في حكمِ أخذِ الأجرة على تعليم القرآن
السؤال:
ما حكمُ مَنْ يأخذ الأجرَ على تحفيظ القرآن وتعليمِ الناس الحروفَ كمًّا وكيفًا؟ مع العلم أنَّ الفقراء معنيُّون بهذا أيضًا، وإذا كان بالجواز: فهل يُوجَدُ هناك فرقٌ بين مَنْ يأخذ أجرتَه عليها مِنَ الوزارة (وأعني معلِّمي القرآن) وبين مَنْ لا يأخذ أجرتَه على هذا التعليم (وأعني الأئمَّة المدرِّسين والقيِّمين والمؤذِّنين)؟ هذا مِنْ جهةٍ، ومِنْ جهةٍ أخرى المتطوِّعون الذين لا دَخْلَ لهم على الإطلاق ومِنْ أيِّ جهةٍ كانَتْ إلَّا هذه الأجرةُ التي يتقاضَوْنها مِنْ أولياء التلاميذ، مع العلم أنَّ الذين يتقاضَوْن رواتبَهم الشهرية مِنَ الوزارة أغلبُهم ضعيفو الدخلِ لا يَفِي بحاجتهم المادِّيَّة، وبارك اللهُ فيكم وجزاكم خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فاعْلَمْ أنَّ ما عليه جمهورُ أهل العلم: جوازُ أخذِ الأجرة على تعليم القرآن(١)؛ استدلالًا بما ثَبَتَ في الصحيح مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللهِ»(٢) ،وبما ثَبَتَ في الصحيحين ـ أيضًا ـ مِنْ حديثِ المرأةِ التي زوَّجها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم برجلٍ على أَنْ يعلِّمَها ما معه مِنَ القرآن(٣)، وبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم لعمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه: «مَا آتَاكَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ هَذَا الْمَالِ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلَا إِشْرَافٍ فَخُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ أَوْ تَصَدَّقْ بِهِ، وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ»(٤)، قال ابنُ حزمٍ ـ رحمه الله ـ: «والإجارةُ جائزةٌ على تعليم القرآن، وعلى تعليمِ العلم مُشاهَرةً وجملةً، وكُلُّ ذلك جائزٌ، وعلى الرُّقَى، وعلى نسخِ المَصاحف، ونسخِ كُتُبِ العلم؛ لأنه لم يأتِ في النهي عن ذلك نصٌّ، بل قد جاءَتِ الإباحةُ»(٥).
أمَّا ما استدلَّ به الحنفيةُ(٦) ومَنْ وافَقَهم مِنْ حديثِ عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه قال: «عَلَّمْتُ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، فَأَهْدَى إِلَيَّ رَجُلٌ مِنْهُمْ قَوْسًا، فَقُلْتُ: لَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَآتِيَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَأَسْأَلَنَّهُ، فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: «يَا رَسُولَ اللهِ، رَجُلٌ أَهْدَى إِلَيَّ قَوْسًا مِمَّنْ كُنْتُ أُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْقُرْآنَ، وَلَيْسَتْ بِمَالٍ، وَأَرْمِي عَنْهَا فِي سَبِيلِ اللهِ؟» قَالَ: «إِنْ كُنْتَ تُحِبُّ أَنْ تُطَوَّقَ طَوْقًا مِنْ نَارٍ فَاقْبَلْهَا»»(٧)، والحديثُ له طُرُقٌ وشواهدُ؛ فقَدْ رُوِيَ معناه عن أُبَيِّ بنِ كعبٍ وعن عبد الرحمن بن شِبْلٍ وعن عمران بنِ حُصَيْنٍ رضي الله عنهم(٨) مؤوِّلِين حديثَ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما بأنَّ المراد بالأجر فيه: الثوابُ، وذَهَبَ آخَرُون إلى القول بأنَّه منسوخٌ بالأحاديث الواردة في الوعيد على أَخْذِ الأجرة على تعليم القرآن، ومنها: حديثُ عثمان بنِ أبي العاص قال: «إِنَّ مِنْ آخِرِ مَا عَهِدَ إِلَيَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِ: اتَّخِذْ مُؤَذِّنًا لَا يَأْخُذُ عَلَى أَذَانِهِ أَجْرًا»(٩).
فإنَّ الجمهور يردُّون ما اعترض به الحنفيةُ بأنَّ حديثَ عُبادةَ رضي الله عنه في سندِه مَنْ هو مختلَفٌ فيه وهو المغيرةُ بنُ زيادٍ، وكُلُّ الشواهد الأخرى لم يصحَّ منها شيءٌ، وليس فيها ما تقوم به الحجَّةُ؛ لذلك رجَّحوا حديثَ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما في البخاريِّ لعدمِ وجودِ مَنْ هو مختلَفٌ في عدالته؛ ترجيحًا بالاتِّفاق على عدالة الراوي، وهو مِنْ وجوه الترجيح مِنْ جهةِ السند باعتبار حال الراوي(١٠).
