|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:21 | |
| الغزل في شعر أبي العلاء
قد لا نتوقع العثور في أشعار أبي العلاء على شعر للغزل؛ وأنه تغزل في المرأة يوماً، وأي غزل نريده منه ما دمنا لمسنا نقده اللاذع للمرأة، وعدم رضاه عنها وجوره في الحكم عليها؛ وكما أسلفنا، ربما كان ذلك لأنه لم يرها وحرم منها طيلة حياته، فلم يكن له في الغزل إلا شذرات قليلة في أمكنة متفرقة وفي أزمنة متباعدة، وكان يائساً في كلماته الغزلية ومعذباً في أحرفه، فلم يتناول في الوصف شعرها وهو سعيد، لكنه يذكر ذلك بالحسرة، ولم يصف بسمتها بالبراءة، وشفتيها بالرقة، لأنه لم يحس بشيء من هذا، واذا ما ذكر ذلك فإنه يتعرض له بضيق وعذاب ونرى الحرمان ينسكب من أحرفه:
أتحرقينَ فؤاداً قد حَللْتِ به *** بنارِ حُبّك عمداً وهو مأواكِ أُسكِنْتِهِ حين لم يسكُن به سكن *** وليس يحسُن أن تسْخي بسكناكِ ما بال داعي غرامي حينَ يأمرُني *** بأنْ أُكابدَ الوجدِ يَنْهاكِ
وتخيّل واحدة نكست قرطيها فوصف ذلك قائلاً بأن تنكيسها لهما ليس إلا لتعذيب القلوب، والتطلع إلى من يتعذب بحبها من بعيد، ويتهمها بالوقوع في الضلال وأنها ليست أول واحدة تفعل ذلك:
نَكّسْتِ قُرْطَيْكِ تَعذيباً وما سَحَرا *** أخِلْتِ قُرْطَيْكِ هاروتاً وماروتا لو قُلتِ ما قالَه فِرْعَوْنُ مُفترِياً *** لخِفتُ أن تُنْصَبي في الأرضِ طاغوتا فلستِ أوّلَ إنْسانٍ أضَلَّ بهِ *** إبليسُ مَنْ تَخِذَ الإنسانَ لاهوتا*
وله من إحدى قصائده:
منكَ الصّدودُ ومني بالصّدودِ رِضى *** مَن ذا علَيَّ بهذا في هواكَ قَضَى بيَ منكَ ما لو غَدا بالشمسِ ما طلَعتْ *** من الكآبَةِ أوْ بالبَرْقِ ما وَمَضَا
وعندما نمت السنون وتراكمت وامتد بأبي العلاء العمر لم يكن له سوى الذكرى الحزينة يعود إليها يجترها في وحدته:
قد أوْرَقَتْ عُمْدُ الخِيامِ وأعْشَبَتْ *** شُعُبُ الرّحالِ ولونُ رأسي أغْبَر ولقد سَلَوْتُ عن الشبابِ كما سَلا *** غَيري ولكنْ للحزينِ تَذكُّر
المدح والفخر عند أبي العلاء
كان أبو العلاء محاطاً بأهل العلم وهو طفل وأول كلمة في النحو أخذها من والده، ونشأ بين أفراد أسرة كثر قضاتها، وكثر على اللغة والأدب فيها، وازداد بينهم أهل الفضل؛ وكان لهم الأثر في اجتذابه إلى العلم والأدب، وكان ذلك مدعاة فخر له، ويحق له أن يتباهى بهذه العائلة الكريمة التي تسير القوافي تحت عَلَمها وهم لجديرون بها:
بأيّ لِسانٍ لامني مُتَجَاهِلٌ *** علَيّ وخَفْقُ الرّيحِ فيّ ثَناءُ تكَلّمَ بالقَوْلِ المُضَلّلِ حاسِدٌ *** وكُلُّ كلامِ الحاسدِينَ هُراءُ أتَمْشي القَوافي تحتَ غيرِ لِوائنا *** ونحْنُ على قُوّالِهَا أُمَراء ولا سارَ في عَرْضِ السَّماوَةِ بارِقٌ *** وليس له مِن قوْمنا خُفَراء ولسنا بفَقْرَى يا طَغَامُ إليكُمُ *** وأنْتُمْ إلى مَعْروفِنا فُقَراء |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:22 | |
| ونراه في البيت ما قبل الأخير يتنقل إلى التفاخر بقومه القضاة وأنهم الحاكمين في كل مكان. ويقول مؤكداً فصاحة قومه واضطلاعهم بالأدب بقصيدة مطلعها:
يتَهَلّلونَ طَلاقَةً وكُلومُهُمْ *** يَنْهَلّ مِنْهُنّ النّجِيعُ الأحْمَر* لا يَعْرِفونَ سِوى التقدّمِ آسِيا *** فجِراحُهُمْ بالسَّمْهَرِيّةِ تُسْبَرُ*
ويقول أيضاً أن قومه ان كانوا في الحياة يضفون على الأرض الجمال والبهجة، فهم بعد الممات يضفون ذلك الجمال إلى الكتب بسيرهم الحميدة، وأدبهم الخالد الذي تركوه وأنهم عربٌ بيوتهم الخيام وسيبقون كذلك لن ينزلوا إلى المدينة حيث يفقد العز:
جَمالَ ذي الأرض كانوا في الحياة وهُم *** بعدَ المماتِ جَمالُ الكُتْبِ والسِّيَرِ المُوقِدُونَ بنجْدٍ نارَ باديَةٍ *** لا يَحضُرونَ وفَقْدُ العِزّ في الحَضَرِ
ولكن هل غفل أبو العلاء نفسه؛ وتذكر قومه فقط فوهبهم كل شعره وهو الذي ملأت شهرته الآفاق، وأتاه الناس من كل حدب وصوب؟!. كلا لم يكن ذلك فإن قوله:
وإني وإن كنتُ الأخيرَ زمانُهُ *** لآتٍ بما لم تَسْتَطِعْهُ الأوائل
إن هذا القول المشهور له لأكبر دليل على أنه كان يريد أن يجعل من نفسه الرجل الذي يشير إليه الجميع ببنانهم؛ لما سيأتي به مما لم يسبقه إليه أحد؛ وقد كان له ذلك وصار حديثه على كل لسان، رغم محاولة بعض الحساد التقليل من قيمته وخنق شهرته فاستمع إليه يقول في ذلك:
وقد سارَ ذكْري في البلادِ فمَن لهمْ *** بإِخفاءِ شمسٍ ضَوْءُها مُتكاملُ يُهِمّ الليالي بعضُ ما أنا مُضْمِرٌ *** ويُثْقِلُ رَضْوَى دونَ ما أنا حامِلُ* وأغدو ولو أنّ الصّباحَ صوارِمٌ *** وأسْرِي ولو أنّ الظّلامَ جَحافلُ* وإني جَوادٌ لم يُحَلّ لِجامُهُ *** ونِضْوٌ يَمانٍ أغْفَلتْهُ الصّياقلُ* وإنْ كان في لُبسِ الفتى شرَفٌ له *** فما السّيفُ إلاّ غِمْدُه والجمائلُ* ولي مَنطقٌ لم يرْضَ لي كُنْهَ مَنزلي *** على أنّني بين السّماكينِ نازِلُ*
حتى ينتهي إلى القول البليغ:
يُنافسُ يوْمي فيّ أمسي تَشرّفاً *** وتَحسدُ أسْحاري عليّ الأصائلُ*
لكنه برأيي مهما قرأنا شعراً لأبي العلاء في الفخر والمدح القليل فإننا نجزم بأن الآخرين سبقوه في هذا الباب، ولم يقل أكثر مما قاله معاصروه في نفسه؛ ويشهد الجميع بتواضعه وعدم ميله إلى التفاخر، ومدح الآخرين!.
