هويدا رأفت الجندى مراقب عام
عدد الرسائل : 4821 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 10156 ترشيحات : 11 الأوســــــــــمة :
| موضوع: حازم القرطاجني وانصهار النظم والتخييل 14/9/2009, 14:06 | |
|
اللفظ والمعنى عند حازم القرطاجني
يشبه موقف حازم القرطاجنّي موقف عبد القاهر الجرجاني في ما ينبغي أن يتخذه ذو الذهن الكبير من ثقافات عصره من مواقف، وفي حسم ما يكون قد وصله من قناعات وآراء تأخذ صبغة المبادئ في الحقول المعرفية التي يتعاطاها. غير أن الشبه بينهما لا يعدو هذا المنطلق، بل يمكن الإقرار بأن حصيلة موقفيهما أقرب ما تكون إلى التباين، علماً بأن هذا التباين لم يمنع حازماً من الإفادة من عبد القاهر.
وأصول هذا التباين أو الاختلاف تمتد إلى خصام النحو والمنطق باعتبارهما علامتين مميزتين لمنحيين في التفكير يرفد كلاً منهما مصدر مغاير للآخر، فالأول يتمثل في الثقافة العربية الإسلامية في حدود أصالتها من منظور علماء الإسلام وعلماء اللغة خصوصاً، وما يتفرع من ذلك من شعب تتأسس على مسلمات قائمة على أساس من الشرع أو الفكر اللغوي العربي الأصيل الذي لم يكن إلا حاشية على علوم القرآن، أما الثاني فيتجسد في الفكر الفلسفي ذي الأصول اليونانية خاصة، هذا التفكير الذي اعتبر ـ عند أقطابه ـ أسّ الأسس في كل معرفة تبتغي بلوغ اليقين.
من هنا اعتمدوه منطلقاً فيصلاً في ضبط مناهج البحث في المعارف وتأسيس دروب التفكير العقلي الصحيح. وتم له أن يطول خصوصيات في الثقافة العربية الإسلامية كالشعر والخطابة، خاصة في أعمال شراح أرسطو من الفلاسفة الإسلاميين. فكان له أن ينظّر لهذه الحقول التي تمثل في ذهن العربي أصلاً من أصول ثقافته، باحثاً في حقيقتها مؤسساً على هذا التصور غاية لها تندرج ضمن حدود التفكير الفلسفي عامة، مفرعاً القول في تحديد خصائص الأداة الفنية، ومن هنا تحدد للفلاسفة تصور للخطابة والشعر ضمن جملة المنطق.
وقد بدا لنا ضمن هذا الجدال في مستوى التصور النقدي والبلاغي تشكل منظورين في سياق الثقافة الواحدة، يهتمان ببلاغة النص الأدبي ضمن إطار من التصور الشامل لماهية الأدب عموماً وغايته: هما مفهوم التخييل ومفهوم النظم، وقد بدا لنا أن اعتماد عبد القاهر النحو لوضع ضوابط رأيه في بنية النص مؤسس على موقف عقائدي يبتغي، بالإضافة إلى التدليل على الإعجاز، إيجاد البديل لنظرية التخييل القائمة على أسس من المنطق. والواقع أن هذا الاختلاف يمتد إلى المناحي المعرفية المختلفة التي شهدتها الحضارة العربية الإسلامية عموماً وإن تشكل بطابع العلم المدروس. وتواصل هذا الصدام منوِّعاً مرافعاته إلى آخر عقول هذه الحضارة الكبيرة، من مثل ابن رشد والقرطاجني وابن خلدون...
وليس مصادفةً أن يتحاور العقل و النقل في فلسفة ابن رشد لينتهي إلى ضبط حدود فعالية كل طرف، ثم إحداث التصالح بحسب المنظور الرشدي وليس التخاصم بين الشريعة والفلسفة، لتنتهي المسألة بابن خلدون الذي شكّلت مناحي المعرفة السابقة بكل تفرعاتها اللغوية والدينية والكلامية والفلسفية، ضمن إطار من التاريخ الشامل منطلقاته في استنباط النواميس الضابطة لسير الحضارة عموماً، بحسب تصوره، والإسلامية خصوصاً. وقد تم ذلك أيضاً من خلال تفاعل ذهن كبير مع إشكال الفلسفة والنحو، أو ثقافة الأسلاف الأصيلة "وثقافة الأسلاف الطارئة"، ليؤسس هو نفسه تأليفاً يلحم هذه الفعاليات ضمن تكامل دقيق يتأسس من وجهة نظرنا على التخييل ويستفيد من النظم أيضاً في إطار من تخصصه في النقد والبلاغة.
