الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: قراءه في كتاب المفاضله بين النظم والنثر 20/4/2009, 00:49 | |
| فكرة “الاحتفــــــــــــــــاء”، قديمـــــا: الاحتفاء الأدبي والفكري قديم في تراثنا العربي، وتعلمون جميعا أن العرب منذ جاهليتهم الأولى قد بالغوا في الاحتفاء بشعرائهم ونبغائهم. وكان نبوغ شاعر داعية فرح كبير يهز أريحيتهم، فينصبون موائد الكرم والطعام، ويقبلون الأماني والتهاني. وقد كان الإعلان عن ميلاد شاعر أو خطيب بليغ بهذا الفرح وبتلك الموائد بمثابة البشارة التي تهيئ سائر القبائل الأخرى داخل الجزيرة العربية وعند تخومها الشمالية والجنوبية للاستماع والتلقي الجيد لشعر هذا الشاعر أو بلاغة ذلك الخطيب. وأعتقد أن هذا ما نحتاجه الآن؛ أقصد الإكثار من مثل هذه الموائد الفكرية لعرض أعمال الباحثين والمبدعين داخل كليتنا وخارجها، للمساهمة في صناعة القارئ الجيد في هذا العصر الذي اختلط فيه الحابل بالنابل، وتفرقت فيه السبل بالناس.
وعندما استقرت الحضارة العربية في عواصمها العلمية والثقافية المشهورة، واتسع إشعاعها شرقا وغربا تواضع المبدعون والمصنفون على آداب جمة وطقوس جميلة خاصة بالمصنفين والمؤلفين ترسخت مع الزمن؛ وتتعلق هذه الآداب والطقوس بطرق المناولة الفكرية بين السابق واللاحق، وبين الشيخ والمريد، في هذه الجهة أو تلك، وبين كل علم أو فن. ويكفي، هنا، أن أشير مثلا إلى ما جرى بين القاضي عياض في المغرب والزمخشري في المشرق على تباعد بينهما في المسافة والمذهب، من طريق المراسلة فقط، وإلى مدرسة السلفي المشهورة في الإسكندرية التي احتضنت أعلام المشرق والمغرب الإسلاميين، وكان وصول المرتحلين إلى هذه المدرسة يغنيهم عن الاستمرار في الرحلة ومكابدة أهوالها في الجزيرة العربية أوالشام أوالعراق أو حتى خراسان.
وهذا موضوع جميل يستحق منا أن نعقد له ندوة أو على الأقل يوما دراسيا. وقد ألم القلقشندي في كتابه الموسوعي الضخم ” صبح الأعشى” إلماما جيدا بهذا الموضوع الطريف، وتحدث عن شؤون كثيرة تخص المؤلفين في توادهم وتواصلهم المعرفي من قبيل أخذ الإجازات، وطلب الإذن أو الحق، بطريقة أو بأخرى، في الاستفادة من جهود الآخرين، عند الإقبال على التدريس أو التأليف . وتحدث أيضا عن الاحتفاء أو فن تقديم الكتب أو ما أسماه” عراضات الكتب”. وهو موضوع غاية في الطرافة، يشمل نعت الكتب ووصفها وتلخيصها وإطراءها وإهداءها والتعليق عليها. وقد ألم أستاذنا بوتابيا في كتابه هذا، ببعض متعلقات هذا الموضوع عندما تحدث عن مدح وتقريظ الكتاب لقصائد الشعراء، وتقريض الشعراء لرسائل الكتاب، وأتى بنماذج اختارها بدقة وعناية، وخاصة أشعار أبي تمام وتلميذه البحتري في تقريظ رسائل كبار الكتاب على عهديهما. وقد طارت شهرة هذه التقريظات الشعرية لجمالها وعذوبتها، ولدقتها في النقد والإطراء والوصف من جهة، ولما بثته من قيم إنسانية، ومن نبل في مداخلة إخوانهم الأدباء وكسب ودهم، من جهة ثانية. وكان ذلك كفيلا بإذابة ما تراكم من صقيع جاف بارد على ضفاف النظم والنثر. هذا ما أردت قوله بتركيز شديد بخصوص فكرة الاحتفاء لأن المقام لا يسمح بالتفصيل حتى لا نخرج عن الحدود المرسومة لهذا اللقاء الثقافي الجميل مع كتاب “المفاضلة” لأستاذنا الفاضل الحسن بوتبيا .
