يواجه الإنسان الحياة بما فطر عليه من قواه الجسمية والنفسية بكل ما تتضمنه من قدرات عقلية وعاطفية وخيالية وغريزية، وما هو شعوري وغير شعوري، وقدرة سلوكية تمكنه من اتخاذ مواقف، وهو مدفوع في هذه المواجهة ليحافظ على وجوده الفردي، وفي نطاقه الاجتماعي، بما يكفل له سلامته ويضمن عيشه ويحقق ذاته، ويبلغه نيل تطلعاته.
تولد عن كل ذلك ما ابتدعه من فنون وآداب ونظم، وما توصل إليه من نظريات علمية عرف بها الكثير من أسرار الطبيعة وسخرها لصالحه باكتشافاته واختراعاته.
لقد هداه ما جبل عليه من قوى نفسية، إلى ابتداع مسالك وأساليب للتعبير عن مواقفه وتفاعله وصراعه الدائم مع الواقع بكل أبعاده، فكان من ضمن تلك المسالك والأساليب، الأجناس الأدبية المختلفة التي ما فتئت تتغير وتتوالد مواكبة مسيرة الإنسان عبر العصور والبيئات.
تعددت دراسات الباحثين واجتهاداتهم في تناول الأجناس الأدبية وتنوعت آراؤهم، وتنامت جهودهم لتفضي إلى ما صار يعرف "بنظرية الأجناس الأدبية" في الفكر الأدبي، بدءا من تصورات سقراط وأفلاطون التي أثراها أرسطو، وما سجله النقاد العرب، ثم تناول القضية الكلاسيون والرومانسيون، ومن أتى بعدهم، حيث اختلفت التوجهات، فهناك من تأثر بالعلوم البحتة أو الإنسانية، وما عرف من نزعات إيديولوجية وبنيوية ولسانية[1].
يمكن أن نستخلص من أهم تلك الدراسات والاجتهادات نتائج نراها أكثر فائدة وانسجاما مع ما نحن بصدده، من تلك النتائج أن نظرية الأجناس الأدبية تنحصر في بحث قضيتين أساسيتين هما:
1 – الأسباب الداعية إلى وجود الأجناس الأدبية.
2 – أسس تقسيم الأدب إلى أجناس مع ما يستتبع ذلك من دراسة خصائص كل جنس ومكوناته وما يكتنفه من تطور أو تغير، وبيان أهدافه.
ـ فيما يتعلق بالقضية الأولى: هناك تساؤلات تعددت الإجابات عنها وهي:
هل الأدب –أصلا- وليد الواقع الذي يعكسه الإنسان ويعبر عنه؟ أم أن الأدب دلالة على موقف الإنسان وانعكاس لذاته تجاه الواقع؟
أم أن هناك ارتباطا جدليا بين كيان الإنسان الداخلي، وبين واقعه الخارجي؟ –وهذا أقرب إلى الصحة- ثم إن الأمر لا يقف عند حدود الذاتية الفردية، بل يتجاوزها إلى ما لها علاقة به من أفراد وجماعات، وطبيعة، وما وراء الطبيعة، لتوضيح ذلك بكيفية تفصيلية نرى أن الإنسان مرتبط أوثق ما يكون الارتباط بأربعة أبعاد في حياته:
1 – ذاته الفردية وكيانه الخاص.
2 – جماعته الخاصة والعامة التي تتسع حتى تشمل الإنسانية عامة، بعد عشيرته ومجتمعه الوطني والقومي.
3 – الطبيعة بكل ما تضمه من أحياء ومظاهر وخفايا وعناصر، لأن الطبيعة مكون جوهري لحياة الإنسان.
4 – ما وراء الطبيعة، إذ يتجاوز الإنسان المحسوس إلى ما فوق مدركاته المباشرة، وهو مدفوع أن ينظر إلى عوالم أخرى بحكم عواطفه وخياله وعقله، وما أتت به الأديان من عقائد وعبادات وتشريعات وتوجيهات سلوكية، خاصة الإسلام الذي هو آخر دين سماوي.
إذا نظرنا بإمعان إلى هذه الأبعاد الأربعة التي تحكم حياة الإنسان، ولو بدت منفصلة، فإننا نجد بينها في العمق، ترابطا وتداخلا، وهناك بعد خامس، قسيم للأبعاد الأربعة، يتجلى فيما فطر عليه الإنسان من تطلع مثالي يحدو به إلى توخي الأفضل ونشدان الأرقى في كل ما ينجزه.
إذا حاولنا أن نطبق ما سبق على أسباب وجود الأجناس الأدبية، وما قد يعتريها من تغير وتطور، وظهور بعض الأجناس واختفاء أخرى سنجد ما يأتي: