدَرِيّاً *** وَاِجتَهِد في تَوَسُّطٍ بَينَ بَينا
فإنه من الخير دوماً اتباع الوسط بين الأمرين، فلا يمكن القول بأننا مجبرين على فعل هذا العمل أو ذاك لأننا بذلك قد نرتكب الآثام والمظالم ونلقي تبعة ذلك كله على الخالق عز وجل، كما لا يمكن القول بأننا مختارين في عمل هذا أو ذاك لأننا بهذا نكون قد نفينا الاعتقاد بشمول قدرة الله، وخالفنا قوله تعالى: "والله خلقكم وما تعلمون".
البعث
لقد قلنا فيما سبق أن عقل أبي العلاء لم يكن يسعفه كثيراً في البت في المشاكل الدينية والفلسفية ، بل يتركه حائراً متذبذباً بين هذا وذاك، لا يدري أي الطرق يسلك فتارة ينكر وأخرى يوافق، حتى يعيبه هذا وذاك فيحاول الأخذ بالأمر الوسط، والبعث أحد أركان الإيمان في الدين الاسلامي الحنيف، وحار فيه أبو العلاء حتى أنه لم يستطع رفضه أو أن يؤمن به إيماناً مطلقاً وبقي في موقفه شيء من الغموض الذي يميل أحياناً إلى الإيمان بقدرة الله على كل شيء، وبعث الناس وحشرهم ليست من الأعمال التي لا تدخل في مجال قدرة الخالق جل شأنه وعلا، فيقول:
وَمَتّى شاءَ الَّذي صَوَّرَنا *** أَشعَرَ المَيتَ نُشوراً فَنَشَر فَاِفعَلِ الخَيرَ وَأَمَّل غِبَّهُ *** فَهُوَ الذَخرُ إِذا اللَهُ حَشَر
ويقول أيضاً:
بِحِكمَةِ خالِقي طَيّي وَنَشري *** وَلَيسَ بِمُعجِزِ الخُلّاقِ حَشري
كذلك لم نجد القول الصريح عنده والذي يؤيد به حساب الناس في الدنيا الآخرة، فمرة يقول بأنه يجب ألا ييأس انسان من نيل ثواب على أعماله، فالجزاء سيكون في دنيا غير هذه الدنيا ويقصد الآخر:
لا يَيأَسَنَّ مِنَ الثَوابِ مُراقِبٌ *** لِلَّهِ في الإيرادِ وَالإِصدارِ فَتَرى بَدائِعَ أَنبَأَت مُتَحَسِّساً *** أَنَّ الجَزاءَ بِغَيرِ هَذي الدارِ*
لكننا نراه يعود فينكر البعث والحساب في قوله:
زَعَموا أَنَّني سَأَرجِعُ شَرخاً *** كَيفَ لي كَيفَ لي وَذاكَ اِلتِماسي وَأَزورُ الجِنانَ أُحبَرُ فيها *** بَعدَ طولِ الهُمودِ في الأَرماسِ
ثم نراه أخيراً يخاطب نفسه حاثاً إياها على فعل الخير لأجل الخير دون طلب الجزاء على ذلك أو الحكم بأن الله سيجزيها على عملها ذات يوم، لأن ذلك عائد إليه وحده وان أراد فعل، فيقول:
تَوَخَّي جَميلاً وَاِفعَليهِ لِحُسنِهِ *** وَلا تَحكُمي أَنَّ المَليكَ بِهِ يُجزي فَذاكَ إِلَيهِ إِن أَرادَ فَمُلكُهُ *** عَظيمٌ وَإِلّا فَالحِمامُ لَنا مُجزِ
هذا وقد كان أبو العلاء يعتقد بأن النفس البشرية كانت تسكن عالما العلوي ثم هبطت إلى الجسم بتأثير النفس الكلية، وكان يرى أن هذه النفس لا تفنى بفناء الجسد بل تعود إلى عالمها الذي هبطت منه:
وَالروحُ شَيءٌ لَطيفٌ لَيسَ يُدرِكُهُ *** عَقلٌ وَيَسكُنُ مِن جِسمِ الفَتى حَرَجا سُبحانَ رَبِّكَ هَل يَبقى الرَشادُ لَهُ *** وَهَل يُحِسُّ بِما يَلقى إِذا خَرَجا وَذاكَ نورٌ لِأَجسادٍ يُحَسِّنُها *** كَما تَبَيَّنتَ تَحتَ اللَيلَةِ السُرُجا* قالَت مَعاشِرُ يَبقى عِندَ جُثَّتِهِ *** وَقالَ ناسٌ إِذ لاقى الرَدى عَرَجا
ونرى بهذا أنه يعتبر الروح نوراً والنور في مذهب الأفلاطونيين هو مصدر الخير، ولكن أبا العلاء يعتبرها مصدر الشرور والآثام، اذ لولاها لم تكن قد بعثت الحركة في الجسد ولما قام بأعماله السيئة. كما أنه لم يكن يؤمن بتناسخ الأرواح، وينكر هذه العقيدة ويسخر من معتنقيها، فاسمعه يقول متهكما:
تبارك الله كاشف المحنْ *** فقد رأينا عجائب الزّمنْ حمارُ شببانَ شيخ حارتنا *** صُيّر جارنا أبو السّكنْ بَدَّلَ من مشِيتِه بحلّتهِ *** مشيتَهُ في الحزام والرسنْ |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:17 | |
| ولم يكن لأبي العلاء رأي صريح في وجود الجن والملائكة مثله في ذلك في كل المعتقدات الدينية، إذ أنه لا يجزم بشيء، فقد لا يقبل عقله شيئاً لكنه يقنع نفسه بأن الله قادر على كل شيء:
لَستُ أَنفي عَن قُدرَةِ اللَهِ أَشبا *** حَ ضِياءٍ بِغَيرِ لَحمٍ وَلا دَم
ويقول منكراً وجود مخلوقات غير مرئية:
قَد عِشتُ عُمراً طَويلاً ماعَلِمتُ بِهِ *** حِسّاً يَحِسُّ لِجِنِّيٍ وَلا مَلَكِ
وبعد... هناك كلمة حق يجب قولها مستندين بذلك إلى شعر لأبي العلاء نفسه، فثمة البعض من تلامذته، وغيرهم كانوا يحسدونه على ما هو به من سعة علم ومنزلة اجتماعية فراحوا ينظمون الأشعار على لسانه، يضمونها أقاويل الملحدين يجعلونه بها ملحداً كافراً متنكراً لأصله ولعقيدته، قاصدين بذلك هلاكه، فقد قال:
حاول اهواني قومٌ فما *** واجهْتُهمْ إلا بإهوانِ* يحرّشوني بسعَاياتِهم *** فغيّروا نيّةَ إخواني لو استطاعوا لوَشَوْا بي إلى الـ *** مرّيخ في الشُّهب وكِيوانِ
وقال:
غَريَتْ بذَمِّي أمةٌ *** وبحمدِ خالقها غَريتُ* وعبدْتُ ربي ما استطعْـ *** ـتُ ومِن بريته بَريتُ* وفَرَتْني الجُهّالُ حا *** سدةً عليّ وما فَريتُ* سَعروا عليَّ فلم أُحِسّ *** وعندهم} أني هريتُ* وجميع ما فاهوا به *** كذبٌ لعمْرك حنبريت*
تلك كلمات ربما قالها أبو العلاء في لحظة إيمانه فيتنكر لكل ما كان قد قاله وينسب ذلك إلى الآخرين.