عدل سابقا من قبل الوتر الحزين في 20/4/2009, 00:59 عدل 1 مرات |
|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قراءه في كتاب المفاضله بين النظم والنثر 20/4/2009, 00:51 | |
| تطابق حقيقة الكتاب وحقيقة صاحبه: كنت كلما استقبلتني طلعة أستاذنا الحسن بوتابيا، بما توحي به من احترام ووقار، أجد فيها ما يشبه هبة النسيم. وهي من اللطف بحيث يخيل إليك أنها لا تستطيع أن تهصر غصنا غضا طريا، أو تثير ذرة رمل. غير أنه بعد أن أتحفني بكتابه، وأمكنني من الإطلاع على خبيئته، والتعرف على مكنون سره رفع اللبس عن حقيقة سمته وصمته، واتضح لي بصدق العلامات أنه صاحب مقامات ومشاكسات. فهو هادئ ووديع في ظاهره متقد في داخله. إنه باختصار شديد يتقن فن إنضاج الفكرة بتقليبها على وجوهها المختلفة ودفعها إلى مضايقها الحقيقية، حتى تتمخض عن صريح زبدها، شأنه في ذلك شأن كل من يجل عمله ويتفانى فيه ويظهره على وجه الحق والسداد دون تعب أو ملل، ودون زيف أو ادعاء.
أما الإحساس الأول الذي انتابني بعد فراغي من قراءة عمله هذا هو أنه تنزل من نفسي وعقلي منزلة رفيعة. ذلك أن أفكار الآخرين وتجاربهم في الحياة والعلم والعمل تتنزل من النفس والعقل حيث يمكن أن تجد فراغا أو ما يشبه الفراغ. وأعتقد أن كل من يقرأ هذا الكتاب لا بد وأن يتسرب إلى كيانه بعض من وميض عقل أستاذنا وفيض روحه. وكيف لا يكون كذلك وهو الذي صحب أبا حيان التوحيدي وأبا إسحاق الصابي وأبا سليمان المنطقي وأضرابهم. وهم من هم صفاء روح وعمق تفكير وخبرة واسعة بتجارب الناس خاصتهم وعامتهم، في حاضرهم و غابرهم…؟! وكان يخيل إلي، في كثير من الأحيان، كأنه حضر مجالسهم واطلع على أخص أسرارهم، أوصاحبهم في تحركاتهم وتنقلاتهم داخل بلدان العراق التي أنجبتهم، وحتى كاد لسانه يستقيم على لسانهم، في كثير من فقرات كتابه مما رغبني أنا أيضا في أن أنتظم في سلكهم، وألتحق بزمرتهم .
ولذلك أعتقد شخصيا أن قيمة هذا الكتاب الإنسانية والفكرية أكبر بكثير من حجمه، وأن عنوانه لايوحي، في ظاهره، بعمق ما في باطنه، ولا بصفاء معدنه ونقاء جوهره إلا بعد الفراغ من قراءته. والشأن في ذلك شأن تلك الانطباعات الأولية الخادعة عن الأشياء والناس التي لا يكشف زيفها وخداعها إلا نور الحق ويقين التجربة. أنتقل الآن إلى نقطة أخرى مرتبة عن سابقتها وتتعلق بسخائه الفكري وعنايته بقارئه. فشخصية بهذا السمت المشار إليه آنفا لابد وأن تكون غاية في البذل والعطاء. وكما يمكن أن نتحدث عن كرم مادي محسوس قد يعم أفرادا محدودين ثم ينقطع أثره، يمكن أن نتحدث عن نوع آخر من الكرم الأدبي والفكري قد يغمرنا جميعا دون أن نعبأ به. وهو كرم تتضاعف حسناته مع الزمان مهما قد يهال عليه من غبار النسيان. فقد نقرأ كتابا سرعان ما يكشف لنا عن بخل وتقتير، أو زيف وضحالة في التفكير، أو قصور في التعبير، أو تمويه أومصادرة على المطلوب، أو استخفاف بعقل القارئ أو مبالغة زائدة في الثقة به وفى الاطمئنان إلى اطلاعه وفهمه، وأحيانا حتى بإذلاله، والمن عليه، وعدم الإقبال عليه بما يلزم من شروط الإكرام. لأن مدلول الكرم لا يقتصر على تقديم الأكل فقط، وإنما معناه الحقيقي في مداخلة الضيف، والإقبال عليه ببشاشة ولطف، مع حسن الخدمة وإتحافه بالطيب والفاكهة.
