سياسة الرسول (صلى الله عليه وسلم) التعليمية وأثرها في تطور العلومتفيد كلمة (سياسة) الواردة بالعنوان الخطة الشاملة التي اتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم ليخرج الأمة الإسلامية من الجهل إلى العلم عملاً بما ورد في القرآن الكريم من توجيهات.
ولهذه الخطة مضمون وخصائص ، ويتطلب إنجازها مناهج ومؤسسات.
أما نجاحها فيتمثل في التحول العلمي الذي طرأ على العرب أولاً ، والإنسانية ثانياً.
ودراسة هذه الخطة بالرجوع إلى الحديث النبوي يضيف إلى تاريخ التربية والتعليم حلقة مهمة لم تلق العناية المطلوبة من المختصين ، لذلك يسعى هذا البحث إلى أن يتناول القضايا الآتية :
· مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية
· خصائص هذه السياسة والأصول التي قامت عليها
· مناهج التعليم ومؤسساته في هذه السياسة
· أثر هذه السياسة في تطور العلوم من حيث المضمون والمنهج
وحتى يظهر هذا الأثر واضحاً جلياً يستحسن أن يتناول مدخل هذه الدراسة قضية المستوى العلمي لعرب الجاهلية وخاصة ما يتصل بأميتهم.
أمية عرب الجاهلية :
وصف القرآن الكريم والأحاديث النبوية الأمة التي بعث فيها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنها أمية أي لا تعرف الكتابة والقراءة ولكن بعض الدارسين سعوا إلى التشكيك في هذه الأمية وبنو أدلتهم على الآثار مرة وعلى تأويل بعض النصوص مرة ثانية وعلى الافتراض ثالثة.
فبعد أن تقصى ناصر الدين الأسد ، ما وجد في شبه الجزيرة العربية من نقوش تأكد لديه أن ثمانية منها اشتهر أمرها في المنطقة الشمالية التي تمتد من العلا ومدائن صالح إلى شمال حوران ، وأما وسط بلاد العرب وصميمها الحجاز ونجد فلم يعثر حتى الآن على شيء من النقوش الجاهلية فيها (1).
واستنتج ناصر الدين الأسد من ذلك : أن العرب لم يكونوا أميين بمعنى الجهل بالكتابة ذلك أنهم كانوا يكتبون في جاهليتهم ثلاثة قرون على أقل تقدير بهذا الخط الذي عرفه بعد ذلك المسلمون ، وقد أصبحت معرفة الجاهلية بالكتابة معرفة قديمة أمراً يقيناً (2)
سعى جولد تسيهر إلى التأكيد على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا متعلمين ، إذ كانوا يحملون صحفهم ليدونوا فيها المعلومات التي يتلقونها من الرسول صلى الله عليه وسلم فانتقال الصحابة رضي الله عنهم من الأمية إلى العلم لا يمكن في نظر المستشرق أن يتم في ظرف وجيز كالذي قضوه إلى جانب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأراد جولد تسيهر أن يؤكد هذه المعرفة فقال : إن ما دونه الصحابة في صحفهم سموه متناً. وهذه الكلمة جاهلية النشأة وتفيد الكتابة فهذه الأخيرة كانت معروفة في الجاهلية.
واستدل جولد تسيهر وغيره من أن لفظة أمي وما اشتق منها والواردة في القرآن الكريم لا تفيد الجهل بالقراءة والكتابة ، بما رواه الطبري في تفسيره لقوله تعالى : (ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون) (3) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : الأميون قوم لم يصدقوا رسولا أرسله الله ولا كتاباً أنزله الله.
إن الأهداف التي سعى إلى تحقيقها المدافعون عن رقي المستوى التعليمي لعرب الجاهلية تتمثل في أمرين على أقل تقدير :
أ- القول بأن الإسلام لم يشارك في بناء الحضارة وتطور العلوم ، فكثير من نصوصه ومصطلحاته هي فهم جديد لنصوص دينية وحضارية كانت منتشرة في الجزيرة العربية والبلدان المجاورة ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقاها وقرأها
ب- حرمان الحضارة الإسلامية من كل طرافة ، واتهام العلماء المسلمين بالسطحية ، فهم لا يحللون النصوص ولا ينقدونها نقداً علمياً ، فهم يكتفون بنقل الأخبار وتوثيقها إذا ما عدلوا رواتها ، ولذلك وقعوا في الأخطاء والمتناقضات ، وشوهوا الحضارة الإنسانية بما نقوله من نصوص خاطئة.
والمتدبر في حجج وبراهين هؤلاء المدافعين عن مستوى العرب العلمي يلاحظ أنهم وقعوا في أخطاء منهجية وأخرى موضوعية.