بعض شعره الدال على سوء عقيدته
قد يكون من الجدير بنا بعد أن تناولنا عقيدة أبي العلاء من جوانبها أن نذيّل ذلك الجزء من بحثنا ببعض أقواله الشعرية التي تدل على الحاده وسوء عقيدته علها تأتي متممة لما يكون قد نقص في بحث عقيدته:
هذه طرفة من شعره حول الموت:
صرفُ الزّمانِ مُفرِّق الالفَيْنِ *** فاحكم الهي بين ذا وبيني* أنهيتَ عنْ قتلِ النّفوسِ تعمُّداً *** وبعثْتَ أنتَ لقتْلِها مَلكَيْنِ وزعمتَ أنّ لها مُعَاداً ثانياً *** فما كان أغناها عن الحالينِ
وقال:
تَقَدَّمَ صاحِبُ التَوراةِ موسى وَأَوقَعَ في الخَسارِ مَنِ اِفتَراها* وَقالَ رِجالُهُ وَحيٌ أَتاهُ وَقالَ الظالِمونَ بَلِ اِفتَراها
وقال:
عقولٌ تستخِفُّ بها سطورٌ *** ولا يدري الفتى لمن الثُّبورُ كتابُ محمدٍ وكتابُ موسى *** وانجيل ابن مريم والزبورُ
وقال:
اذا كان لا يحظى برزقك عاقلٌ *** وترزقُ مجنوناً وترزُقُ أحمقا فلا ذنب يا ربّ السماءِ على امرئ *** يرى منكَ مالا يشتهي فتزندقا
ومنه في انكاره البعث:
ضَحِكنا وَكانَ الضِحكُ مِنّا سَفاهَةً *** وَحُقَّ لِسُكّانِ البَسيطَةِ أَن يَبكوا يُحَطِّمُنا رَيبُ الزَمانِ كَأَنَّنا *** زُجاجٌ وَلَكِن لا يُعادُ لَهُ سَبكُ
ومنه:
قُلتُم لَنا خالِقٌ حَكيمٌ *** قُلنا صَدَقتُم كَذا نَقولُ زَعَمتُموهُ بِلا مكانٍ *** وَلا زَمانٍ أَلا فَقولوا هَذا كَلامٌ لَهُ خَبيءٌ *** مَعناهُ لَيسَت لَنا عُقولُ
ويقول:
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله *** وتزويج بنتيه الابنية في لدنا* علْمِنا بأنّ الخلق من أصلِ ريبة *** وأنّ جميعَ الناسِ من عنصر الزِّنا |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:19 | |
| وله في الحج:
استغفر الله في أمني وأوجالِي *** ومن غفلتي وتوالي سوءِ أفعالي قالوا هرمتَ ولمْ تطرق تهامة في *** مُشاةِ وفدٍ ولا ركبان أجْمالِ* فقلتُ أني ضريرٌ والذينَ لهم *** رأي رأوا غيرَ فرض حجَّ أمثالي* ما حجَّ جَدّي ولم يحْجُج أبي وأخي *** ولا ابن عمي ولم يعرف منًى خالي* وحجّ عنهم قضاء بعدما ارتحلوا *** قومٌ سيقضون عنّي بعد ترحالي فان يفوزوا بغفرانٍ أفُزْ معهم *** أو لا فإني بنارٍ مثلهم صالي ولا أروم نعيماً لا يكون لهم *** فيه نصيبُ وهم رهطي وأشكالي
ويقول:
وما حجّي إِلى أَحجارِ بَيتٍ *** كُؤوسُ الخَمرِ تُشرَبُ في ذَراها اذا رجع الحكيم إلى حجاهُ *** تهاون بالمذاهب وازدراها
وكان لأبي العلاء ردٌّ على كل ما يثار حوله واتهامه بسوء عقيدته فيقول في تأكيد لايمانه بالبعث:
فيا وَطَني إنْ فاتَني بكَ سابِقٌ *** من الدهرِ فليَنْعِمْ لساكِنِك البال فإنْ أسْتَطِعْ في الحَشْرِ آتِكَ زائرا *** وهَيْهاتَ لي يوْمَ القِيامَةِ أشْغال
ويقول بما يبين أنه كان يؤمن بما جاءت به الكتب السماوية:
يا ابنَ الّذي بِلِسانِه وبَيانِه *** هُدِيَ الأنامُ ونُزّلَ التَنْزيلُ من فضْلِه نَطَقَ الكِتاب وبَشّرَتْ *** بقُدُومِه التّوْرَاةُ والإنْجِيلُ