وأعتقد أن أستاذنا، وربما من حيث لا يدري، قد تحقق في كتابه المراد المقصود بالكرم الأدبي، لأن هذا الكرم، على وجهه الحقيقي، طبع متأصل فيه أولا، ولاشتغاله وانشغاله ردحا من الزمن بأدب الكتاب وبلاغة النثر ثانيا. وقد اتضح من كتاب أستاذنا القيم، بما لا يدع مجالا للشك أن الكتاب كانوا أكثر الأدباء كرما وبذلا وعطاء وتضحية. ويكفينا دليلا على صدق هذه الحقيقة أن كاتب الإنشاء كان ينعت نفسه ب ” الخادم” أو ب ” الكاتم” وليس المقصود من هذه الكلمة السكوت والستر وإنما المقصود حفظ حقوق الآخرين ورعاية مصالحهم في السراء والضراء. ولذلك، ظل الكاتب الذي تحول دوره الآن إلى ما يشبه دور الصحفي، أكثر الأدباء قدرة على مداخلة الناس في حياتهم، في مختلف الأوضاع والأحوال، بل والمساهمة في صناعة هذه الحياة نفسها بما أتيح له من نفوذ مادي وأدبي، ثم الاحتفاظ في النهاية بالصورة الفنية والأدبية لهذه الحياة التي ساهم في صناعتها بعد أن تخمد حركته في الحياة ويودع في لحده. وعندي عدة مؤشرات على قيمة وسخاء كتاب أستاذنا:
1- عندما نقرأ هذا الكتاب نحس أن مؤلفه لم يقتر على قارئه قطميرا، بل فاض بقضايا أخرى عديدة عجيبة وغريبة ربما تكون أهم من قضية المفاضلة نفسها، وقد جرفها سيل كرمه، كما سيتضح فيما بعد. وكان بإمكان أستاذنا أن يدخر هذه القضايا لنفسه عند الحاجة، أو على الأقل أن يقسطها على فترات، ويخرجها على دفعات تحبس أنفاس القارئ، وتقطع رجاءه، وتقص حبال الوصل عنده، شأن العارفين بسوق الكتاب ومتطلباته.
2 - طبيعة مادة الكتاب الثرية: وهي تغطي مرحلة طويلة من تاريخ الأدب العباسي، ثم وصله على أحسن وجه بالأدب الأموي، وأدب صدر الإسلام، وبما قبل ذلك كله من تراث “الجاهلية”. وكل هذا المجهود الضخم ليعبر لقارئه عن صدق وحقيقة ما بدأ به من مقدمات، وما انتهى إليه من نتائج في بحثه، وتخير لأجل ذلك وانتخب أجمل وأصدق الشواهد والنماذج في الإبداع الشعري والنثري، وفي التنظير النقدي والبلاغي تغطي كل هذا التاريخ الطويل. وقد أودعها بين يدي قارئه دفعة واحدة دون ادخار أو تقتير، ثم سبكها بما يناسب من دراسة وتحليل واستنتاج. ولا شك أن مجرد استقصاء كل هذه النماذج والشواهد في مظانها المتناثرة زمانا ومكانا، و حتى قبل نظمها في سلك هذه الدراسة الخاصة بالمفاضلة بين النظم والنثر قد أخذ كثيرا من وقته وجهده وطاقة احتراق أعصابه وتفاعل أفكاره.
3- لما كانت شواهد الكتاب وقضاياه من الكثرة والتنوع كان من الطبيعي أن تتعارض وتتقاطع وتتشابك، وخاصة عندما يتعلق الأمر بدراسة قضية عويصة كقضية ” المفاضلة” تأخذ من طرفين بل بحرين ترامت شواطئهما وتلاطمت أمواجهما بالسباحين والغواصين والمصطافين وهما: النظم والنثر. وهذا التشابك فرض على الباحث في كثير من الأحيان تكرار بعض النماذج والشواهد إما جزئيا أو كليا، في مواضع مختلفة من كتابه وذلك كلما أوغل في الغوص وازدحمت عليه شجون الكلام في النظم والنثر. غير أن القارئ يحس في كل مرة، وعند كل موضع إضافة نوعية لهذه النماذج المكررة، وكأنها هنا على غير ما كانت عليه هناك. وتلك نتيجة طبيعية لتكامل وانتظام خط التفكير في ذهنه ونفسه، واضطلاعه بأمر المفاضلة كله. فما وقعت في، حدود علمي واطلاعي المتواضع، على كتاب تصدى لهذه القضية عن سابق إصرار وترصد وبسبر عميق وتفصيل.