الرثاء
يقول كتاب أبي العلاء أنه أول ما قال الشعر، قاله في رثاء أبيه الذي توفى؛ وهو لم يزل فتى، وعجب سامعوه منه واندهشوا لتلك المقدرة التي ألقى بها كلماته على صغر سنه ومما يقول في هذه المناسبة مخاطباً والده:
فليتَكَ في جَفني مُوارىً نَزاهَةً *** بِتِلْكَ السّجايا عن حَشايَ وعن ضِبني* ولو حَفَرُوا في دُرّةٍ ما رَضِيتُها *** لجِسْمِكَ إبْقاءً عَلَيْهِ منَ الدّفنِ
فهو لا يستعذب الدفن لوالده حتى ولو كان في الدرة، وتمنى لو استطاع أن يحويه في جفنه، ولما رجع من بغداد أثناء رحيله لم ير والدته فقد أخبروه أنها رحلت هي الأخرى وتركت عالمنا، وأي أسىً ألمّ به آنذاك، وكانت فاجعته الثانية بعد وفاة أبيه فوقف يخاطب الموت طالباً من يحمل تحيته العطرة لروحها:
فيا رَكْبَ المَنُونِ أمَا رَسُولٌ *** يُبَلّغُ رُوحَها أرَجَ السّلامِ ذَكِيّاً يُصْحَبُ الكافُورُ مِنْهُ *** بِمِثْلِ المِسْكِ مَفضُوضَ الخِتامِ* سألتِ مَتَى اللّقاء فقيل حتى *** يَقُومَ الهامِدُونَ مِنَ الرِّجامِ*
ويشعر بالحزن العميق وتتناوبه الأفكار وهو مطرق ببصره إلى الأرض يجول فيها ويتساءل بعد وفاة أحد أقربائه ويدعى أبا حمزة. يتساءل: _ ترى مم تتكون القشرة الأرضية؟!.. لقد توفي والده، وفجع بعد ذلك بالأم التي لم يحب المرأة إلا لأجلها، ويموت الآلاف كل يوم ويدفنون وتبلى أجسادهم. ويأتون على مخيلته، فيطلب من الناس تخفيف ثقلهم عن الأرض، والسير في الهواء إن استطاعوا ذلك، بعد أن يخبرهم بحقيقة تلك الحبات الناعمة من التربة التي يرونها، وذلك يكفي الموتى، فهم لا يحتاجون للدمع يذرف لفراقهم، لأنهم لن يعودوا، فلم النواح إذن؟!..
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي *** نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ* وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِي *** سَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ* أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْ *** نَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْ *** بَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ* خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ ال *** أرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ* وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْ *** دُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيداً *** لا اخْتِيالاً عَلى رُفَاتِ العِبادِ* رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْداً مراراً *** ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ* |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:25 | |
| إلى أن يقول يائساً من هذه الحياة متعجباً ممن يريد البقاء فيها وأن الموت ليس سوى رقدة مريحة كالنوم:
تَعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْ *** جَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ ضَجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ ال *** جِسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ
وهكذا فإننا نرى أبا العلاء ينهج نهجاً جديداً في الرثاء يغاير فيه أكثر الشعراء، فلم يعد لديه البكاء ليبكي الآخرين بعد والده، ولم يعد في مقلتيه الدمع يذرفه على رحيل أحد بعد ولدته، وتحول رثاؤه إلى يأس وقنوط وتشاؤم، فكره الحياة وكره البقاء فيها، حتى أنه اعتبر مجيئه إلى الدنيا جناية ارتكبها والده بحقه، لذا كانت وصيته المشهورة بأن يكتب على قبره:
هذا جناهُ أبي عليّ *** وما جنيت على أحدْ
زهده وقناعته وجوده