فهل يكتفي الباحث بوجود ثمانية نقوش بعيدا عن مكة والمدينة والطائف ليتكرم على العرب قاطبة بأنهم كانوا يعرفون القراءة والكتابة ، فلو وجدت بعد أربعة قرون من الآن آثار لآلات حديثة وتقنيات متطورة اقتناها في عصرنا الحاضر بعضهم ، واستخدمها في بلد من البلدان المتخلفة ، فهل يجوز إذاك التعميم والقول بأن هذا البلد كان في القرن العشرين متقدماً وبه تقنيات متطورة ؟ وهل قال القرآن الكريم : إن بعض الجاهلية لم يمكن باستطاعتهم أن يكتبوا وأن ينقشوا وأن يتغنوا بشعرهم وبشعر غيرهم ، وان يعلقوا القصائد في فناء الكعبة أو أن يكتبوها بماء الذهب ؟
هل ورد في القرآن الكريم ما يفيد أن الأميين لا يعلمون أن هناك أناساً من بينهم وفي الأمم المجاورة يكتبون ويحسبون ويقرؤون الكتب والصحف ؟ ألم تذكر الأخبار أن الرجل الكامل عند العرب في الجاهلية وأول الإسلام هو الذي يكتب بالعربية ويحسن العوم والرمي (4).
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عارفاً بأن بعض العرب كانوا يمارسون الكتابة ، ففي الفقرة العاشرة من الوثيقة التي كتبها لثقيف قال : (وما كان لثقيف من دين في صفحهم ، اليوم الذي أسلموا عليه في الناس فإنه لهم)(5).
فالرسول صلى الله عليه وسلم : لم يجد في ذكر صحف ثقيف التي ضمت ما لهم وما عليهم من ديون تعارضاً مع ما وصف الله تعالى من أمية لأنه يعلم أن القرآن الكريم يتحدث عن العرب في مجموعهم لا عن أفرادهم.
فعندما نقول اليوم : إن العرب جاهلون بتقنيات غزو الفضاء وعلومه فهل يعني ذلك أننا ننكر وجود جماعة قليلة منهم يعمل أفرادها في هذا البلدان.
لقد كان عرب الجاهلية أميين كما وصفهم القرآن المجيد رغم وجود النقوش الثمانية والمعلقات العشرية وغيرها من الأخبار التي تذكر أن هذا الفرد أو ذاك كان قارئاً وكاتباً ، وكان العلماء المسلمون على بينة من هذه الأمية لذلك ناقشوا كل من سعى إلى تأويل لفظة الأميين لتدل على غيرها المفهوم.
فالطبري وهو الذي أورد الرواية المنسوبة لابن عباس والتي أولت كلمة أمين بأنهم الذين لم يصدقوا رسولاً أرسله الله تعالى ، وقد أورد قبلها خمس روايات فسرت الأميين بأنهم جماعة من اليهود الذين كانوا لا يقرؤون ولا يكتبون.
ولم يكتف الطبري بذكر الروايات بل علق عليها بقوله : (ومنهم أميون) ومن هؤلاء اليهود الذين قص الله قصصهم في هذه الآية فالمقصود بالأميين في الآية اليهود واليهود يؤمنون بموسى ، فهم أميون لأنهم لا يعرفون القراءة والكتابة.
وبعد ذكر رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال : (وهذا التأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم ، وذلك أن الأمي عند العرب هو الذي لا يكتب (6).
وبعد ذكر رواية ابن عباس رضي الله عنهما قال : وهذا التأويل على خلاف ما يعرف من كلام العرب المستفيض بينهم ، وذلك أن الأمي عند العرب هو الذي لا يكتب (7).
بقى علينا أن نقف عند ما استبعده تسيهر من تحول بعض الصحابة من الأمية إلى معرفة القراءة والكتابة ، لنشير إلى أنه هو نفسه قد خضع لهذا التحويل السريع.
فقد أصبح قادراً على الغوص في أسرار اللغة العربية ومتعاملاً مع ما ضمته مكتبتها من كنوز صدرت عن أئمة القرآن والحديث والفقه والعقيدة ولم تتجاوز فترة أخذه من علماء العربية والمهتمين بالتفسير واتجاهاته والحديث ومصطلحه والفقه واقضيته من حيث الامتداد في الزمن المدة التي قضاها أبو هريرة رضي الله عنه متعلماً عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، فهل يجوز لنا أن نستنتج من ذلك أن المجتمع المجري الذي عاش فيه كان يمارس العربية نطقاً وكتابة ويستخدمها أداة للتفكير ؟..
وهكذا يتضح أن براهين المدافعين عن رقي المستوى العلمي لعرب الجاهلية لا تستقيم عند النقد ، فالعرب كانوا أميين في جملتهم وحظهم من المعرفة كان قليلاً ، والرسول صلى الله عليه وسلم ، أتى ليبشرهم ولينذرهم بالدرجة الأولى ، وليفتح أمامهم أبواب العلم والمعرفة ، وأنه اتبع سياسة تعليمية يجدر بالبحث العلمي أن يتناولها بالدرس ليحدد مضمونها ، وليبين خصائصها ومناهجها ومؤسساتها حتى يستطيع بعد ذلك الوقوف على أثرها في تطور العلوم من حيث المضمون والمنهج.
مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه التعليمية :
روى البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت حتى إني لأرى الري يخرج من أظفاري ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب قالوا فما أولته يا رسول الله ؟قال : العلم (
عنون البخاري لهذا الحديث بقوله (فضل العلم) وهو نفس عنوان الباب الأول من أبواب كتاب العلم وظن بعضهم أن البخاري قد كرر العنوان في حين أن العنوان الأول يفيد الفضيلة والثاني يفيد الزيادة كما ذهب إلى ذلك ابن حجر حين قال : الفضل هنا بمعنى الزيادة أي ما فضل عنه , والفضل الذي تقدم في أول كتاب العلم بمعنى الفضيلة فلا يظن أنه كرره (9).
ويمكن للباحث أن يضيف إلى ما قاله ابن حجر وغيره من الشراح أن الحديث يشير إلى نوعين من العلم في الإسلام : الأول يمثله قوله صلى الله عليه وسلم : " أتيت بقدح لبن " فهذا القدح من اللبن لم يكتسبه الرسول صلى الله عليه وسلم اكتساباً ، ولم يعمل على الوصل إليه ، ولم يتدخل عقله أو حواسه للحصول عليه.
فهو الوحي بنوعيه المتلو والمروي ، وله خصائص من أهمها أنه ثابت في نصه.
أما الثاني فيمثله قوله عليه الصلاة والسلام :" إني لأرى الري يخرج من أظفاري" ، ويشير إلى أن العلم الثابت كان مصدراً لعلوم كثيرة تعود على الإنسانية بالخير ، فهي زيادة أصلها النوع الأول.
فالحديث يحدد مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية ويبين أنه يتكون من أصلين :
(الأول) : ونستطيع أن نسميه الجذع المشترك وهو القدر الضروري الذي يحتاج إليه في بناء العقيدة وفي القيام بالعبادات وفي ممارسة المعاملات حسب الأحكام التي بينها القرآن الكريم والسنة النبوية.
والأحاديث التي جاءت لتبين هذا المضمون أو لتصفه كثيرة : أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر :
(1) حديث جبريل عليه السلام الذي رواه عمر بن الخطاب. والذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة بعد ذهاب جبريل : (هذا جبريل جاء ليعلم الناس دينهم).(10)
(2) ما رواه مالك في الموطأ عن ابن شهاب الزهري (أن عمر بن عبد العزيز أخر الصلاة يوماً فدخل عليه عروة بن الزبير ، فأخبره أن المغيرة بن شعبة أخر الصلاة يوماً وهو في الكوفة ، فدخل عليه ابن مسعود الأنصاري فقال : ما هذا يا مغيرة أليس قد علمت أن جبريل نزل فصلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ثم قال بهذا أمرت.(11)
(3) أخرج الأمام أحمد عن عدي بن حاتم أنه قال : (أتيت الرسول صلى الله عليه وسلم فعلمني الإسلام ونعت لي الصلاة وكيف أصلى كل صلاة لوقتها.
(4) وعن عبد الله بن مسعود قال : (إن الرسول صلى الله عليه وسلم ، علم فواتح الخير وجوامعه أو جوامع الخير وفواتحه وإنا كنا لا ندري ما نقول في صلاتها حتى علمنا).(12)
(5) عن فضالة الليثي قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأسلمت وعلمني حتى علمني الصلوات الخمس لمواقيتهن).(13)
(6) روى عن أبي موسى الأشعري أنه قال : (إن الرسول صلى الله عليه وسلم خطبنا فبين لنا سننا وعلمنا صلاتنا.(14) .
ومضمون هذا النوع مستمد من الآيات القرآنية ومن الأحكام المنزلة على الرسول صلى الله عليه وسلم من طرق الوحي ، وهذا العلم هو الذي سماه ابن عبد البر العمل الأعلى ،فهو موروث عن النبوة.
وهو الذي قصدته بعض الأحاديث ومنها :
1- ما رواه أنس بن مالك عن الرسول صلى الله عليه وسلم من أنه قال : (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويثبت الجهل) (15)
2- ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا (16)
3- ما رواه البخاري معلقا في باب كيف يقبض العلم قال : وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم ، انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ولا تقبل إلا حديث النبي صلى الله عليه وسلم ، ولتفشوا العلم ،ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم ،فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً. (17)
الثاني : ونسميه العلم الفرعي أو العلم الزائد وهو الذي تفرع عن العلم الأعلى وتنوعت مصادره وارتبطت بالإنسان واستخدمت الأجهزة والوسائل البشرية مع الاستنارة بالعلم الأعلى ، ومن العلوم الفرعية التي جاءت في مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية ، علم اللغات نطقاً وكتابة.