4 - لقد وعى أستاذنا خطورة مسالكه وصعوبة منعرجاته، في دراسته لهذه القضية المستعصية، لذلك فقد أكثر من نصب العلامات والإشارات، على طريق بحثه حتى يواصل القارئ رحلته سالما، ويعود منها غانما. ومن هنا تنبع أهمية هوامش هذا الكتاب التي لا تقل في شئ عن متنه. فلم يترك لقارئه أي فرصة للتيه أو الشرود عن النهج العام الذي رسمه لكتابه، ووفر عليه تعب الرجوع إلى المعاجم والفهارس وكتب التراجم والشروح، فلم تبد على كتابه ملامح العجز والكسل التي تطالعنا في كثير من المؤلفات والمصنفات، من أول صفحة. وهذا مظهر آخر من مظاهر عديدة لعنايته بقارئه، وتفانيه في حسن خدمته. ولو جمعنا إفادات هذه الهوامش بشكل مستقل لكانت أبلغ في الدلالة على عمق تحليله وسعة اطلاعه وسلامة طويته.
|
|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قراءه في كتاب المفاضله بين النظم والنثر 20/4/2009, 00:54 | |
| وعلى العموم، ففوائد هذا الكتاب كثيرة ومتعددة لا يسمح الزمن المخصص لنا بمزيد من الاستقصاء، وفيما أوجزناه بلاغ. ولكن قبل أن أنهي كلامي عن الوقفة الثانية أحب أن أنبه إلى أن دراسة أستاذنا لقضية المفاضلة قد انبجس عنها رافدان آخران لا يقلان أهمية عن دراسة المفاضلة نفسها، وهما وإن سارا في اتجاهات أخرى متعرجة، غير أنهما سرعان ما عادا من جديد ليصبا في بحر قضية ” المفاضلة” المتلاطم. ويتعلق الرافد الأول بما يشبه التحقيق، والثاني بما يشبه الإنصاف. - أما ما يشبه التحقيق فمن خلال كشف الحقيقة عن رسالة أبي إسحاق الصابي حول المنظوم والمنثور التي وصلتنا أشتاتا مفرقة، وما تمخض عنها من إجابات فلسفية عميقة عن أسئلة مقلقة طرحت خلال القرن الهجري الرابع علي شخص أبي إسحاق الصابي، لما كان يحظى به من ثقة وتقدير منقطعي النظير. وتخص هذه الأسئلة مختلف أوجه الاتصال والانفصال بين ماهية النظم والنثر، وما يمكن أن ترسم به حدود هذا الاتصال أو الانفصال، في شأن وظيفتهما وأدوارهما ومدى تأثيرهما في حياة الناس، وما يمكن أن يحظى به أصحابهما من تقدير أو استهجان. وقد تلقف الناس إجابات الصابي لأهميتها في ذلك القرن الذي أينعت فيه حقول الفلسفة، وأزهرت حدائق الأدب واللغة بمثل الفارابي والصابي والمتنبي وابن جني واللائحة طويلة جدا.
ويبدو أن هذه الرسالة قد رسمت منذ ذلك الزمن الحدود القصوى والدنيا لمناقشة هذه القضية المستعصية التي لم يتجاوزها أنصار الصابي ولا حتى خصومه إلا ببعض التفصيل والتوضيح والتعميق، أو التلخيص والتبسيط والتلفيق، كما أثبت الأستاذ في دراسته القيمة هاته، من مثل صنيع التوحيدي. وهو أحد تلامذة الصابي النجباء المخلصين والمتميزين في الكتابة والتأليف، أو ابن الأثير الذي اعترض عليه أستاذنا لاحقا . فقد تتبع أصداء هذه الرسالة المشهورة في أوساط الكتاب والنقاد والأنصار والخصوم، كما وردت عندهم أشلاء ممزقة، وحاول من خلال ما تبقى من القطع المتناثرة هنا وهناك أن يلم شعثها ويرأب صدعها بمنهج التحقيق الصارم الذي لا يرحم عبرة ولا يقيل عثرة، ثم استخلص على ضوء ذلك ما عن له من مقارنات واستنتاجات. - أما ما يشبه الإنصاف فأقصد به إنصاف جماعة أبي حيان التوحيدي من الكتاب وأنصار الفلسفة “الأفلوطينية” خلال القرن الرابع، لارتباطها بالتوجهات الإسلامية، في الاهتمام بجوهر الأشياء بدل الاكتفاء بالقشور والأصباغ شأن الأدعياء والمنتفعين الذين نصبوا موائد الترف والسرف والابتذال، صنيع الصاحب بن عباد وابن العميد. وهنا أكتفي بإحالتكم على الدراسة القيمة لأستاذنا حول مثالب هذين الوزيرين الكاتبين المشهورين، وهي في الأصل أطروحته المرقونة لنيل دبلوم الدراسات العليا تحت عنوان:” أخلاق الوزيرين للتوحيدي بين الواقع والفن “، وكذا عمله الضخم والقيم عن أثر القرآن في نشأة الكتابة الفنية. وهو في الأصل أطروحته المرقونة لنيل الدكتوراه تحت عنوان: ” أثر القرآن في نشأة النثر الفني وتطوره إلى العصر الأموي”.
ملاحظـــــــــــات : وأختم مداخلتي المتواضعة هاته ببعض الملاحظات أعرضها على وجه الإجمال، ويمكن أن نعود إليها لاحقا عند المناقشة لمزيد من التوضيح. وقد صغت هذه الملاحظات على شكل أسئلة .
1- الملاحظة الأولى؛ من الحياد إلى التأصيل: هل كان هناك حياد لأستاذنا في دراسة المفاضلة في تراث العباسيين المنظوم والمنثور، أم جرفه تيارها القوي فوقع هو أيضا أو كاد فيما يشبه ورطة “المفاضلة”.؟
فلم تخل أكثر كتب النقد والبلاغة سواء تلك التي اختصت بالمنظوم، أو تلك التي اختصت بالمنثور، أو سواء تلك التي ضمتهما معا تحت لفق واحد من تناول قضية المفاضلة، حتى صارت أشبه ما تكون بالفريضة المكتوبة، كما قال أستاذنا. إذ لابد من أدائها، ولو على وجه السرعة والعجلة، أو من طريق الجمع والتقصير، أوتحت عناوين مختلفة أشار إليها أستاذنا من قبيل التغليب والتقديم، والتفضيل والترجيح، وكل ما يمكن أن يدخل تحت عنوان المفاضلة من ألفاظ ومصطلحات. غير أن تناول القدماء، وحتى بعض المعاصرين، لقضية المفاضلة بين النظم والنثر لم يخل من الزيغ والشطط، نتيجة للميل المفرط لإحدى الجهتين، إما لاختلال المكيال، أو للتحايل والتطفيف المتعمد في الميزان. والشأن في المفاضلة بين النظم والنثر كشأن جميع المفاضلات التي تقوم على طرفي نقيض من قبيل المشرق والمغرب، والعرب والعجم، والسيف والقلم، واللفظ والمعنى، والطبع والصنعة وهلم جرا.
|
|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قراءه في كتاب المفاضله بين النظم والنثر 20/4/2009, 00:55 | |
| وقد حاول أستاذنا، قدر الإمكان، أن ينزه كتابه عن آفة الغلو والميل، وأن يقيم ميزان العدل، بحيث لا يمكن للقارئ أن يكشف أوراقه، ويحدد وجهة قبلته إلا على سبيل الترجيح والتخمين، لأن أستاذنا لا يتوقف عند إبحاره إلا حيث يطمئن إلى نجاته وسلامة مركبه ومجدافه . لذلك لا نستغرب إذا ما تحولت المفاضلة عنده، وفي نهاية بحثه وغوصه، إلى ضرب من التأصيل، وأعني بالتأصيل ما يلي:
1- تأصيل القضايا النقدية والبلاغية والإبداعية الجوهرية في تاريخ الأدب العباسي خاصة والأدب العربي عامة، وأكثرها قد نجم من طرق المفاضلة. 2- تأصيل اللحظات المتوهجة التي ظهرت فيها هذه القضايا الجوهرية. 3- تأصيل الأمكنة التي شعت منها.