كان أبو العلاء يعتبر أن هذه الدنيا ليست سوى طريق على الانسان أن يعبرها ، فلم لا يفعل الخير فيها ويرفض مباهجها التافهة، فلقد رفض الدنيا، ولم يطمع بشيء فيها وأعطاها كل شيء، ولم تغره محاسنها، ومفاتنها، وجعل نفسه رهين منزله لا يبارحه إلا إذا ذهب للصلاة، وترك أكل اللحوم، وكل ما يمت إليها بصلة من عسل وبيض، زهداً منه فيها، وتجنباً عن الاساءة للحيوان، وقنع بموارد وقفٍ كان له يحصل منه في العام نحو ثلاثين ديناراً يعطي نصفها لمن يخدمه ويحتفظ بالباقي لمأكله وملبسه، يقول ابن حجر في كتابه "لسان الميزان": وكان غذاؤه العدس "وحلاوته التين، ولباسه القطن، وفراشه اللباد، وكان لا يمدح أحداً، ولو تكسب بالمدح والشعر لنال دنيا ورئاسة". لقد كان فقيراً ولو أراد المال لحصل عليه من مدحه الأمراء ذوي المناصب، لكنه رفض كل هذا زهداً منه فيه، وكان أن سمع المستنصر حاكم مصر في زمنه عنه وعن ضيق ذات يده، وسعة معرفته، فوهبه كل ما في بيت المال في المعرة، لكنه لم يقبل منه شيئاً وقال:
لا أطلبُ الأرزاقَ والـ *** ـمولى يُفيضُ عليّ رزْقي إن أُعْطَ بعضَ القوتِ أعْـ *** ـلَمْ أَنّ ذلكَ فوق حقِّي*
وقد ذكر أنه دعي إلى مصر، ليبنى له دار علم فيها ويتفرغ للأدب واللغة، لكنه طلب اعفاءه والسماح له بالبقاء في المعرة، فأجيب على طلبه، ولم يكن يقبل المديح أو الهدايا من أي كان، ولم يطلب شيئاً من أحد:
لا أطلبُ السّيْبَ من الناس بل *** أطلبهُ من خالقِ السّيبِ*
عدم أكله اللحم وسببه
بقي أبو العلاء خمساً وأربعين عاماً لا يتناول لحوم الحيوان، أو ما ينتجه هذا الحيوان من لبن أو بيض أو عسل، بل اقتصر في حياته على تناول ما تنتجه الأرض من نبات فقتل الطائر ظلم له، والنحل لم يشق في جمع الرحيق ليكون لسواه بل لأطفاله الصغار:
وَلا تَفجَعَنَّ الطَيرَ وَهيَ غَوافِلٌ *** بِما وَضَعَت فَالظُلمُ شَرُّ القَبائِحِ وَدَع ضَربَ النَحلِ الَّذي بَكَرَت لَهُ *** كَواسِبَ مِن أَزهارِ نَبتٍ فَوائِحِ فَما أَحرَزَتهُ كَي يَكونَ لِغَيرِها *** وَلا جَمَعَتهُ لِلنَدى وَالمَنائِحِ مَسَحتُ يَدَي مِن كُلِّ هَذا فَلَيتَني *** أَبَهتُ لِشَأني قَبلَ شَيبِ المَسائِحِ*
وما دام كذلك فهو لن يتعرض لشيء من هذا، ولن يؤذي الحيوان بذبحه، حتى ولن يتخذ من صوفها أو وبرها لباساً له:
لِباسِيَ البُرسُ فَلا أَخضَرٌ *** وَلا خَلوقِيٌّ وَلا أَدكَنُ* |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:27 | |
| وفاة أبي العلاء
توفي أبي العلاء وغربت تلك الشمس التي أضاءت بنورها العالم يوماً وقد بلغ من العمر ستاً وثمانين سنة إلا أربعة وعشرين يوماً في شهر ربيع أول، أي سنة 449 هـ وكان قد أصابه مرضٌ ألزمه الفراش، ويعتقد أنه حزن لمفارقته هذه الدنيا التي كرهها ذات يوم، وكان حزنه واضحاً في شكره للقاضي أبي محمد عبد الله التنوخي. الذي كان يسهر عليه ويشرف على علاجه. استمع إليه يقول له:
وقاضٍ لا يزالُ الليلَ عندي *** وطولُ نهارهِ بينَ الخصومِ يكون أبرّ بي من فرخِ نسرٍ *** بوالده وألطفَ من رحيمِ سأنشرُ شُكرهُ في يومِ حشرٍ *** أجَلْ، وعلى الصِّراطِ المستقيمِ
وبقي ملازماً فراشه لثلاثة أيام، ومات في اليوم الرابع، ولم يكن عنده غير أبناء عمه، وشيعه جمع غفير من أهل العلم والأدب، وألقيت المراثي الطويلة بهذه المناسبة، منها قول أحدهم في وصفه:
إنْ كنتَ لم ترقِ الدماءَ زهادةً *** فلقد أرَقْتُ اليومَ من جفني دمَا سَيّرْتَ ذكركَ في البلادِ كأنهُ *** مسك فسامِعةً يُضَمِّخُ أو فَمَا* وأرى الحجيجَ اذا أرادوا ليلةً *** ذِكراكَ أخرجَ فِديةً من أحرما
ودفن في المعرة في ساحة دار صغيرة وأوصى بأن يكتب على قبره:
هذا جناهُ أبي عليّ وما جنيتُ على أحد |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:29 | |
| بعد الانتهاء من عرض سيرة حياة أبو العلاء المعري كما جاءت في كتاب ( أبو العلاء المعري / حياته وشعره) لسمير الصارم أنتقل معكم لسلسلة مقالات كتبها العقاد ونشرها في كتابه ( مطالعات في الكتب والحياة) وهذه المقالات نشرت في البلاغ الصادر يوم 8 اكتوبر سنة 1923 بمناسبة ظهور تلخيص لرسالة الغفران من عمل الأديب كامل أفندي كيلاني.