كان بين يدي حازم القرطاجني، تراث في البلاغة والنقد يستقطبه منظوران يتمثلان في فكرة التخييل ومفهوم النظم، ولاشك أن عوامل شتى جعلت حازماً أميل إلى رأي الفلاسفة، باعتداده حفيداً مخلصاً في حقل النقد والتنظير لنظرية التخييل، وقد يعود ذلك إلى ثقافته الفلسفية، ذلك أنه تلميذ لتلميذ ابن رشد، أبي علي الشلوبين، وقد يكون وراء امتهان التفلسف، دوافع أملتها وقائع حضارة توشك أن تأفل، فكان من مستلزمات تعليل قوانين هذا الأفول في المسرح الحضاري العام أو في أي حقل من حقول المعرفة، الاستعانة بالفلسفة إذ بوساطتها يمكن تأسيس القول على منطلقات عقلية أو مسلمات منهجية، ومن هنا يبدو التكامل بين روافد الثقافة العربية الإسلامية عموماً في نتاج ابن رشد، وحازم القرطاجني، وابن خلدون.
ومن هنا نعتقد أن موقف القرطاجني في تبني نظرية التخييل لتأسيس تصور للشعر، لم يكن ليمنعه من استغلال نظرية النظم، إذ نجد حضوراً فاعلاً لبعض عناصر هذه النظرية في مفاصل دقيقة من نظرية حازم، كما نجد أيضاً تأويلاً لكثير من مسلمات هذه النظرية وتفسيراً جديداً لمعطيات مختلفة من نتاجها.
طعن عبد القاهر في الأساس العقلي للتخييل، وهو يؤسس مفهومه للنظم لاعتبارات مختلفة عرضنا لها في الفصل السابق، وافتعل القرطاجني موقفاً غير طيب من المتكلمين لينصر نظرية التخييل. ولم يكن مصادفةً أن عرض حازم إلى المتكلمين وهو يضبط ماهية الشعر، في حدود مفهوم التخييل في المنهج الثالث من القسم الثاني من الكتاب. هذا المنهج المخصص لبحث هذا الموضوع، خاصة أن البحث في المسألة قام على الدفاع عن الصدق في الشعر، وإزاحة ما علق به من تصورات توهن من قدره وتعتبره كذباً، ولم يكن رأي عبد القاهر في التخييل إلا كونه قياساً خادعاً.
وأسّس حازم دفاعه عن الشعر معتمداً على استشهادات من الفارابي وابن سينا خصوصاً، منطلقاً أساساً من أن الخاصية المميزة للشعر هي كونه تخييلاً، وأن لا معتبر إذ ذاك بالمعنى في ذاته، إذ العبرة بالبنية والخواص الشكلية التي يتلبّس بها المعنى، من هنا ندرك مقدار قسوته على المتكلمين، إذ يقول:"وإنما غلط في هذا ـ فظن أن الأقاويل الشعرية لا تكون إلا كاذبة ـ قوم من المتكلمين لم يكن لـهم علم بالشعر، لا من جهة مزاولته ولا من جهة الطرائق الموصلة إلى معرفته، ولا معرج على ما يقوله في الشيء من لا يعرفه، ولا التفات إلى رأيه فيه. فإنما يطلب الشيء من أهله، وإنما يقبل رأي المرء فيما يعرفه.