ومن هنا يمكن أن نجد مثلا نوعا من التبرير والتعليل لتأصيل حضور أشخاص معلومين في أكثر صفحات هذا الكتاب حتى انطبعوا في ذاكرته، من قبيل أبي إسحاق الصابي وأبي سليمان المنطقي وأبي حيان التوحيدي، وكل من تأثر بهم من قريب أو بعيد، في الظاهر أو في الباطن، في الجزئي أو في الكلي. وحتى في أزمنة لاحقة، وذلك من قبيل ابن أبي الحديد صاحب شرح “نهج البلاغة” وابن رشد المغربي وحازم القرطاجني مرورا بالثعالبي والمرزوقي وابن رشيق القيرواني. وتبع ذلك تأصيل زمن معين من تاريخ الأدب العباسي اعتبره الباحث واسطة عقده. وهو القرن الرابع الهجري، وتأصيل أمكنة معلومة في العراق تحركت فيها تلك الشخصيات المتميزة، وعلى رأسها أبو إسحاق الصابي . حتى إننا نجد في الكتاب عنوانا عريضا يختصر ما قلناه، وكان بمثابة نقطة النهاية التي رست فيها سفينة بحثه. وصيغة هذا العنوان هي:” مكانة الصابي وسائر أدباء العراق وحضارته عند أدباء مشرق الدولة الإسلامية”. ويمكن لمزيد من التوضيح أن أذكر بعض المؤشرات على هذه النزعة التأصيلية عند أستاذنا على وجه التمثيل و التلخيص:
1- دفاعه عن أصالة قدامة بن جعفر ومحاولته التوفيق بين نزعته اليونانية المشهورة ونزعته العربية والإسلامية الخالصة، بخلاف غيره من الدارسين الذين غلبوا فيه النزعة اليونانية فقط، وهذا ما فعله مع ابن وهب صاحب كتاب “البرهان” أيضا واستمر على هذا النهج التأصيلي حتى انتهى إلى عصر حازم القرطاجني، والأمر ينطبق كذلك على معظم القضايا الجوهرية في النقد التي استطاع بحسه التأصيلي هذا أن يجليها ويخلصها مما علق بها من الزائف والدخيل.
2- انتصاره لأبن ابي الحديد وترجيحه على ضياء الدين بن الأثير بخصوص طبيعة فهم كل واحد منهما لما جاء في رسالة الصابي المشار إليها سابقا. وحجته في ذلك أن فهم ابن أبي الحديد أكثر أصالة وعمقا من فهم ابن الأثير الذي لم يتجاوز حدود الظاهر في الكلام المنظوم أو المنثور.
الملاحظة الثانية ؛ أشكال أخرى للمفاضلة داخل منطقة النظم والنثر: صحيح أن أكثر القضايا النقدية والبلاغية الجوهرية نمت داخل هذه المفاضلة الكبرى بين النظم والنثر. وهي في واقع الأمر مفاضلة بين وجهين لعملة واحدة، لهما نفس القيمة والأثر، وقد يتجاوران أو يتقاطعان كما تتجاور السكك الحديدية والطرق السيارة، ولا شأن لها بما يمكن أن تحمله العربات المقطورة أو المجرورة من نفائس أو نفايات. ولكن انشغال الباحث بهذه المفاضلة الكبرى ربما أنساه أنواعا وأشكالا أخرى من المفاضلات نمت داخل حدود كل من النثر والنظم. ولتوضيح هذه الفكرة أكثر أفضل أن أعرضها في شكل أسئلة للتأمل والاستنباط : 1- كيف يمكن، مثلا، أن نفسر إحجام عبد الواحد المراكشي في كتابه المعروف ” المعجب” عن الاستشهاد بشعر الزجل والموشح، على شهرتهما في عهده ( الموحدي )، والحجة التي قدمها لتبرير موقفه هذا معروفة وهي أن العادة لم تجر إلا برواية القصيد في المصنفات المعتبرة. أليس موقف عبد الواحد المراكشي هذا شكلا من أشكال المفاضلة بين القصيد والزجل والموشح، وهي أنواع تقع بالإجماع في حيز النظم؟ 