نظرات في الحياة
على ذكر رسالة الغفران
المعري رجل تكشفت له ضلالات الحياة وتقشعت عن بصيرته غشاوة أباطيلها. ولكن هل هذا ثناء وتزكية أو هو ثلب وتنقص؟؟ وهل من كمال حياة الحي أن ينظر إلى الحياة نظرة المعري التي لا ترى إلا فتنة وغروراً ولا تجد ما تحمده وتقبل عليه أو أن ينظر إليها نظر المفتون بها المستغرق في أطوارها المندفع إلى مراميها؟؟ ولنشبه الحياة بامرأة يتوسمها الرجال فأي الرجلين أصدق نظراً إليها وأجود فطرة وأبين عن حقيقة وصواب: الذي تعجبه وتحركه وتكشف له عن محاسن مرغوبة ومباهج موموقة ويستهويه منها ما يستهوي الرجل من المرأة، أو الذي ينظر إليها فيراها جسماً من اللحم والدم والعظام ثم يمعن في التجرد من الهوى فيراها جرما من المواد العضوية التي يوجد مثلها في نبت الأرض وفي أخس ديدانها؟؟ أو فلنشبه الحياة تشبيهاً آخر فنخال أنها صورة صورها عبقري مبتدع في فنه فهل نحن مصيبون حين ننقدها ونقدرها فاذا هي أصباغ وألياف لا تختلف عن الأصباغ التي في القناني والعلب ولا تنماز عن الألياف التي في عروق الشجر وعيدان الخشب أو نحن أدنى إلى الصواب حين نرى فيها اقتدر مبدعها ونلمح في الصورة خلجات نفسه وخواطر قريحته وجمال معناه وما يرمز إليه؟! لكل وجهة يتجه إليها. ولكن النظر الأول أجدر بالحي وأخلق بالكائن الموجود أمام النظر الآخر فليس في الحقيقة نظراً لأن النظر يقتضي التمييز والتباين ولا تمييز ولا تباين حين يذهب الناقدون هذا المذهب ويسترسلون في رد الأشياء إلى ما يسمونه حقائق لها وأصولا. فإنما هم منتهون في آخر الأمر إلى حالة يستوي فيها الأعمى والبصير والحي والميت. اذ هم رادون الحياة والأحياء كلها لا محالة إلى ذرات متشابهة ثم إلى عماء لا نهاية له ثم إلى ماذا؟ ثم إلى وجود كعدم وشيء كلا شيء وكون لا كون فيه بغير حد ولا فاصل يحسر عنه نظر البصير ولا يفقد منه العمى شيئاً. وعلى أنه ما هي ضلالات الحياة وأباطيلها؟؟ لأكاد أقول أنني أتأمل هذه الحياة فلا أجد فيها ما هو أحق وأصدق وأرسخ في قرار الأشياء من هذه الضلالات والأباطيل. نعم! فلا ريب أن سراب الحياة أصدق من بحرها ووعدها أوثق من حاصلها وأملها أقرب إلى الحسن من موجودها. بل نقول أنه لا سراب على التحقيق في الحياة ولا يمكن أن تنخدع الحياة عن هداها. وإلا فأين ترى يكون السراب لو أن كان! ففي خارج الحياة لا يكون لنا سراب وفي داخلها لا يكون السراب سرابا وإنما هو ماء ترتوي منه العطاش وتنطفئ به وقدة القيظ وننتفع به ونزرع على شاطئه فنجني أحسن الثمر وأجمل الأزهار. وخليق بمن يرتاب في صدق ما نقول أن يذكر الأمل فيذكر أي سراب هو في نظر الحسن القريب والعقل الكليل ثم عليه أن يذكر بعد ذلك أي بحر هو للظامئين الضاربين في مفاوز الحياة الخابطين في مجاهلها الذين يملأون مزاودهم وهم يحسبونها موكاة خاوية ويشربون ملء نفوسهم وهم يتخيلونها ملتاحة صادية، وليقل لنفسه كيف يكون البحر إن لم يكن هذا السراب الخادع بحراً متلاطم الأمواج بعيد القاع محيياً للنفوس مميتاً لها كما يحيى كل بحر ويميت؟! واذا أخذنا في سبر حقائق الحياة بمسبار المعري فأي باطل أبطل من المجد وأي ضلال أضل من حب النسل؟؟ كل ما هنالك وهم يتبعه وحلم تفيق منه على حلم؛ وأشواط تبدأ وتعاد "واجتهاد لا يؤدي إلى غناء اجتهاد"
ترى التشمير فيها كالتواني *** وحرمان العطية كالنجاح ومن تحت التراب كمن علاه *** فلا تخدعك أنفاس الرياح |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:31 | |
| فما جدوى هذه الغصص كلها وما غايتها وما الفرق بين الغاية فيها والبداية؟؟ أجل ذلك مما يصح أن يقال. إلا أنه ينبغي أن لا يكون الانسان حياً حين يقول ذلك ويعمل بما يوجبه؛ أو ينبغي أن يقول لنا ما هو الصدق إن كان هذا كذباً وما هي الحكمة ان كان هذا غروراً. فإن لم يكن في الحياة صدق ولا حكمة فما ضرنا أن تؤمن بالباطل الذي لا نجد ما يبطله ونركن إلى الغرور الذي لا نعرف ما يزيفه وماذا علينا أن ننسى القاموس لحظة فندعو الأشياء بغير أسمائها ونسمي الكذب صدقاً والغرور حكمة ونحن في ذلك صادقون؟؟ والحق أنه يجب أن يساء الظن بكل فلسفة ترفض ما يسمونه أباطيل الحياة رفضاً باتاً وتتباهى بالخلاص من ضلالاتها وأوهامها. لأن الحياة تاجر يعرف قيمة بضائعه المرغوبة فلا يبيع النافق من بضاعته دون الكاسد ولا يرضى أن تشترى منه أنت على ما تشتهي وترد ولكنه يبيعك مع كل سلعة رائجة عشرات من سلعه المهملة المزهود فيها. فان قبلت مضى في معاملتك وإن لم تقبل لم يبعك شيئا ولو أغليت له الثمن وألحفت في التوسل والرجاء. فلا يغتبطن أحد بسلامته كل السلامة من غرور هذه الانسانية ولا يحسبن ذلك فخراً وفضلا فإن السلامة التامة من غرورها لا تكون إلا بالخلو التام من كمالاتها وفضائلها. ولا خيار للانسان في هذا الأمر ولا سبيل إلى ازدراد الحلوى التي في ثمرة الحياة دون بزورها. فإما حياة – بزورها وحلواها - وإما لا حياة! على أن البزور هي بيت القصيد في معظم الأحوال لأنها هي الجرثومة التي تنبت منها الحلوى وتنمو وتنتقل من زمان إلى زمان؛ ولو لم يختلط بعض الحياة ببعض هذا الاختلاط لما قاربنا غير حلواها السائغة الشهية ولنبذ الجرثومة المرة الخالدة فخسرنا خسراناً كبيراً
