في اختيارِ العبدِ لأفعاله بإرادته
السؤال:
عقيدةُ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ أنَّ ما شاء اللهُ كان وما لم يشأْ لم يكنْ، وهنا تنقدح في نفسي شبهةٌ وهي: الفعلُ -بغضِّ النظرِ عن مشيئةِ العبدِ له أو عدمِها- واقعٌ بمشيئةِ اللهِ، فإذا عصى العبدُ اللهَ فإنَّ عصيانَه بمشيئةِ اللهِ، وتَوَسُّطُ مشيئةِ العبدِ بين مشيئةِ اللهِ والفعلِ لا وَزْنَ له؛ لأنها -أي: مشيئةَ العبدِ- وجودُها كعدمِها سواءٌ إلى جانبِ مشيئةِ اللهِ، فإذا شاءَ اللهُ شيئًا شاءَه العبدُ وفَعَلَهُ، وإذا لم يشأِ اللهُ شيئًا لم يشأْه العبدُ ولم يفعلْهُ.
سؤالي: ألا يعني هذا أنَّ العبدَ مُكْرَهٌ ومجبورٌ على أفعالِه الحسنِ منها والقبيحِ؟ وإذا كان الجوابُ بنعمْ: فكيف يُعَاقَبُ على عصيانِه؟ أفيدونا جزاكم اللهُ خيرًا، فهذا أمر حيَّرَني.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فاعلمْ -وفَّقك اللهُ للخيرِ- أنه حتى تستبين المسألةُ ينبغي التفريقُ بين القضاءِ الكونيِّ والقضاءِ الشرعيِّ.
فالأوَّلُ: هو قضاءٌ كونيٌّ قَدَرِيٌّ، ووقوعُه ضروريٌّ لِمشيئةِ اللهِ النافذةِ في مُلْكِه، وهو لا يخلو من الحِكْمَةِ، قال تعالى: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [البقرة: ١١٧]، وقولُه تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِن دُونِهِ مِنْ وَالٍ﴾ [الرعد: ١١]، بمعنى أنَّ عِلْمَ اللهِ تعالى السابقَ بما سيكونُ ووقوعَه إِنَّمَا يكون وَفْقَ عِلْمِهِ، ولا يُجْبِرُ أحدًا من عبادِه على فعلِ الطاعةِ أو المعصيةِ ولا يقهرهم عليها؛ لأنَّ عِلْمَه سبحانه صفةُ انكشافٍ وإحاطةٍ لا صفةُ تفعيلٍ وتأثيرٍ، والقضاءُ الكونيُّ القدريُّ محجوبٌ عِلْمُه عنَّا، لذلك لا يُحَاسَبُ عليه العبدُ ثوابًا ولا عقابًا، ولكنْ يلزمُه الشكرُ إنْ ترتَّب عن نفاذِ قضائِه نعمةٌ، والصبرُ إن أصابَه سوءٌ عن نفاذِ قضائِه، وعليه فلا تُبْنَى إرادةُ العبدِ عليه ولا اختيارُه، بخلافِ القضاءِ الشرعيِّ الدينيِّ فإنَّ إرادةَ العبدِ واختيارَه تتعلَّق به، ويُبْنَى عليه التكليفُ الشرعيُّ بالأمرِ والنهيِ وهو مَنَاطُ الثوابِ والعقابِ، واللهُ سبحانَه وتعالى أظهر لنا إرادتَه الشرعيةَ الدينيةَ وقضاءَه عن طريقِ الرسلِ والوحيِ من حلالٍ وحرامٍ، وَوَعْدٍ ووعيدٍ، وَمَنَحَ لذلك القدرةَ والاستطاعةَ، ولَمَّا كان القضاءُ الكونيُّ القدريُّ شاملاً لكلِّ ما كان وما يكون إلى يومِ القيامةِ، فإنَّ القضاءَ الدينيَّ الشرعيَّ يخضع له، ولا يخرج عنه إذ لا يشذُّ عن القضاءِ الكونيِّ القدريِّ شيءٌ من الموجوداتِ.
وعليه، فاللهُ تعالى أراد من عبادِه الطاعةَ، وأمر بها، ولم يُرِدْ منهم المعصيةَ، ونهى عنها قضاءً شرعيًّا دينيًّا تكليفيًّا، يدخل في قدرةِ المكلَّفِ الفعلُ والتركُ، وموكولٌ إلى اختيارِه، لكنْ سبق عِلْمُ اللهِ أنَّ بعضَهم سَيَمْضِي باختيارِه سبيلَ الحقِّ والطاعةِ، كما عَلِمَ سبحانَه أنَّ بعضَهم يختارُ سبيلَ الغَيِّ والضلالِ، فقضى سبحانَه لأهلِ الطاعةِ بالثوابِ، وقضى لأهلِ الغَيِّ والضلالِ بالعقابِ قضاءً كونيًّا قدريًّا سَبَقَ عِلْمُه سبحانَه إلى ذلك، وليس في سَبْقِ عِلْمِه عزَّ وجلَّ قهرٌ ولا جَبْرٌ بما سيفعله المكلَّفُ باختيارِه؛ لأنه قضاءٌ كونيٌّ غيبيٌّ لا يعلمه إلاَّ اللهُ سبحانَه، لذلك لا يجوز للعاصي أنْ يحتجَّ في ذنبه وتقصيرِه عن أداءِ الطاعةِ بالقضاءِ الكونيِّ القدريِّ حيث لا حجَّةَ فيه لأحدٍ، ومن جهةٍ أخرى لا يجوزُ لأحدٍ تركُ العملِ من بابِ الاتِّكالِ على ما سبقتْ به إرادةُ اللهِ الكونيةُ القدريةُ، لذلك قال النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسَلَّم: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ»، ثمَّ قرأ: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ [الليل: ٥-١٠](١)، قال شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمه الله-: «إنَّ القَدَرَ ليس حجَّةً لأحدٍ على اللهِ، ولا على خَلْقِهِ، ولو جاز لأحدٍ أن يحتجَّ بالقَدَرِ على ما يفعلُه من السيِّئاتِ لم يُعاقَبِ الظالِمُ، ولم يُقْتَلِ الْمُشْرِكُ، ولم يُقَمْ حدٌّ، ولم يُكَفَّ أحدٌ عن ظلمِ أحدٍ، وهذا من الفسادِ في الدينِ والدنيا المعلومِ ضرورةً»(٢).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٧ صفر ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ١٨ مارس ٢٠٠٦م
(١) أخرجه البخاري في «التفسير» (٤٩٤٩)، ومسلم في «القدر» (٦٩٠٣)، وأحمد (١٣٦٥)، من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(٢) «مجموعة الرسائل الكبرى» (١/ ٣٥٣).