2- كيف يمكن أن نفسر مطالبة الصفدي ( صلاح الدين خليل بن أيبك، ق8 هـ) صاحب “الوافي بالوفيات” بجعل المقامات قسما مستقلا بذاته خارج نطاق الكتابة النثرية، واعتراضه على من جعلها جزء من الترسل. أليست هذه المطالبة نوعا من المفاضلة بين الخطابة والرسالة الإنشائية والمقامة. وهي أنواع تقع كلها في حيز النثر..؟! والذي يؤيد ما ذهبنا إليه هنا أمران: أ- الموقف المشهور لعجز الحريري عن كتابة رسالة ديوانية أو خطبة إلا إذا ربطها بسياق مقاماته المشهورة، حيث يسهل عليه داخل مقاماته أن يتحول إلى مترسل بارع أو خطيب بليغ أو حتى إلى شاعر أو لغوي أو فيلسوف، وإلى غير هذا وذاك. ب- عجز أبي المطرف بن عميرة الأندلسي ، في المقابل، عن اختلاق مقامة، عندما طلب منه ذلك، واعتذر. وذكر أن عجزه لم يكن من جهة لغة المقامات لأنه يقدر عليها وإنما من جهة أكاذيبها وحيلها، كما قال. وهذا رغم كونه يعد من شيوخ كتاب الترسل في عهده( العهد الموحدي). أليس في مثل هذه المواقف وفي غيرها مما يضيق عنه مجال هذه المداخلة دليلا قاطعا على أشكال متعددة من المفاضلات داخل منطقتي النظم والنثر. وهي في حاجة إلى جمع واستقصاء، وإلى مزيد من الدراسة والتنظير حتى تتضح التفاصيل الكاملة لتراثنا الأدبي القديم، الذي ما تزال كثير من حلقاته مفقودة.؟ الملاحظة الثالثـــة؛ حقيقة النظم والنثر: صحيح أن النظم والنثر يتحددان في أن لكل واحد منهما شكل وموضوع. وهذا ما حاول أستاذنا بحثه في أكثر تفاصيل وجزئيات كتابه. ولكن، مع ذلك يمكن لكل واحد منهما أن يقترب من منطقة الآخر وذلك بمقدار ما يمكن أن يقتبسه ويجتلبه أو ينتحله من خارج منطقته. وقد ألم أستاذنا بمختلف الحيل والوسائط التي يمكن أن تقلص المسافات بين الشعر والنثر، وأن تحول حركة السير من سكة هذا إلى سكة ذاك. وقد عرض لذلك فيما يشبه الثنائيات المتقابلة طرفها الأول يقع عند تخوم النثر وطرفها الثاني عند تخوم الشعر. من قبيل ثنائية : الوضوح والغموض، والصدق والكذب، والجد والهزل، والحقيقة والخيال، وهلم جرا. وهذا مع استثناء واحد يتعلق بالوزن والقافية لأنهما من أخص خصائص الشعر التي استقل بها عن النثر. ولكني أريد، هنا أن أقف عند نقطة جوهرية يمكن أن تشكل العامل الحاسم في تمييز النظم عن النثر، ولا علاقة لها مباشرة بظاهرهما وشكلهما الخارجي الماثل للعيان، وأعني، هنا، مسألة “الحجم” في كل من النظم والنثر. وقد تمت الإشارة إلى ذلك داخل الكتاب بشكل عرضي، في سياق إثارة سؤال مهم نقله عن ابن الأثير وهو: لم طالت أشعار الفرس وقصرت أشعار العرب؟
والجواب عن هذا السؤال في تقديري، يمكن أن يكون حاسما في تحديد شعرية الكلام أو نثريته بغض النظر عن الشكل الخارجي، وحيث يمكن بسهولة متناهية أن يتحول الشعر إلى نثر، والعكس صحيح أيضا. فما هو إذن الحجم الطبيعي للشعر العربي المتعارف عليه؟. أقصد هنا الحجم المعقول الذي يفي بحاجة الشاعر والمتلقي العربي في مجالس الشعر وأنديته وأسواقه، دون إخلال أو إثقال. الجواب هو أن يتكون من أربعين بيتا تلقى في مجلس واحد، وهذا ما يستنتج من تحليل ابن الأثير. وعليه، فبقدر ما يتجاوز الشاعر هذه العدة بقدرما يقترب من النثرية، مهما كان شأنه في البراعة والتفنن والتجويد والتصوير والتخييل |
|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قراءه في كتاب المفاضله بين النظم والنثر 20/4/2009, 00:57 | |
| وهذه بعض المؤشرات على ما أذهب إليه:
1 - كيف يمكن أن نفهم، مثلا، حملة النقاد القدامى على شعر ابن الرومي رغم قدرته العجيبة على الوصف والتصوير؟ الجواب بسيط لأنه كان يطيل أشعاره، ويتجاوز في عدتها الحد المعتاد المشار إليه سابقا، ومن هنا جاء اتهامهم إياه بالنثرية.