***
وإنما يؤتى العقل الناقد في هذه القضية من ناحية الالتباس بين ارادة الحي وارادة الحياة. ذلك أن للحي إرادة وللحياة إرادة وليس من الضروري أن تتفق الارادتان في كل شيء بل لعلهما على اختلاف دائم في كثير من الأشياء . هذه المعدة وهي أبسط أدوات الحياة في تنفيذ إرادتها وإنجاز مطالبها ألا تكلف الإنسان السعي والجهد من حيث يؤثر هو الدعة والعافية؟؟ ألا تأبى عليه القرار ويأبى هو الا القرر لو ملك التصرف والاختيار؟؟ وليست هي مع ذلك بمخطئة في إرادتها ولكنه هو المخطئ فيما يريد. وقس على ذلك سائر الأعضاء فيما تؤديه من وظائف لا اختيار للحي فيها ولا سلطان له عليها. فالذين يقصرون النظر على إرادة الحي يحكمون بالبطلان والضلال على كل سعي لا يؤول إلى منفعته ولا يقبض على ثمرته بيده وينظر إلى نتيجته بعينيه. أما الذي يلهمون إرادة الحياة فإنهم يعرفون الحق من هذه الأباطيل والضلالات ويشعرون بأنها لا تأتي من لا شيء ولا تذهب سدى ولا تسلط على الأفهام والغرائز عبثاً؛ ويعلمون أن الحي لم يخلق ليجني ثمرة الكون كله وإنه ليس كل ما يخسره المرء ضائعاً مفقوداً ولا كل ما يخدعه ويغريه ضلالا كاذباً ووهما فارغا . لأنه أن فقده هو جنه غيره وأن خفى اليوم فقد يظهر غداً. ومن الوهم مثلا أن يشغف الأب بابنه كأنه يستفيد من هذا الشغف لنفسه ولكن ليس من الوهم أن يتصل حبل الحياة وأن يضمن الناس البقاء. فهكذا تتقلب الخدعة حقيقة واضحة عندما تتسع الدائرة وتمتد المسافة، وهكذا تقرأ الأشياء بلغة الفرد فتفهم على وجه ثم تقرأ بلغة الانسانية فتفهم على وجه آخر شديد الاختلاف عن ذلك الوجه المحدود. ومن تمام الحكمة وأصالة الفطرة أن يفرغ الرأي في اللغتين ويعبر فيه عن الارادتين وأن يجيء ذلك من طريق البداهة أو من طريق الروية على السواء. أما المعري فلم يكن لارادته حظ كبير من فلسفته. كان فرديا في رأيه فرديا في معيشته وليس من مجرد الاتفاق أنه كان رهين المحبسين وأنه هو الراهب القائل فيما قال:
تواصل حبل النسل من عهد آدم *** إلي فلم توصل بلامي باء تثاءب عمرو اذ تثاءب خالد *** بعدوى فما أعدتني الثوباء |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:33 | |
| التشاؤم وأدوار العمر
كان المعري رفيق صباي. فرفته منذ عشرين سنة فلزمته وأقبلت على حديثه أتلقفه وأترنم به. وكان أشوق ما يشوقني منه ذلك السخط الذي تنضح به دواوينه وذلك الترفع المشوب بمرارة النقمة والألم وتلك الثورة الساكنة والحرد الصادق الذي لا يقبل التوبة. ثم مضت أيام وسنون بلوت فيها من آلام الحياة ما كنت أتخيله ورأيت من أوضار النفوس ما كنت أتمثله فأصبحت أحق بالسخط والتبرم وأولى وأولى بالثورة والتمرد وأقمن أن يزداد إعجابي بشعر المعري وأن تتوثق صداقتي له، ولكن ما هكذا حدث كما كنت أقدر بل تغيرت وفتحت الكتاب الثاني من دروس الحياة على استطراد بعيد عن فحوى كتابها الأول. فأنا اليوم أجل المعري ولكن لا أستشيره وأستمع لحديثه ولكن لا أصغي إلى سخطه. وإذا أصغيت فليس ذلك الاصغاء الطويل الذي عودته من قبل ولا ذلك الاقبال المطبوع الذي لا كلفة فيه ولا تجمل. وإنما هو إصغاء بالسمع دون القلب وإقبال فيه من الأدب أكثر مما فيه من الميل والرغبة، وكثيراً ما التفت إلى نفسي فجأة فإذا أنا متشاغل عن حديثه بأحاديث أخرى ما كانت تشغلني عنه فيما مضى. وكان أول ما قرأت من شعر المعري ضاديته السهلة الجزلة التي يقول في مطلعها:
منك الصدود ومني بالصدود رضى ** من ذا علي بهذا في هواك قضى بي منك ما لو غدا بالشمس ما طلعت ** من الكآبة أو بالبرق ما ومضا
والتي يقول منها:
اذا الفتى ذم عيشاً في شبيبته *** فما يقول اذا عصر الشباب مضى