وقد يكون وراء هذا الموقف وقائع شهدها حازم من معاصريه ولم يكن موقف كثير من علماء الأندلس ومفكريها من الشعر في صالحه، وقد يكون من ملابسات هذا الرأي المستوى المتدّني الذي بلغه الشعر في نظر الجمهور عموماً، وعند كثير من متعاطي الشعر عن غير دراية بموالجه خصوصاً. يظهر ذلك في شكوى حازم المتكررة من معاصريه، ونعيه هوان الشعر على أيديهم، إذ يرى أن التفاعل مع الخطاب الشعري، إنما يقوم على استعداد مزدوج يظهر نوعه الأول في أن "تكون للنفس حال وهوى قد تهيأت بهما لأن يحركها قول ما بحسب شدة موافقته لتلك الحال والهوى.. والاستعداد الثاني هو أن تكون النفوس معتقدة في الشعر أنه حكم وأنه غريم يتقاضى النفوس الكريمة الإجابة إلى مقتضاه بما أسلبها من هزّة الارتياح لحسن المحاكاة"، فإذا كان الاستعداد الأول موجوداً عند كثير من الناس في كثير من الأحوال، فإن الاستعداد الثاني "الذي يكون بأن يعتقد فضل قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله فإنه معدوم بالجملة في هذا الزمان، بل كثير من أنذال العالم، و ما أكثرهم، يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة".
غير أننا نعتقد أن خلف هذا الموقف أيضاً رأياً حاسماً من المتكلمين عموماًِ، ومن عبد القاهر الجرجاني خصوصاً، وبالتحديد ما خص به عبد القاهر بحث التخييل في أسرار البلاغة من صحائف طوال تقوم على مسلمة خلاصتها أن التخييل قياس خادع، وإن اعترف لـه بالخلابة والرونق.فإذا كان: "يبدو أن حازماً عرف الجرجاني"، فإن هذه المعرفة تولد منها تدعيم نظرية التخييل واعتمادها في ضبط تصور للشعر، يظهر ذلك في أمور ومواقف عديدة: أولها أنه عرض للمتكلمين وهو يبحث في القسم المخصص للتخييل، ونحن نعلم أنه في هذا القسم أيضاً من أسرار البلاغة، درس عبد القاهر التخييل وبيّن رأيه فيه.
ويظهر ثانيها في مواصلة حازم تعليل جهل المتكلمين بالشعر من حيث أن بحثهم فيه خارج عن اختصاصهم، ذلك أن "الذي يورّطهم في هذا أنهم يحتاجون إلى الكلام في إعجاز القرآن، فيحتاجون إلى معرفة ماهية الفصاحة والبلاغة من غير أن يتقدَّم لهم علم بذلك، فيفزعون إلى مطالعة ما تيسر لهم من كتب هذه الصناعة فإذا فرَّق أحدهم بين التجنيس والترديد، وميّز الاستعارة من الإرداف، ظن أنه قد حصل على شيء من هذا العلم، فأخذ يتكلم في الفصاحة بما هو محض الجهل بها".
وتجريد حازم المتكلمين من كل جهود في البحث البلاغي مدعاة إلى وصف موقفه بالعاطفي المتحيز، ذلك أن المتكلمين، عموماً، من مؤسسي البحث البلاغي عند العرب، ويكفي أن ندرك ما لمجهودات المعتزلة في حقل المجاز من تأصيل، وما للأشاعرة من الإنجازات في تأسيس بلاغة القول على مسلمة الكلام النفسي، مما يستدعي تنزيل جهودهم البلاغية في تيار مستقل خاص، لنتأكد من باعهم في هذا الحقل المعرفي.