2- لماذا يسمى شعر الحداثة المعاصر بقصيدة النثر؟ بغض النظر عن مسألة التحرر من أعباء الوزن والقافية التي روج لها لأغراض أخرى خفية ومعلنة. ألم يكن طول قصائد الحداثة الأولى التي كاد يحولها إلى ما يشبه القصص القصيرة من الأسباب المباشرة التي سوغت للناس قبول تسمية ” قصيدة النثر” وما اندرج تحتها من مسميات أصبحت ثابتة ومقررة؟.
الملاحظة الرابعة؛ الوزن والقافية: وأختم مداخلتي بملاحظة أخيرة تخص جوهر الشعر ولبه، وهي مسألة الوزن والقافية. وهذه ملاحظة مرتبة عن سابقتها. وصحيح أن الوزن والقافية كانا حلية الشعر الأساسية، ولكن رغم بريقهما الخلاب وجرسهما المطرب، فقد يضيقان مجال القول ويحدان من حركته داخله. ولذلك اضطر الشاعر أكثر من غيره إلى تركيز أفكاره وعواطفه وتنخل معانيه وألفاظه. وربما من هنا يمكن أن نفهم لم تحدث النقاد عن ضرائر الشعر، ولم اعتبر الفرزدق قلع ضرس أهون عليه من عمل بيت واحد من الشعر..! وربما لهذا السبب أيضا اعتقد أكثر الدارسين أن تحرر الكاتب من أغلال الشاعر كان فرصة حقيقية لا تعوض للانطلاق اللامحدود. ولكن إذا كان هذا الاستنتاج صحيحا فلم اعتبر شعر العماد الأصفهاني مثلا، ( ت 597هـ ) أخف وألطف وأجمل من نثره. ألأنه أثقل كتابته ورسائله بسلاسل أخرى قد تكون أشد وطأة من سلاسل الشعر الذهبية المتمثلة في الوزن والقافية، وإن جعل لها بريقا خلابا يكاد يذهب بالأبصار، وجرسا عاليا صاخبا يكاد يصم الآذان. ولا شك أن من يقرأ نثر العماد الأصفهاني لا يسعه إلا أن يحمد الله على أغلال الشعر. لأن الوزن، على كل حال، يحرج الشاعر ويضطره إلى وضع كل كلمة في مكانها الصحيح، كما قال الصفدي، بحيث لا يمكنه أن يستعمل من الألفاظ إلا ما يسمح به الوزن، وتقود إليه القافية.
أما الكاتب فقد استطاع أن يجرب كل إمكانيات التفنن، وتمادى في ذلك حتى أتى بما لم يكن بالإمكان أن يخطر على بال شاعر. ربما لأنه ألف السير على سكة الوزن والقافية التي يبدو أنها تحولت ، في النهاية، إلى سكة أمن وسلامة، إذا ما حاولنا أن نقارن جميع ما أنتجته قرائح الشعراء بجزء صغير من نثر العماد ومن لف لفه. وإذن، أليس النثر بسبب ما جربه العماد وما اختبره هو وغيره من إمكانيات لا حصر لها ولا حد للتشكيل الخطي والتنغيم الصوتي، أكثر شعرية من النظم إذا أخذنا بعين الاعتبار الجوانب الشكلية فقط.؟
|
|
عبير عبد القوى الأعلامى نائب المدير الفني
عدد الرسائل : 9451 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 17866 ترشيحات : 33 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: قراءه في كتاب المفاضله بين النظم والنثر 27/10/2009, 03:26 | |
| |
|