تلك قضية كانت عندي لا غبار عليها فلا شك فيها ولا مناقشة. أليس الشباب زهرة العمر وصفوة أيام الحياة؟ أليس الشاب غنياً بثروة الحياة عزيزاً بصولة الفتوة جميلا بنضرة الصبا سعيداً بنشوة الحب؟ أليس في سن الشباب تخصب العواطف وتتألق الآمال وتغرد خواطر النفس تغريد الطير المبكر في فجر الربيع؟؟ بلى. فكيف يذم الشاب عيشه وماذا يقول اذا صحا من هذه السكرة وصار إلى سن الريب والتجربة والتكاليف الكثيرة؟ إلا أن القضية منقوضة من بعض وجوهها . إذ ليس هذا أيضاً ما يحدث كما كنا نقدر.. فالشباب – ولا نكران – ظالم حين ينقم على الحياة ولكن ما أشبه الظلم بجهل الشباب وشرته؟ فما من خصلة من تلك الخصال التي ذكرناها للشباب إلا فيها مدعاة لذم العيش في حالة من الحالات وان كانت في نظر الشيخ لهي غاية الآراب وبلاغ النفس من رضى واعجاب. فالشباب سن الغنى فهو سن القلق. وهو سن الحب والجمال فهو سن الدالة والتجني، وكأنما الشاب صبي الحياة المدلل الذي تحنقه الهفوة ولا يقنعه العطاء ولو كثر. عودته الحياة الكرم فتعود الطمع وذهب يشكو كثيراً لأنه يطلب كثيراً. ولا عجب أن يتعاطف الشاكي والمتشائم ثم لا عجب أن يجد الفلاسفة المتشائمون معظم أنصارهم بين مراتع الشباب الخضراء لا في قفار الشيخوخة الموحشة. ولا يعرف الشباب ما فيه من نعمة حتى يقارنه بغيره. أي حتى يدبر عهد الشباب أو يهم بالادبار. هنالك يفهم حنين الشيوخ إلى عهد الصبا وتغني الشعراء بذكرى لياليه ولذاذة جهله ومتعة غروره وتيه غلوائه. هنالك يشتهي ما كان يتبرم به ويحمد ما كان ينقم عليه ويضن بما كان يسرف في انفاقه. فأما في دولة الشباب فلا حرص ولا اشفاق وليس إلا التبذير وقلة المبالاة بما بين اليدين من كنوز الحياة ونفائسها، وما أقل من يقول مع المتنبي:
ولقد بكيت على الشباب ولمتي *** مسودة ولماء وجهي رونق حذراً عليه قبل يوم فراقه *** حتى لكدت بماء جفني أغرق |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:35 | |
| نعم ما أقل من يبكي على الشباب هذا البكاء وفي نفسه بقية من ثقته وعلى وجهه مسحة من رونقه! إن للشباب لثقة لا تزول إلا بزواله وان أكبر ما يأسف له الشيخ بعد فوات الشباب إنما هو تلك الثقة. ذلك أنها تحرمه فرصاً كانت وشيكة أن يتملاها في ابانها فأفلتها من بين يديه اعتماداً على دوامها، وكأس صفو كان متاحا له أن يشتفها فأهرقها جهلا منه بمقدارها. وهي تلك الثقة التي كثيرا ما أعمته عن خلل كان هيناً عليه أن يرتقه في حينه وضرر كان أحرى به أن يتقيه قبل استفحاله. إنما يأسف الشيخ على لذة كان من حقه اغتنامها فلم يغتنمها وخطأ كان ميسوراً له اجتنابه فلم يجتنبه، وإلا فعلام البكاء ولدى الباكين أيام وليالي باقية لاغتنام تلك اللذة واجتناب ذلك الخطأ؟ إنما على فوات هذه الفرص تطول الحسرة ويشتد الندم ويبكي الباكي حتى يغرق بماء جفنه لو بقي للشيخ هذا المعين الثرار من الدموع الطيعة، ولو تسنى لشاب أن يفقه ما يبكي من الشباب الراحل قبل فواته لما طال نظره في أعقاب تلك الجوهرة المجهولة ولما وقف في مفترق الطريق ينظر إليها كما ينظر العابر الذاهل إلى الشهاب المختطف في الأفق البعيد. فغير عجيب إذاً أن يكثر دعاة التشاؤم في أجمل أدوار العمر وأحفلها بمسرات الحياة. وغير عجيب أن ترى الناس يميلون إلى الرضى والأنس بالحياة كلما طالت عشرتهم لها وريضت نفوسهم لمكارهها وطيباتها. هذه سنة كثير ممن صحبوا هذه الشيخة الفتية ونزلوا على حكمها تارة وأنزلوها على حكمهم تارة أخرى. فجيتي حولته السن من "الفرترية" إلى "الفاوستية" وهيني تغير سخره مع الزمن فصار مداعبة للحياة وتبسطاً معها بعد أن كان تبكيتا لها وازراء عليها. ونيتشة أعرض عن أستاذه شوبنهور وانتقض عليه بعد أن تعبد بعبادته وأخلص له الحب والولاء زمناً ليس بالقصير. والمعري نفسه ثاب إلى شيء من الطمأنينة والإيمان فحمد أشياء كان يذمها في شبيبته؛ وسكن إلى تداول الحالتين فعلم أننا :
اذا فزعنا فإن الأمن غايتنا *** وإن أمنا فما نخلو من الفزع وشيمة الأنس ممزوج بها ملل *** فما ندوم على صبر ولا جزع
وألف الآلام فاستهان بها. وإذا ألف الشيء استهان به الفتى فلم يره بؤسى يعد ولا نعمي وقد يشاهد مثل هذا عند كل فتى وكل شيخ من الكاتبين وغير الكاتبين. فكلهم شكا في الحياة أمراً ثم ألف ذلك الأمر. وكلهم ذاق من مائدة التشاؤم فاستعذب طعمه واستمرأ سمه ثم تغير له ذوقه وتنكرت له معدته. ولكنا نريد أن نتريث هنا متنبهين لئلا نحسب الشكوى العارضة تشاؤما فلسفيا أو نجاري أولئك الذين يخالون أنفسهم من المتشائمين وما هم في حقيقة الأمر إلا من الشاكين المتذمرين. فالشباب يشكو ولكنه قل أن يتشاءم والشيخ يرضى ولا يلزم من ذلك أن يكون متفائلاً. فلربما قنع المرء لقلة ما يطلب وضعف ما يحرك نفسه من بواعث الحياة. ويثير سخطه من ثوائرها؛ ولربما شكا ونفسه مكتظة بالشعور طافحة بالحياة لكثرة مطالبها في قلبه وشدة دفعتها في عروقه وقوة اضطرابها في عواطفه، فهل يسمى هذا متشائما وإن حسب نفسه كذلك؟؟ كلا ليس هذا تشاؤما بالمعنى الصحيح؛ وما أجدر التشاؤم أن يكون دليلا على نضوب في معين الحياة وشح في نصيب صاحبه من التخيل والشعور.