فإذا كان في مثل هذا الموقف من حازم ما يدعو إلى وسمه بالتحيّز، فإن في تعداده ـ ساخراً ـ تفريق أحدهم بين التجنيس والترديد، وتمييزه الاستعارة من الإرداف، ما قد يدل على اعتماد "أسرار البلاغة"، في تحديد هذه المباحث التي ذكرها حسب الترتيب السابق، ذلك أن عبد القاهر بدأ البحث في "أسرار البلاغة" بالتجنيس والسجع ليخلص إلى الاستعارة ومنها إلى التشبيه بفروعه، فالتخييل، ولا نظن أن الترتيب الذي اعتمده حازم، وهو ينطبق على فهرست عبد القاهر، كان مصادفة، بالإضافة إلى ما سبق تتردد اصطلاحات مصدرها أعمال عبد القاهر لدى حازم، من مثل: النظم، وصور المعاني وهيئتها، والمعاني الأوائل والمعاني الثواني، بل سيعتمد حازم في آخر المطاف، على النحو في ضبط بنية العبارة، علماً بأن توظيفه هذه المصطلحات لم يكن لمجرد الترديد أو النسخ بل فرَّع منها الجديد، وضخم بعضها لتمتد إلى أفق أشمل مما كانت لدى عبد القاهر، من هنا يمكننا الإقرار بأن إفادة حازم من عبد القاهر أكيدة، كما نقدمها فرضية في مدخل هذا الفصل، غير أنه أخفى مصدره في اعتماد بعض أصول نظرية النظم، وأبدى موقفاً ناقداً للمتكلمين ليعيد إلى التخييل اعتباره، وليخفي ـ كما يبدو لنا ـ اعتماده على مبادئ مستقاة من إنجاز عبد القاهر، وإخفاء حازم مصادره ليس جديداً فقد استفاد من ابن رشد، في مواضع كثيرة، من نظريته، بل وصل به الأمر أحياناً إلى حد نسخ بعض آرائه، وهو أستاذ أستاذه، ولم يشر إليه ولو مرة واحدة في المنهاج، علماً بأنه ردَّد ذكر الفارابي وابن سينا واقتطع نصوصاً من شروحهما فن الشعر الأرسطي في أكثر من موضع من الكتاب.
اللفظ والمعنى عند حازم القرطاجني
يهمنا في بحثنا نظرية حازم في الشعر وآراءه في البلاغة، ما يخدم هذا البحث ويتفاعل مع منهجه، من هنا تكون قضايا البحث في الشعر: حقيقته ووظيفته وأسس كل ذلك الممتدة إلى أصول فلسفية عامة، ونفسية خاصة، وكذا اجتماعية تؤطر للقيمة، خارجاً عن حقل هذا البحث، وإن كنا سنستغل من هذه المفاهيم ما يخدم غرضنا. ذلك أن جسر التحرك عندنا هو انتظام بنية النص في مستوياته المتعددة، في وحدة متفاعلة أو متراكمة والقواعد المؤسسة لهذا التصور، حيث تتفرع هذه المستويات من محوري التأسيس لكل قول وهما اللفظ والمعنى، من هنا يكون الإلمام بتصور حازم للفظ والمعنى في مستوى مبدئي ضرورة يفرضها البحث.
والواقع أن حازماً أسس كتابه انطلاقاً من فكرته في اللفظ والمعنى، ذلك أن أقسام الكتاب الأربعة ليست إلا ترداداً متكرراً للفظ والمعنى في مستوى بسيط أو مستوى مركب. فالقسم الأول الضائع من الكتاب يبحث في الألفاظ، ويختص الثاني بالمعاني ليتضخم بحث الألفاظ في قسم ثالث أسماه النظم، ولتستحيل المعاني إلى قسم رابع مركّب أيضاً هو الأسلوب. وتقسيم الكتاب بهذا الشكل بقدر ما يكشف عن أثر قدامة بن جعفر في ضبط شكله ظاهراً، وقدامة حاضر في كثير من مباحث الكتاب، بقدر ما يدل على المنطلق المؤسس لثنائية اللفظ والمعنى عند حازم، وتسليمه المبدئي بكون القصيدة تركيباً متناسباً من مستويات متنوعة، ترتد إلى معان وأساليب مصوغة في ألفاظ تتلاحم في نظام جامع لشتات مركب من أغراض.