وعلى تقديرِ أنَّ مجموع ما تُفيدُه هذه الأحاديثُ يُورِثُ ظنًّا بعدم الجواز وتنتهض للاستدلال على المطلوب فجوابُه أنَّ تلك الأحاديثَ ليس فيها تصريحٌ بالمنع على الإطلاق، بل هي وقائعُ أحوالٍ محتمِلةٌ للتأويل؛ لتُوافِقَ الأحاديثَ الصحيحة على ما بيَّنه ابنُ حجرٍ(١١) والشوكانيُّ(١٢) رحمهما الله.
وأمَّا حملُ الأجر في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما على الثواب فبعيدٌ؛ لأنَّ سياقَ القصَّةِ التي في الحديث يأبى هذا التأويلَ، والقولُ بأنَّه منسوخٌ متعقَّبٌ بأنَّ النسخ لا يَثْبُتُ بالاحتمال.
هذا، وقد سَلَك بعضُ العلماء مَسْلَكَ الجمع بين هذه الأحاديثِ التي ظاهِرُها التعارضُ، وأظهرُ وجوهِ الجمع هو حملُ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما على العموم، بما في ذلك: تعليمُ القرآن وعلومِ الشريعة، وأخذُ الأجرةِ على التلاوة لمَنْ طَلَبَ مِنَ القارئ ذلك، وأخذُ الأجر على الرقية ونحو ذلك، ويُخَصُّ مِنْ هذا العمومِ تعليمُ المكلَّف، ويبقى ما عدَاهُ داخلًا تحت العموم وبه قال الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ(١٣).
وعندي أنَّه يجوز أخذُ الأجرةِ كمَصْدرِ رزقٍ في مُقابِلِ التفرُّغ لأداء الطاعات والقُرُبات على الوجه الأكمل، وليس ذلك بعوضٍ عن الطاعات وإنَّما للإعانة عليها؛ ذلك لأنَّ اشتغال هؤلاء بتحصيلِ ما به قِوامُ حياتهم وحياةِ مَنْ يعولونهم تضييعٌ للقرآن الكريم والشرعِ الحنيف بانقراض حَمَلَتِه، وهذا لا يُخْرِجه عن كونه قُرْبةً وطاعةً ولا يقدح في الإخلاص، وإلَّا ما استُحِقَّتِ الغنائمُ وسَلَبُ القتيل، ثمَّ إنَّ في تعليم القرآن والعلوم الشرعية ما يُساعِدُ على نشرِ الإسلام وتعاليمِه؛ لذلك أفتى متأخِّرو الحنفية بجوازِ أخذِ الأجرة على تعليم القرآن والفقهِ والحديث؛ استثناءً مِنْ أصلهم وعدولًا عن مذهبهم استحسانًا، مُوافِقين في ذلك مذهبَ الجمهور.
هذا كُلُّه فيما إذا كان المعلِّمُ غيرَ مشمولٍ برزقٍ مِنَ الجهة الوصيَّة أو غيرِها، أمَّا إذا كان المعلِّمُ تُجْرَى عليه مرتَّباتٌ ماليةٌ مِنْ قِبَلِ وزارته فلا يصحُّ أَنْ يأخذ مالًا زائدًا مِنْ جهةِ أولياء التلاميذ؛ لأنَّ العمل المعلومَ مدفوعُ الأجر، وما زاد فبأيِّ حقٍّ يأخذه؟ وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنِ اسْتَعْمَلْنَاهُ عَلَى عَمَلٍ فَرَزَقْنَاهُ رِزْقًا، فَمَا أَخَذَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ غُلُولٌ»(١٤)، اللهم إلَّا إذا عَمِلَ عملًا آخَرَ خارجًا عن إطارِ عَمَلِه كفضلٍ زائدٍ مِنْ غيرِ إخلالٍ ولا إحداثِ اضطرابٍ في انتظام عملِه الأصليِّ، ولا استعمالٍ لمَرافِقِ المسجد لمصلحته؛ فله ـ والحالُ هذه ـ أَنْ يُعينَ نَفْسَه وأهلَه مِنْ متطلَّباتِ المعيشة والحاجيات الأساسية بأَنْ يأخذ البذلَ المعلوم الزائد في مُقابِلِ العمل المعلوم الزائد.