لسنا بصدد تعريف علم اللغات ولا بيان نشأتها واختلافها وتطورها ، ولكن نشير إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحث بعض الصحابة على تعلم اللغات غير العربية لأنه عليه الصلاة والسلام يدرك أن ذلك يسهل التخاطب مع الأمم المجاورة للمسلمين ، والاطلاع على ما كتب بهذه اللغات بطريقة مباشرة.
فقد روى عن زيد بن ثابت أنه قال : (أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فتعلمت له كتاب يهود. وقال إني ما آمن يهود على كتابي فتعلمته فلم يمر بي نصف شهر حتى حذقته. فكنت أكتب له إذا كتب واقرأ له إذا كتب إليه). (18)
ليس من الضروري في بحثنا هذا التوقف عند المدة التي قضاها زيد بن ثابت من حذق اللغة التي كان اليهودي يكتبون بها التوراة ، فتلك قضية قد تجد لها بعد التأويلات ، كأن يقال : إن زيد بن ثابت كانت له معرفة أولية بهذه اللغة وأنه أتقنها في المدة المذكورة في الحديث بأن خصص لها معظم وقته وتفرغ لها التفرغ الشرعي ، ولكن المهم أن نبين أن الحاجة دعت المسلمين إلى أن يتعلم بعضهم لغة اليهود حتى يتمكنوا من قراءة النصوص المدونة بها ، ومن أن يكتبوا بها إذا دعت الحاجة إلى ذلك ، ففي تعلم هذه اللغة حماية للإسلام وأهله من التحريف والتزوير ، فقد جاء في الحديث (إن أهل الكتاب كانوا يقرؤون التوراة بالعبرية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم (الحديث) (19)
قد يظن أن الحديث ينهى عن الأخذ عن اليهود مطلقاً ، وهذا لا يستقيم فالقرآن الكريم قد حاور اليهود ، وكذلك فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقد سألهم وأجاب عن أسئلتهم.
فالنهي هنا مقيد أي لا تأخذوا عنهم ما سكت القرآن الكريم والسنة العطرة عنه ،ولا تأخذوا عنهم كل ما يدعون أنهم يقرؤونه لكم من كتبهم ،فمن عادتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، وطمس الحقيقة بطريق مختلفة ،فإذا ما تعلم المسلم لغتهم وقرأ نصوصهم قراءة مباشرة فإنه يوصد أمامهم أبواب التضليل ، ويجعلهم يدركون أن المسلمين لا تنفع معهم الأكاذيب ، فهم على اطلاع بالنصوص المكتوبة بالسريانية وغيرها من اللغات ، وهكذا يتضح أن مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية قد وضع مكانة لتعلم لغة اليهود ،وهذا لا يعني أن الأمر يقتصر عليها فالحاجة قد تدعو المسلمين إلى تعلم لغات لن يستطيعوا بدونها المشاركة في بناء الحضارة الإنسانية ، أو هي تفتح أمامهم أبواب القوة والمناعة ، والخروج من دائرة السيطرة التي تفرضها عليهم بعض الأمم.
فالمسلم اليوم مطالب بأن يتقن إلى جانب لغته العربية بعض اللغات الأخرى ،لأنه بدون ذلك يعد أميا، فالأمي في عصرنا وبالنسبة لنا العرب ليس ذلك الذي لا يحسن القراءة والكتابة ، وإنما هو الذي لا يحسن من اللغات إلا لغته الأصلية.
والأمي اليوم هو الذي يتعلم لغة قوم ولا يستخدمونها في البحث والاكتشاف والاختراع وإدراك أسباب قوة أصحابها والاطلاع على جوانب ضعفهم.
والأمي اليوم هو الذي يتعلم لغة قوم ليقلدهم في مظاهر حياتهم اليومية وفي عاداتهم وتقاليدهم ، دون أن ينفذ إلى لب حضاراتهم وأسباب مناعتهم ، فهو كالإسفنجة تمتص الماء ثم ترجعه كما هو إذا ما تسلطت عليها قوة خارجية ، أما اللبيب فهو الذي يتعلم لغة قوة ليأمن شرهم وليضيف لبنة في صرح الحضارة الإنسانية ، وهذا ما ورد في حديث زيد بن ثابت المتقدم.
إن تعلم أية لغة يبقى ناقصاً إذا لم يجمع بين القدرة على التخاطب بتلك اللغة وكتابتها ، فالكتابة لها مكانة مهمة في المحافظة على العلم والتعمق فيه ، ونقله إلى الأجيال ، لذلك اهتم الإسلام بالقراءة والكتابة ،فأول ما نزل من القرآن الكريم هو الأمر بالقراءة ، قال تعالى : (اقرأ باسم ربك الذي خلق ، خلق الإنسان من علق ، اقرأ وربك الأكرم ، الذي علم بالقلم ، علم الإنسان ما لم يعلم) (20) وقال عز من قائل (ن والقلم وما يسطرون) (21)
وجاء في سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية أن الكتابة من مضمونها ، فقد حث عليه الصلاة والسلام بعض المسلمين على أن يتعلموا الكتابة ، واشترط على بعض أسرى بدر أن يفدوا أنفسهم بتعليم عشرة من أبناء المسلمين القراءة والكتابة ، لقد كان عليه الصلاة والسلام على علم بالصعوبات التي تعترض الكتابة ،فالعارفون بها قليل عددهم، ووسائلها صعبة ،وتقنياتها لا توفر للنص المنزل وعلى ما ينتجه الإنسان من نصوص ، فمن الضروري أن يتعلمها بعض الصحابة ،وأن يهتموا بها ،وأن يسعوا إلى نشرها ، وفعلاً توصل بعض الصحابة إلى ذلك.