وبعد. فماذا ينبغي أن يفهم من قولنا أن الإنسان يحنق على الحياة لأنه يطلب منها الكثير؟؟ هل معناه أن الراضين عن الحياة لا يطلبون منها إلا قليلا وأن الرضى عن الحياة مقرون بضعف الثقة بها وسوء الظن بآمالها وأمثلتها العليا؟؟ هل معناه أننا نأخذ من رضى الحياة بقدر ما ندع من طلب الكمال؟؟ ليس هذا المعنى الذي أردناه وما من قصدنا أن نقول أن الإيمان بالمثل الأعلى موقوف على الحانقين الساخطين وأن اليأس أو القنوع من ديدن الراضين المستبشرين، إننا لا نسمي الرجل بعيد المطامع لأنه يطلب الغنى من مصباح علاء الدين ولا نسميه فاتر الهمة ضعيف الأمل لأنه يطلب الغنى من منجم أعدت معداته وسبرت أغواره ودرست مراقيه ومنحدراته. ولقد يكون الأول أعز مطلباً وأبعد غاية من الأخير، ولكن ماذا على من يطلب من غير حساب أن يطلب الدنيا والآخرة؟؟
العقاد |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:38 | |
| الخيال في رسالة الغفران
هب أننا عمدنا إلى كتاب من الكتب الجغرافية فغيرنا عناوينه وأسماءه وجعلنا في موضع كل علم من أعلامه اسماً من أسماء الأساطير والخرافات وزعمنا أن هذه الحقائق التي اشتمل عليها الكتاب وصف لعالم من عوالم الجن أو كوكب من كواكب السماء. أيجوز لنا بعد هذا التبديل أن نعد هذا الكتاب بدعة من بدع القرائح وعملاً من أعمال الخيال؟؟ وهب أننا تناولنا تاريخ الدولة الرومانية؛ أو أية دولة من الدول البائدة؛ فرويناه على المستقبل بدلاً من روايته على الماضي وأجريناه مجرى التنبوء عما سيكون بدلا من اجرائه مجرى التاريخ لما قد كان، ونقلنا وقائعه من معاهدها التي حدثت فيها إلى واد من أودية السحر أو فج من فجاج الآخرة. فهل يصبح هذا التاريخ إذن قصيدة من قصائد الملاحم المأثورة أو طرفة من طرف الفنون؟؟ وعلى هذا النحو يمكننا أن نسأل عن حقيقة رسالة الغفران: ه هي قصة تاريخية أو بدعة فنية؟؟ وهل العمل الأكبر فيها للخيال و للدرس والاطلاع؟ وهل كان المعري فيها شاعراً مبتكراً أو كان قاصاً أديباً وحافظاً يسرد ما قد سمع ويروي عمن سبق؟؟ والصواب في أمر هذه الرسالة أنها كتاب أدب وتاريخ وثمرة من ثمار الدرس والاطلاع ليست بالبدعة الفنية ولا بالتخيل المبتكر؛ وقد سلك المعري فيها مسلك التلطف في القصص. فهو يورد طائفة من أخبار الشعراء والأدباء ونتفاً من أشعارهم وملحهم ويضيف إليها حواراً كان يقع مثله بين النحاة والرواة ممن تقدمه فيعزوه هو إلى الشعراء أنفسهم ويجعل أولئك الشعراء مرجعه الذي يفصل له فيما كان من الخلاف على لحن عباراتهم وضبط ألفاظهم ونوادر تراجمهم، فينحلهم آراءه في ذلك الخلاف ويلقنهم حكمه فيما يحسبه هو صواباً أو خطأ من أقاويل النقاد وأسانيد الرواة. فهو كان في تلك الرسالة إما مؤدياً لأخبار من سبق ناقلاً لأحاديثهم أو معلقاً برأيه على تلك الأخبار المؤداة والأحاديث المنقولة. وليس في كل هذا عمل كبير للتخيل والاختراع. ولم ننس أن المعري نقل كل ما تقدم إلى جنة الخلد وأنه وصف لنا الجنة وطيباتها وما أعده الله لأهلها من عيش رخيم ونعيم مقيم وشهوات مطاعة ودعوات مجابهة؛ وذكر لنا كيف ينظر المتقون إلى الطير السابح فيسقط بين أيديهم مشوياً مطهياً وكيف يتشوقون إلى الثمر اليانع فينتفض أمامهم خلقاً سويا. فأسهب في هذه الصفات ما أسهب وأجاد فيها ما أجاد. ولكن أي شيء من هذه الأشياء لم يكن من قبل ذلك معروفاً موصوفاً؟؟ وأي خبر من أخبار الجنة المذكورة لم يكن في عصره معهوداً للناس مألوفاً؟؟ كل أولئك كان عندهم من حقائق الأخبار ووقائع العيان ينتظرونه ويؤمنون به ويصدقون أنهم ملاقوه في ساعة من ساعات الرضوان كما يصدقون أنهم داخلو بغداد و مصر اذا شخصوا إليها. فرسالة الغفران في هذا الباب أقرب إلى الكتب الجغرافية وأوصاف الرحلات المشاهدة منها إلى أفانين الشعر ومخترعات الخيال، وأشبه بالتواريخ المدونة منها بالنبوءات المؤملة والغرائب المستطرفة. |
|
| |
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: رحلة مع رهين المحبسين 17/6/2009, 02:40 | |
| ولم يكن الخيال من ملكات المعري التي اشتهر بها. ولم يكن هو نفسه يحب أن يوصف بالقدرة عليه بل لعله كان يكره أن ينسب إلى أهله ويراه منافياً للصدق مخالفاً للأمانة في القول، وبحسب المحاسن المتخيلة من باطل الزخرف ولغو الكلام. وكأنه كان يريد أن يبرأ من الخيال حين قال في فاتحة لزومياته "كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية أوراق توخيت فيها صدق الكلمة ونزهتها عن الكذب والميط" وكأنه كان يشير إلى هذا المعنى حين ختم تلك المقدمة بقوله: "إني رفضت الشعر رفض السقب غرسه والرأل تريكته، والغرض ما استجيز فيه الكذب واستعين على نظامه بالشبهات فإما الكائن عظة للسامع وإيقاظاً للمتوسن وأمراً بالتحرر من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر فهو ان شاء الله مما يلتمس به الثواب. وأضيف إلى ما سلف من الاعتذار أن من سلك في هذا الأسلوب ضعف ما ينطق به من النظام لأنه يتوخى الصادقة ويطلب من الكلام البرة. ويروى عن الأصمعي كلام معناه "أن الشعر باب من أبواب الباطل فإذا أريد به غير وجهه ضعف" وقد وجدنا الشعراء توصلوا إلى تحسين المنطق بالكذاب وهو من القبائح وزينوا ما نظموه بالغزل وصفة النساء ونعوت الخيل والابل وأوصاف الخمر وتسببوا إلى الجزالة بذكر الحرب واحتلبوا اخلاف الفكر وهم أهل مقام وخفض في معنى ما يدعون أنهم يعانون من حث الركائب وقطع المفاوز ومراس الشقاء" فالمعري كان ينكر أن يصف شيئاً لا حقيقة له من الحس؛ ويأبى على الشعراء أن يتقولوا بما لا يعانون ويتوصلوا إلى تحسين المنطق بالكذب وتزيينه بالغزل والحماسة، ويعتذر من ضعف نظام اللزوميات باجتنابه غواية الزور فيها والتزامه الصدق والبر. أي أنه كان يحتجز مخيلته ويتهم وسواس قريحته ويحب أن يخرج صدقة للناس عاريا من كل زخرف وطلاوة. فكانت ملكة الخيال فيه على قصورها وضعفها مكبوحة لا تنطلق إلى مداها وكان هو إلى التمحيص والتعمق أميل منه إلى التحليق والتجميل. ولسنا نعني أن نقول أن الشاعر يدان باعترافه ويؤخذ بحكمه على ملكاته، فإن هذا يلزمنا أن نصدق كل مغرور في دعواه وأن نخلط بين حقيقة المرء وبين ما يراه المرء لنفسه من الحقيقة المحببة إليه؛ وليس هذا من الصواب ولا من الانصاف في شيء. ولكنا أردنا أن نبين ضعف سلطان الخيال على ملكات المعري وغلبة النزعة الفلسفية فيه على السليقة الفنية؛ وأن نستدل من رأيه في الأخيلة الشعرية على قلة تمكنها من طبعه وسهولة انصرافه عن فتنتها وافلاته من أوهاقها، وما عهدنا أن يسهل الافلات منها على ذي قريحة مطبوعة على التخيل. ومن القصد في الحكم أن نقول هنا أن رسالة الغفران لم تخل من آثار الخيال ولم تعطل كل العطل من حلية الشاعرية. وهذا من البديهيات وإلا فكيف كان يتأتى أن تخلو من خيال وأن تعطل من شاعرية؟؟ وكيف كان يتهيأ للمعري أن يتوخى الصدق الحسي في الرسالة وأن يفصل بين الخيال والحقيقة في رواية هذه الغيبيات ولو تنبه لذلك جهده وحاوله بكل ما أوتي من قدرة؟؟ فأقل ما في الأمر أنه رجل كفيف نشأ على أن يستعين بالتصور الوهمي على ادراك الصور المرئية فلا بد له من قدر من التخيل تكسبه إياه المعالجة إن لم يكن قد طبع عليه طبعاً؛ وأنه مارس الشعر والتوصيف ولن تخلو الممارسة من فائدتها في تنمية الملكات واذكاء الخواطر؛ وانه يتحدث بأمور يختلف تصورها باختلاف متصوريها لأنها من الغيبيات التي لم تسمعها اذن ولم يلم بها نظر؛ فسبيله – سواء أراده أم لم يرده – أن يمزج بالوصف شيئاً من هواجس نفسه ويغشيه بمسحة من صبغة فكره؛ فيكون له فيه فضل فوق فضل النقل والرواية. وهذا ما صنعه المعري في هذه الرسالة. فهي رحلة قديمة كما قلنا ولكنه أعادها علينا كأنه قد خطا خطواتها بقدميه وروى لنا أحاديثها كانما هو الذي ابتدعها أول مرة؛ فقد أعارها هواه واشربها روحه فهشت لها جوانحه، وتمنى فأعانه التمني على التخيل. ولا عجب أن يشغل المعري قلبه بمتع الجنات أو يتشاغل بها بعد اذ حرمته الدنيا متعها وحرم هو على نفسه ما بقي منها. فإن اللحم والدم لا ينسيان حظهما من الحياة نسية واحدة! ولا بد من يقظة للنفس في بعض أوقاتها التي تخلو بها على شياطينها وتنفرد بغرائزها ونزعاتها. وما حرم المعري طيبات هذه الدنيا إلا لقلة مؤاتاتها وأنفته من أن يتبذل في طلبها ويخل بوقاره واحتشامه في الأخذ بأسبابها والتصدي لشؤونها. على أنه كم من لحظة قال فيها لنفسه:
أيأتى نبي يجل الخمر طلقة *** فتحمل شيئاً من همومي وأحزاني! أو قال في اخلاص وأسف: تمنيت أن الخمر حلت لنشوة *** تجهلني كيف اطمأنت بي الحال مقل من الأهلين يسر وأسرة *** كفى حزناً بين مشت واقلال!! قبل أن يفيء إلى حلمه فيقول: وهيهات لو حلت لما كنت شارباً *** مخففة في الحلم كفة ميزاني أو يقول: لو كانت الخمر حلا ما سمحت بها *** لنفسي الدهر لا سراً ولا علناً
فاما والخمر التي يشتهيها في رسالة الغفران خمر الجنان التي أعدها الله للصالحين من عباده فلا حرج عليه أن يصف مجالسها ويتحدث بمنادماتها ولا هو واجد – أن تمناها – من يلومه على هذا التمني أو يلجئه إلى مثل ذلك الاستدراك السريع..!
إن رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شيق ونسق طريف في النقد والرواية، وفكرة لبقة لا نعلم أن أحداً سبق المعري إليها (اللهم إلا اذا استثنينا محاورات لوسيان في الاولمب والهاوية) وفذلكة جامعة لا شتات من نكات النحو واللغة. ذلك تقدير حق موجز لرسالة الغفران أما أن ينظر إليها كأنها نفحة من نفحات الوحي الشعري على مثال ما نعرف من القصائد الكبرى التي يفتن في تمثيلها الشعراء أو القصص التي يخترعونها اختراعا؛ أو ينظر إليها كأنها عمل من أعمال توليد الصور والباس المعاني المجردة لباس المدركات المحسوسة، فليس ذلك حقاً وليس في قولنا هذا غبن للمعري أو بخس لرسالة الغفران. كلا ولا هو مما يغضب المعري أن يقال هذا القول في رسالته.
العقاد |
|
| |
|