والأساس الفلسفي الذي يؤسّس منهج الكتاب وتفريعات موضوعه ويحصر تصور حازم المعنى واللفظ، يمتد إلى رأيه في الدلالة عموماً وفي طابعها العائد إلى فلاسفة الإسلام حيث تترتب مستويات الدلالة في تدرج نوعي يبدأ من الوجود الشخصي العيني، فالذهني، لتتقمص أثره المدلولات جسم الألفاظ، هذه المدلولات التي يمكنها ـ في رأيه ـ أن تستقر في رسم حروف تدل على ألفاظ، ذلك "أن المعاني هي الصور الحاصلة في الأذهان عن الأشياء الموجودة في الأعيان. فكل شيء له وجود خارج الذهن فإنه إذا أدرك حصلت له صورة في الذهن تطابق لما أدرك منه، فإذا عبر عن تلك الصورة الذهنية الحاصلة عن الإدراك أقام اللفظ المعبر به هيئة تلك الصورة الذهنية في أفهام السامعين وأذهانهم. فصار للمعنى وجود آخر من جهة دلالة الألفاظ، فإذا احتيج إلى وضع رسوم من الخط تدل على الألفاظ من لم يتهيأ له سمعها من المتلفظ بها صارت رسوم الخط تقيم في الأفهام هيئات الألفاظ فتقوم بها، في الأذهان صور المعاني، فيكون لها أيضاً وجود من جهة دلالة الخط على الألفاظ الدالة عليها".
فعندما يتوفر للذهن إدراك الشيء، تكون محصلة الإدراك صورة ذهنية لما أدرك من هذا الشيء، تنطبع في الذات المدركة حسب ملابسات الإدراك وحالاته، وإذا كان حازم لا يشير هنا إلى ما يلحق الشيء المدرك من تأثر ذاتي، فإن هذا لا يعني أن ما أدرك يحتفظ بخصوصيته في وجوده العيني، من هنا لا يكون الإدراك إلا بتفاعل ذات وموضوع. ولاشك أن صورة الشيء الذهنية التي يكون للفظ القدرة على رسمها عند التعبير ستتشكل طبيعتها بحسب صورة اللفظ، الذي يمكّنها من أن تغادر حدود الذات إلى فسحة الخطاب، وليس من المستبعد أن رسم الخط للهيئة اللفظية الحاملة للمعنى، يشكل في حد ذاته دلالة مرنة ستتعاطى كل ذات قراءتها وفق ما يحيط بالقراءة وتكوين الذات القارئة من عوامل. وعلى كل، فهذه المراتب تضبط مستويات البحث في البلاغة لدى حازم، فوجود المعنى في الشيء خارج الذات الذي يمكن أن يشمل كل ما يدرك من الوقائع والحقائق والأشياء التي تشكل حدود القول الشعري، يحدد أصل المعاني في وجودها "الواقعي" مما يمكّن عند ممارسة النقد من مقابلة الشيء في تجسّده الحقيقي، وفي تحولاته الشعرية مثلما يظهر في مبحث الممكن والواجب والممتنع وكذا رسم المعنى في حدوده الحقيقية وغيرها...
هذا المستوى يمثل المرجع للمعنى المستخلص ذهنياً ليستحيل أخيراً إلى تضام للمدلول الذهني مع صورته اللفظية الدالة، ذلك أن النظر في صناعة البلاغة يتحدد "من جهة مايكون عليه اللفظ الدال على الصور الذهنية في نفسه ومن جهة ما يكون عليه بالنسبة إلى موقعه من النفوس من جهة هيئته ودلالته، ومن جهة ما تكون عليه تلك الصور الذهنية في أنفسها، ومن جهة مواقعها من النفوس من حيث هيئاتها ودلالاتها على ما خارج الذهن، ومن جهة ما تكون عليه في أنفسها الأشياء التي تلك المعاني الذهنية صور لها وأمثلة دالة عليها، ومن جهة مواقع تلك الأشياء من النفوس".