قال عبادة بن الصامت : (علمت ناساً من أهل الصفة الكتابة والقرآن) (22) وعن الشفاء بنت عبد الله أنها قالت : (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عند حفصة فقال لي : (ألا تعلمين هذه رقية النملة) (23) كما علمتها الكتابة (24).
فعبادة بن الصامت وقد كان عارفاً بالخبط العربي تحمل مسؤولية تعليم المسلمين الراغبين في حذق الكتابة إلى جانب حفظ القرآن الكريم ؛ حتى يكثر عدد الكتاب ، وينشر هذا الفرع من العلم الذي يساهم أصحابه بقسط وافر في المحافظة على القرآن ونقله إلى الأمة الإسلامية كما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيسهمون في تحقيق وعد الله تعالى الوارد في قوله عز وجل : (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) (25) .
إن تعلم الكتابة إلى جانب القرآن الكريم يفسح المجال للعلوم الفرعية التي يمكن أيضاً وصفها بالعلوم البشرية لتسهم في حفظ العلم الأعلى المتصل بالوحي وتعلمه ونشره :
أما الشفاء بنت عبدالله واسمها ليلى وهي قرشية عدوية أسلمت قبل الهجرة فكان لها نصيب من المعرفة جعل الرسول صلى الله عليه وسلم ، وعمر بن الخطاب يكلفانها ببعض الأمور ،فالرسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلب منها أن تعلم زوجه حفصة الرقية من القروح التي تصيب جسم الإنسان ، كما علمتها قبل ذلك الكتابة فأسهمت في نشر العلم.
ويقال إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قد ولاها شيئاً من أمر السوق (26)
فالكتابة ، في الأحاديث النبوية فرع من فروع العلم البشري والإنسان في حاجة إليها في كثير من أمور دينه ، فالرسول صلى الله عليه وسلم قد عمل على أن يكون من بين أصحابه كتاب للوحي ، ولبعض الأمور كالعقود والعهود ، فقط نعتت روايات بعض الصحابة بأنهم من الكتاب.
جاء في حديث لابن عباس رضي الله عنهما أن معاوية كان كاتب الرسول صلى الله عليه وسلم (27) .
ووصف حديث آخر حنظلة الأسدي بأنه من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم (28) .
وجاء في حديث صلح الحديبية أن مبعوث قريش سهيل بن عمرو قال للرسول صلى الله عليه وسلم هات أكتب بيننا وبينكم كتاباً فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الكاتب (29) .
وهكذا يتضح أن سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية جعلت من تعلم اللغات فرعاً من فروع العلم ، ونستطيع التوسع في هذا المجال فنقول : إن كل ما يساعد على تعلم اللغات نطقاً وكتابة وتحليلاً ومقارنة يدخل في هذا المضمون ، وأنه يساعد على المحافظة على العلم الأعلى وفهمه ،وبفضله يستطيع الإنسان أن يقوم على أحسن وجه بما كلفه الله تعالى.
وإلى جانب الاهتمام بعلم اللغة وحث المسلمين على أن يتخصص بعضهم أو جلهم في تعلم بعض اللغات وما يتصل بها من مباحث ودراسات فقد أشارت بعض الأحاديث إلى علم التاريخ ، وهذا الأمر يعد منطقياً بالنسبة للإسلام ، فالقرآن الكريم أورد حقائق تتصل بما كان عليه الإنسان من أصول عقديه ومناهج سلوكية ،وبما حدث بعد ذلك من تحول أدى بالإنسان إلى الشرك بعد التوحيد عندما اجتالت الشياطين عباد الله ،فجعلتهم يخيرون الانحراف والاعتداء على الاستقامة والعدل ،وفيه أيضاً قصص الأنبياء الذين بعثهم الله تعالى ليخرجوا أممهم من الظلمات إلى النور ،وليخلصوا الحقيقة من الأدران ، وليعيدوا للعقل مكانته التي أعدها الله له.