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٢ ذي الحجَّة ١٤٢٠ﻫ
الموافق ﻟ: ١٩ مارس ٢٠٠٠م
(١) يجوز الاستئجارُ على تعليم القرآن عند مالكٍ والشافعيِّ وابنِ حزمٍ ومتأخِّرِي الأحناف، [انظر: «الشرح الكبير» للدردير (٤/ ١٦)، «حاشية الدسوقي» (٤/ ١٨)، «مغني المحتاج» للشربيني (٢/ ٣٤٤)، «المحلَّى» لابن حزم (٨/ ١٩٣)، «حاشية ابن عابدين» (٢/ ٧٣، ٦/ ٥٥)].
وللحنابلة قولان: أحَدُهما: المنعُ، والآخَرُ: الجوازُ، [انظر: «الإنصاف» للمرداوي (٦/ ٤٣)، «المُبْدِع» لابن مُفْلِح (٥/ ٩٠، ٩١)].
ورأيُ ابنِ تيمية: الجوازُ بشرط الحاجة، ولا يجوز مع الغنى، [انظر: «مجموع الفتاوى» (٣٠/ ٢٠٥، ٢٠٧)].
(٢) أخرجه البخاريُّ في «الطبِّ» باب الشرط في الرقية بقطيعٍ مِنَ الغنم (٥٧٣٧) مِنْ حديثِ ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما.
(٣) أخرجه البخاريُّ في «فضائل القرآن» باب: خيرُكم مَنْ تَعلَّمَ القرآنَ وعلَّمه (٥٠٢٩)، وفي «النكاح» باب التزويج على القرآن وبغير صداقٍ (٥١٤٩)، ومسلمٌ في «النكاح» (١٤٢٥)، مِنْ حديثِ سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنهما. وفي لفظٍ لمسلمٍ: «انْطَلِقْ فَقَدْ زَوَّجْتُكَهَا فَعَلِّمْهَا مِنَ الْقُرْآنِ».
(٤) أخرجه البخاريُّ في «الزكاة» بابُ مَنْ أعطاه اللهُ شيئًا مِنْ غيرِ مسألةٍ ولا إشرافِ نَفْسٍ (١٤٧٣)، ومسلمٌ في «الزكاة» (١٠٤٥)، والنسائيُّ في «الزكاة» بابُ مَنْ آتاه اللهُ عزَّ وجلَّ مالًا مِنْ غيرِ مسألةٍ (٢٦٠٥) واللفظُ له، مِنْ حديثِ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه. وانظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٢٢٠٩).
(٥) «المحلَّى» لابن حزم (٨/ ١٩٣).
(٦) لا يجوز ـ عند الحنفية ـ الاستئجارُ على الأذان والحجِّ والإمامةِ وتعليم القرآن والفقه، [انظر: «الهداية» للمرغيناني (٣/ ٢٤٠)]، غيرَ أنَّ المتأخِّرِين منهم أفتَوْا بالجواز، وهو المُفْتَى به اليومَ، [انظر: «حاشية ابن عابدين» (٢/ ٧٣، ٦/ ٥٥)].
(٧) أخرجه أبو داود في «الإجارة» بابٌ في كسبِ المعلِّم (٣٤١٦)، وابنُ ماجه في «التجارات» باب الأجر على تعليم القرآن (٢١٥٧)، مِنْ حديثِ عُبادةَ بنِ الصامت رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ١/ ٥١٥).
(٨) انظر بعضَ هذه الأحاديثِ والشواهد في: «إرواء الغليل» (٥/ ٣١٦) و«السلسلة الصحيحة» (١/ ١/ ٥١٧) كلاهما للألباني.
(٩) أخرجه أبو داود في «الصلاة» بابُ أخذِ الأجر على التأذين (٥٣١)، والترمذيُّ في «الصلاة» بابُ ما جاء في كراهيةِ أَنْ يأخذ المؤذِّنُ على الأذان أجرًا (٢٠٩)، والنسائيُّ في «الأذان» بابُ اتِّخاذِ المؤذِّنِ الذي لا يأخذ على أذانه أجرًا (٦٧٢)، وابنُ ماجه في «الأذان» باب السنَّة في الأذان (٧١٤)، مِنْ حديثِ عثمان بنِ أبي العاص رضي الله عنه. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٥/ ٣١٦).
(١٠) انظر: «الإشارة» للباجي ـ بتحقيقي ط.٣ ـ (٣٧٦)، وتعليقي عليه: «الإنارة» ـ ط.١ ـ (٤٤٢).
(١١) انظر: «فتح الباري» لابن حجر (٤/ ٤٥٣).
(١٢) انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٧/ ٣٥).
(١٣) انظر: «وبل الغمام» للشوكاني (٢/ ١٦١).
(١٤) أخرجه أبو داود في «الخراج والإمارة والفيء» بابٌ في أرزاق العُمَّال (٢٩٤٣) مِنْ حديث بُرَيْدةَ بنِ الحُصَيْب الأسلميِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٦٠٢٣).