هجوم المجتمع على المعري
إن المجتمع الذي تنكر أبو العلاء لعقائده الدينية واستهزأ بها، وتهكم برجالات الأمة وسخر منهم. وتناول المرأة بنقده اللاذع، فلم يفته أحدٌ لم يصل إليه نقده، إن هذا المجتمع سيرد على أبي العلاء بقوة أشد، وبشكل طبيعي، وجاء هذا الهجوم بشكل نثر كما جاء شعراً، وألصقت الصفات الشنيعة به.. استمع إلى أحد القضاة في عصره يقول فيه بعد ما رأى محاولته تقليد القرآن الكريم:
كلبٌ عوى بمعرة النُّعمان *** لما خلا عن ربقةِ الايمانِ أمعرة النعمان ما أنجبتِ اذ *** أخرجت منك معرة العميانِ
ويمكن أن نقسم ناقديه إلى فئتين، فئة أعماها الحسد والغيرة لما تراه من نبوغ أبي العلاء، ولا نستطيع مجاراته، وفئة أخرى نقدها أبو العلاء وتعرض لها إما في عقيدتها أو مركزها أو جنسها، ولم يكن يعير هذه العداوات الاهمية الكبرى التي نعرفها عند شعراء سابقين اذ كان لا همّ لهم سوى هجاء من يهجونهم ، فإن أبا العلاء بدلا من ذلك نراه يلومهم على جهلهم به، ويخبرهم بأن كلامهم مجرد هراء لن يصغي إليه:
بأي لسانِ ذا مني متجاهلٌ *** عليّ وخفقُ الريحِ فيّ ثناءُ تكلّمَ بالقولِ المضللِ حاسد *** وكل كلام الحاسدين هراءُ
ثم استمع إليه يقول:
وقد نبحوني وما هجتهمْ *** كما نبح الكلبُ ضوءَ القمرْ
ويقول أيضاً:
فأصبحت محسوداً بفضلي كله *** على بعد أنصاري وقلةِ مالي.
وازدادت محاربته بازدياد عظمته؛ وكثر من يشي به عندما ذاعت شهرته؛ وازداد أيضاً عدد الساخرين منه حتى في منزله، فقد قال المعري مرة في عرض حديثه: "لم أهج واحداً قط". فقال أحدهم معقباً: "صدقت إلا الأنبياء" فصمت أبو العلاء ولم يرد من جرحه، ووصفوه بالزندقة وقلة الدين، وقال عنه ياقوت الرومي في معجمه "كان حماراً لا يفقه شيئاً ومجنوناً معتوهاً".. أصح أن نسمي ذلك نقداً؟!.. أو حتى تأريخ حياة؟!.. لقد شوّه ياقوت الرومي معجمه بهذه الكلمات ونزع ثقة المكر وحتى القارئ بصدق رواياته، وازداد تقول الناس على أبي العلاء حتى بات يشك في نفسه فقال: "وازداد تقول الناس عليّ حتى خشيت أن أكون أحد الجهال".
لكن العدل لم يمت اذ جاء ابن العديم بكتابه "العدل والتحري في دفع الظلم والتجري عن أبي العلاء المعري" وفيه ما يرد لأبي العلاء قيمته ومركزه ويعطيه حق قدره . ولم يسلم حتى بعد موته من حساده وناقديه فراحوا يفترون عليه ويهزأون منه بقولهم انهم كانوا يرونه في أحلامهم ، وهو أبشع ما يكون، والأفاعي على كتفيه وتصل إلى فخذيه وتنهش من وجهه لحماً وهو مستغيث..
وكان من وقف ضد أبي العلاء أكثر بكثير ممن وقف معه وهذا لأكبر دليل لنا في عصرنا على أنه كان درة زمانه وآية عصره، اذ أنهم لا بد وأنهم أخفوا الكثير من فضائله فلم تصل إلينا جميعها، وإلا لرأيناه على صورته الصحيحة بعيدة عن التشويه، بريئة من كواذب الألوان.. |
|
| |
|