كل هذه القضايا تمثل جانباً من صله الإسلام بالتاريخ ففيه رواية للأخبار واستخلاص للعبرة منها وتوظيفها للحاصر والانطلاق منها لأعداد المستقبل ،وفي هذا الإطار يندرج ما روي عن الرسول صلى الله علي وسلم من أنه قال : (تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم فإن صلة الحريم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر).(30)
فهذا الحديث وإن لم يرق إلى درجة الصحيح إلا أنه يسير التوجيهات الإسلامية ،فآخره يتناول قضية من أهم قضايا تماسك المجتمع ، أما أوله فيهتم بفرع من فروع التاريخ وهو التاريخ الخاص ،أي الذي يتصل بأخبار الأفراد أو الجماعات الصغيرة ، لينطلق بعد ذلك إلى التاريخ العام ،وهو تاريخ الأمم والشعوب والأحداث المهمة.
والمتدبر في الحديث يلاحظ التبعيض الوارد في قوله (من أنسابكم ويستخلص منه الدعوة إلى الاختيار أي إلى النقد ، فلا يؤخذ كل خبر يتصل بالأنساب ، وإنما يجب اختيار الصحيح من الأخبار حتى لا يستخدم هذا العلم لنشر الكذب أو التعالي أو التباهي أو بعث الحمية الجاهلية ،وإنما ينطلق منها لما هو جليل كصلة الأرحام وغيرها من الأهداف النبيلة التي يسعى علم التاريخ إلى تحقيقها والاستنارة بها.
وإذا انتقلنا من مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم المتصل بعلم التاريخ على ما له من صلة بالطب لاحظنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم للمسلمين بعض الإشارات المتصلة بهذا الميدان ، وهي تدعو الإنسان إلى البحث والتعمق لتطوير ما جاء في هذه الإشارات ولاستخلاص العبرة منها حتى تكون دراساته ومباحثه مستجيبة للحقائق العلمية والوسائل المتوفرة ، ولتعلم إرادة الله تعالى ومشيئته ، لقد ذهب بعضهم إلى القول بأن (ما أتى بهم محمد في هذا المجال هو من أمور الدنيا مما لا علاقة للدين بها ،فلا فرق عندئذ في ذلك بين النبي صلى الله عليه سلم وبين غيره من البشر لما ورد في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنه قال : (إذا أمرتكم بشيء من يدنكم فخذوا وإذا أمرتكم بشيء من رأي فإنما أنا بشر) (31)
ولما نقله السيرخسي في أصوله من أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إذا أتيتكم بشيء من أمر دينكم فأعملوا ، وإذا أتيتكم بشيء من أمر دنياكم فأنتم أعلم بأمر دينكم (32) (إن هذا القول لا ينفي أن تكون العلوم الطبية داخلة في مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية ، ومع ذلك فنحن نتوقف عنده لأنه يسوي بين أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيحة وبين ما يصدر عن البشر فيما ينعته بأنه من أمور الدنيا ، فكأنه يقول: إن مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية قد يخطئ كما تخطئ بعض الخطط التعليمية التي يضعها البشر ،إن صاحب القول ينطلق من حديث صحيح السند يطابق متنه المنقول والمعقول ،ويفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال للمسلمين إذا أمرتكم بما هو وحي منزل فسلموا ، واعملوا بما جاء فيه من أمر أو نهي ، أو ما شابههما، أما إذا صدر عني اجتهاد لم ينزل وحي بإقراره أو برده فتستطيعون الأخذ به أو الاجتهاد معه ، وفي الحالتين يكون المسلمون في مأمن من الاستمرار على الخطأ ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم معهم ، ذلك أن الوحي لا يتركه على الخطأ في جميع الحالات.
أما الحديث الثاني ، الذي نقله السرخسي فلا يرتقي إلى الصحيح ،وقد أورده في حادثه تأبير النخل التي كانت سبب ورود الحديث عند مسلم أيضاً ، وهي تؤكد ما ذكرناه آنفاً من أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الاستمرار في الخطأ ،فقد اجتهد اجتهاداً خالف قوانين التلقيح ، ثم جاءت التجربة لتبين تلك المخالفة فلم يتشبث عليه الصلاة والسلام باجتهاده ، ولم يقل إن لوحي وافقه بل أدرك عليه الصلاة والسلام أن حكمة الله تعالى تركت بيان ذلك للتجربة ،ولما اتصف به الرسول صلى الله عليه وسلم من صفات الكمال.
إن التفريق بين أمور الدين والدنيا الذي سعى بعضهم إلى التأكيد عليه هو الذي دفع بعضهم إلى القول بأن المسلم يستطيع مخالفة الخبر الصحيح المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان متصلاً بأمور الدنيا.
إن هذا المذهب يكون مقبولاً في الأحاديث الضعيفة التي يتضمن متنها حكماً قطعياً بينت التجربة والعلم خطأه بدرجة تقترب من اليقين ، أما الأحاديث الصحيحة فينبغي التعامل معها بالطرق التي بينها علماء الحديث ونقاده ،فجمعها ومعرفة الناسخ والمنسوخ منها ودراسة سبب ورودها وسائل قد تبين للباحث جوانب عابت عن الدارسين ، وإذا ما تعذر ذلك فعليه أن يفتح أبواباً للعلم انطلاقاً من هذه الأحاديث ، فلعل التجربة تثبت في يوم من الأيام صحتها علمياً ، وتمكن الإنسانية من معرفة قد تبقى محجوبة عن البشر مدة قد تطول أو تقصر.