فهذا الفصل الحاسم بين حقول البحث البلاغي لدى حازم يؤكد الأساس "الواقعي" للشعر المتجسد في أصله الحيوي، وفعاليته المتمثلة فيكونه خطاباً يحمل إلى متلقٍّ، حيث يشكل هذا الأخير حضوراً رئيسياً في تصور حازم فعالية الشعر، إذ تقوم على المنظور الوظيفي المتأتي من كون الشعر تخييلاً وإيهاماً بخطاب تتجسد خصوصيته في كونه تأثيراً في النفس. ومن هنا تشكل بنيته في مستوى أول استجابة للوظيفة المسندة إليه أساساً. هذا الفصل إذ فرضه التناول المنهجي لموضوعات البحث البلاغي والنقدي، حيث تتبدى في انسجام التوزيع الظاهري للموضوعات لفظاً ومعنى ونظماً وأسلوباً، والمفهوم الخفي للدلالة في وجود المعنى في اللفظ، وفي الصورة الذهنية القائمة على الوجود العيني، يكشف عن فهم لعلاقة اللفظ والمعنى ذي مستويات متشابكة، لا يمتنع فيها مبدئياً التمييز بينهما وإن تحددت أوجه الاتصال والتلاحم بينهما في علاقات دقيقة، ذلك أن بحث اللفظ في ذاته ومن جهة هيئته وموقعه من النفوس يقوم أيضاً على بحث دلالته على المعنى، هذا المعنى الذي يتناول ضمن ما يتناول في مستوى صوره المتفرعة من أوجه التناسب بين أنماطه.
يقدم حازم في مستوى التمييز بين المعنى واللفظ فهماً بسيطاً لا يعدو أن يكون اجتراراً لمفاهيم شائعة يبدو فيها اللفظ كالوعاء المحتوي للشيء، فيصف رغبة الشعراء في رسم صورة لأحبابهم المقيمين في بيوت الشّعر، حيث يقصدون في الأقاويل التي يودعونها المعاني المخيّلة لأحبابهم، المقيمة في الأذهان صوراً هي أمثلة لهم ولأحوالهم، أن تكون مرتبة ترتيباً يتنزل من جهة موقعه من السمع منزلة ترتيب أحويتهم وبيوتهم، فيكون اشتمال الأقاويل على تلك المعاني مشتبهاً لاشتمال الأبيات المضروبة على من قصد تمثيله بها وأن تجعل تذكرة له، ويكون مابين المعنى والقول من الملابسة مثل ماكان بين الساكن والمسكن.
ويتأكد مفهوم الوعاء الذي يحتوي المعنى كالساكن والمسكن في موقفه من السرقات الذي ينحو فيه منحىً تقليدياً أيضاً، حيث يظل المعنى في هذا الفهم ساكناً خاضعاً لتعدد الإخراج الذي لا يكاد يغير جوهره، ناهيك أنه يمكن أن تتفاوت عبارتان في الفصاحة وهما تعبّران عن معنى واحد، لم يستطع حازم في هذه المسألة أن يستفيد من عبد القاهر الذي أداه فهمه لصورة المعنى إلى رفض السرقات مبدئياً، باستثناء الاعتراف بهامش ضيق يظهر في الاحتذاء الذي يكون في الأسلوب الذي هو الطريقة في النظم، ذلك أن كل معنى يصاغ في صورة ما يملك الخصوصية والتفرد ويشكل تفريعاً من أصل الغرض.
يقسم حازم المعاني إلى مشترك شائع ونادر ومنعدم النظير وأوسط بينهما تبعاً لارتسام درجة كل نوع من الفكر، إذ إن من المعاني ما يوجد مرتسماً في كل فكر، ومنه ما يرتسم في بعض الخواطر دون بعض، ومنه ما لا ارتسام له في خاطر، وإنما يتهدَّى إليه بعض الأذهان في النادر من الأحيان، وينتفي ادّعاء السرقة من النوع الأول إذ لا فضل فيه لأحد على أحد،" إلا بحسن تأليف اللفظ فإذا تساوى تأليفا الشاعرين في ذلك فإنه يسمى الاشتراك، وإن فضلت فيه عبارة المتأخر عبارة المتقدم فذلك الاستحقاق لأنه استحق نسبة المعنى إليه بإجادة نظم العبارة عنه". هذا النوع الأول من المعاني المرتسمة في كل خاطر تبدو كالمكتملة وإدراكها يتم في حدود هذا الاكتمال، فهي ثابتة وارتسامها سواء في الخواطر، ومن هنا تكون مزية تعاطي هذه المعاني في تحسين تأليف اللفظ فقط، وهذا التحسين المضاف إلى معنى منته إقرار بالتفاوت بين المعنى واللفظ، حيث يتأكد هذا الإقرار في رأيه في: "القسم الثاني، وهي المعاني التي قلّت في أنفسها أو بالإضافة إلى كثرة غيرها فماكان بهذه الصفة فلا تسامح في التعرض إلى شيء منه إلا بشروط: منها أن يركب الشاعر على المعنى معنى آخر، ومنها أن يزيد عليه زيادة حسنة، ومنها أن ينقله إلى موضع أحق به من الموضع الذي هو فيه، ومن ذلك أن يقلبه ويسلك به ضد ما سلك الأول، ومن ذلك أن يركب عليه عبارة أحسن من الأولى"
لم يستطع حازم أن يوظف مفاهيمه في المحاكاة والتخييل باعتبارهما تناولاً خاصاً للمعنى يتحقق في تشكيل نوعي لمادة تستوفي خصائصها في الصورة المشكلة لها. ولو اعتمد هذا الأصل الذي يقوم عليه فهمه للشعر لاستطاع أن يضبط فهماً لتداول المعاني أنضج مما فعل، ولما تمادى في تمييزه بين المعنى واللفظ في تصوره للقسم الثالث النادر، إذ يرى أن "من أبرز المعنى النادر في عبارة أشرف من الأولى فقد قاسم الأول الفضل، إذ الفضل هو اختراع المعنى للمتقدم، والفضل في تحسين العبارة للمتأخر. والقول الثاني الذي حسنت فيه العبارة بلا شك أفضل من الأول، لأن المعنى لا يؤثر فيه التقدم ولا التأخر شيئاً، وإنما ترجع فضيلة التقدم إلى القائل لا المقول فيه، فإن زاد المتأخر على المتقدم زيادة في المعنى مع تحسين اللفظ فقد استحق المعنى عليه"، وهكذا يمكن للتمييز أن يتوزع بين سبق معنوي وتحسين لفظي منفصلين أو مجتمعين.
فتوزيع حازم مادة الكتاب وما يتصوره مبحثاً في الدلالة ورأيه في السرقات الشعرية ليست إلا أدلة لفكر يميّز المعنى عن اللفظ، ولاشك أن روافد حازم القرطاجني المتنوعة التي شملت محصلة نتائج النقاد والفلاسفة والمتكلمين قبله في حقل البلاغة والنقد، أدّت دوراً حاسماً في اعتماد هذا الموقف، إلا أن هذا لا يطول كل إنجاز حازم. وبالتالي يظل له رأي في العلائق التي يمكن أن تجمع العنصرين، فهناك اقتراب يكاد يلحمها في بنية تتضام فيها العناصر مجتمعة عندما يكون الموضوع رصداً لفعالية التناول اللفظي للمعنى، أو تفريع القول في أشكال التناسب التي تنسج للمعاني امتدادات متفرعة كثيرة، خاصة عند الاقتراب من حدود النظم في معناه النحوي عند تعليل وحدة العبارة، دون أن نغفل إلحاح حازم على أشكال التناسب بين مستويات القصيدة معاني وألفاظاً وأساليب ونظماً وأوزاناً.
|
|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32783 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: حازم القرطاجني وانصهار النظم والتخييل 14/9/2009, 23:24 | |
| |
|
هويدا رأفت الجندى مراقب عام
عدد الرسائل : 4821 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 10156 ترشيحات : 11 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: حازم القرطاجني وانصهار النظم والتخييل 15/9/2009, 03:53 | |
| - الوتر الحزين كتب:
أختي الفاضله
بارك الله فيك لجهدك المثمر الطيب
وكل عام وانت بكل الخير والسعاده
[img:ea36]http://www.althkra.net/pic/ep/32[2.gif[/img:ea36] أستاذى الكريم شرفنى تواجدك وحضورك الطيب بارك الله فيك بانتظار مرورك دوما |
|
بشرى رمزى عضو مشارك
عدد الرسائل : 78 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 6106 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حازم القرطاجني وانصهار النظم والتخييل 1/10/2009, 17:28 | |
| الأبنة هويدا مجهود طيب وعلم متدفق |
|
عبير عبد القوى الأعلامى نائب المدير الفني
عدد الرسائل : 9451 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 17866 ترشيحات : 33 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: حازم القرطاجني وانصهار النظم والتخييل 27/10/2009, 03:58 | |
| |
|