بهذا المنظار يمكن للباحث أن يؤكد أن الحديث النبوي دون أن يفصل في العلوم الطبية قد أشار إلى بعضها وقدم للإنسان في العصر النبوي بعض الأودية ، وحث المتأخرين على البحث والتنقيب والإيمان بأنه لا يوجد داء بدون دواء ،والوجود هنا هو الوجود بالقوة لا الوجود بالفعل فما على الإنسان إلا أن يتعلم ويبحث ،وهذا ما يشير إليه الحديث النبوي (ما أنزل الله داء إلا نزل له شفاء). (33)
ويتأكد جانب الحث على الاجتهاد لاكتشاف الأمراض وسببها والأدوية وتركيبها ومقارنتها ووقت تناولها وطريقة ذلك بما جاء في بعض الروايات من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في آخر الحديث : (علمه من علمه وجهله من جهله). (34)
فالعالم بالطب هو الذي يعرف الدواء ويستخدمه استخداماً يفضي إلى الشفاء ،في حين أن الجاهل يغيب عنه الدواء أو تغيب عنه طريقة استعماله أو مقداره.
ومن الجدير بالملاحظة أن ما جاء في الأحاديث النبوية يشير إلى أن الطب نوعان : جسمي مادي ونفسي ، فما له صلة بالرقية والدواء من العين فهو طب نفسي.
وهكذا يتضح أن الأحاديث النبوية دون أن تقدم ديواناً في الطب أو وصفاً لكل داء ولكل دواء فتحت أمام الفكر البشري أبواب البحث وحثت المختصين على التعمق في الدراسة والاكتشاف.
إن العلوم التي جاء ذكرها في الأحاديث النبوية ليست كلها نظرية ، فالبعض منها هو من العلوم التطبيقية ، إذ تهتم بتدريب الجسم وتعويده على حركات تمكنه من اكتساب قدرات يستطيع بفضلها بلوغ أهداف خطط لها العقل.
فقد حدث أبو سلام الدمشقي عن خالد بن يزيد الجهني قال : كان عقبة بن عامر يمر بي فيقول : يا خالد اخرج بنا نرم ،فلما كان ذات يوم أبطأت عنه فقال : يا خالد تعال أخبرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتيته فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة : صانعه يحتسب في صنعه الخير ، والرامي به ومنبله ،وارموا وأركبوا ،وإن ترموا أحب إلى من أن تركبوا (35) .
ففي الحديث إشارة إلى علوم تعادلها اليوم علوم الصناعات الحربية والتدريب والتمرن على قيادة الطائرات والدبابات والصواريخ ، وغيرها من العلوم التي تفننت بعض الدول في اتقانها وتطويرها فأصبحت بفضلها قوية منيعة تتحكم في أجزاء مهمة من المعمورة.
والخلاصة فإن مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية يتسع لكل ما يمكن الإنسان من أداء الوظيفة الشاملة التي كلفه الله بها ،هذه الوظيفة التي وصفها القرآن الكريم بأنها أمانه ،وبأنها عرضت على بعض المخلوقات قال تعالى : (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً) (36) .
والتفسير الذي يطمأن إليه هو الذي يربط الأمانة بالعقل وبخلافة الله في الأرض ،هي الخلافة التي تحمل كل معاني التكليف ،وترتبط بالعلم ارتباطاً أساسيا ، قال الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في تفسير الآية : (والقول في حمل معنى الأمانة على خلافة الله تعالى في الأرض ،مثل القول في العقل ، لأن تلك الخلافة ما هيأ الإنسان لها إلا العقل ،كما أشار إليه قوله تعالى : ( إذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة) ثم قوله : (وعلم آدم الأسماء كلها) ، فالخلافة في الأرض هي القيام بحفظ عمرانا ، ووضع الموجودات فيها في مواضعها واستعمالها فيما استعدت إليه غرائزها (37) وهذا لا يكون إلا بالعلم بنوعيه ، لذلك أشارت الآية في الآفة التي تمنع الإنسان من الوفاء بالأمانة هي الجهل ، فكل علم يمكن الإنسان من القيام بالتكليف بالمعنى الشامل للكلمة يدخل في مضمون سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية.
وللعلم في الأحاديث النبوية بعض الخصائص منها :
1- الاستمرارية
2- العموم
3- الكسب
9- خصائص العلم :
1- الاستمرارية :
اقترنت قصة خلق آدم عليه السلام بنشأة العلم ، قال تعالى : (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) (38)
والتفسير الذين يطمئن إليه هو الذي يبين أن الله تعالى مكن آدم من العلم ،وذلك بالقدرة على تسمية الأشياء والنطق بمدلولها للتعبير عن مقصوده وتبليغه إلى غيره ، إن هذه التسمية مرتبطة ارتباطاً جذريا بالتقدم الحضاري ،فالذي يبحث ويعلم ويضع الآلة هو الذي يسميها ،وما على الآخرين إلا أن يأخذوا عنه التسمية كما أخذوا عنه استخدام الآلة وهذا الأمر حاصل لنا اليوم معشر العرب فإننا نستورد الآلات وأسماءها والتقنيات وطريق أدائها ، ويسعى بعضنا إلى أن يعرب الأسماء فيستعصي الأمر عليه ونختلف وننسى أنه لو كتب لنا أن نكون نحن المخترعين فإن الأسماء ستكون عربية لا محالة.
وقد علمنا الله تعالى بهذه الحقائق ، وبين لنا أن الإنسان يحتاج إلى الأشياء ما دامت الحياة مستمرة ، وأنه في حاجة إلى تسميتها أي إلى استخدام العلم.
فالعلم بدأ مع الإنسان ولن ينتهي إلا بفناء الإنسانية كما جاء في كثير من الأحاديث النبوية.
(أ) عنون البخاري للباب الواحد والعشرين من كتاب العلم بباب رفع العلم وظهور الجهل ، وقال ربيعة لا ينبغي لأحد عنده شيء من العلم أن يضيع نفسه ، ثم خرج حديثين عن أنس بن مالك جاء في أولهما أن الرسول صلى الله عليه قال : (إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ، ويثبت الجهل ويشرب الخمر ويظهر الزنا) (39)
وجاء في الثاني أن الصحابي الجليل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (من أشراط الساعة أن يقل العلم، ويظهر الجهل ،ويظهر الزنا ، وتكثر النساء ويقل الرجال حتى يكون لخمسين امرأة القيم الواحد. (40)
ب – أورد البخاري خبر الكتاب الذي كتبه عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم ، مرتين ، جاء في الأولى معلقاً ،وفي الثانية مسنداً موصولاً ، وجاء فيه أن عمر بن عبد العزيز قال لأبي بكر بن حزم : (انظر ما كان من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فاكتبه فإني خفت دروس العلم وذهاب العلماء ، ولا تقبل إلا حديث النبي ، ولتفشوا العلم ، ولتجلسوا حتى يعلم من لا يعلم فإن العلم لا يهلك حتى يكون سراً.
ومما يلاحظ أن الرواية المتصلة تقف عند قوله وذهاب العلماء (41) وبعد ذلك خرج البخاري حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤوسا جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) (42).
فهذه الروايات تبين أن العلم سوف يبقى مع الإنسان في الحياة الدنيا ،وأن ذهابه علامة من علامات الساعة ،وأن الله تعالى قضى وقضاؤه الحق أن يبدأ العلم مع الإنسان وينتهي معه.
فلا يجوز لعالم أن يقول إن العلم قد ختم بما توصل إليه هو من نتائج أو أن أبواب العلم قد أغلقت بما كتبه هو أو استنبطه من معادلات أو تجارب أو اختراع ، فالعلم لا يعرف النهاية ولا يرفع عن الكون إلا إذا حكم الله تعالى بذلك فأذهب العلماء الواحد تلو الآخر.
أما قبل ذلك فلن يخلوا الكون منن العلماء ، فقد روى عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال : (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله) ، قال البخاري وهم أهل العلم (43) .
لقد قيدت بعض الأحاديث الطائفة المذكورة بأنهم الذين يقاتلون على الحق (44) وذكرت آثار أنهم أهل الحديث (45) .
والذي يطمئن إليه الباحث أن العلماء هم الذين يبقون ظاهرين على الحق ، فيبينون الناس أوامر الله تعالى ونواهيه ويشرحون لهم ما كلفوا به من قول عمل وسلوك.
وحتى تتحقق الاستمرارية اقتضت حكمة الله تعالى ولطفه بعباده أن خلق فيهم القدرة على التعلم ،ومن هنا جاءت الخاصية الثانية للعلم في الإسلام ،وهي العموم بمعنى أن العلم حق مشاع بين كل الناس.
العلم حق مشاع :
وهب الله الإنسان قدرات وأجهزة تمكنه من تحصيل العلم ، فالعقل والحواس من النعم المشتركة بين البشر لا فضل فيها لجنس على آخر إلا بمدى استعمالها وطرقه.
فالرسول صلى الله عليه كان يعلم الصحابة أجمعين لا يميز بين رجل وامرأة ولا سيد وعبد ولا عربي وأعجمي ، فمدرسة النبوة وضعت المبدأ الذي ناضلت في سبيله كثير من الأمم والهيئات الدويلة والمتمثل في ديمقراطية التعليم ، أي جعله حقاً من الحقوق التي يتمتع بها الفرد.
لم يحرم الرسول صلى الله عليه وسلم النساء من حق التعلم لما أتينه مطالبات بأن يخصص لهن عليه الصلاة والسلام جزءاً من وقته بل أكبر فيهن حبهن للعلم وعلمهن أمور دينهن الذي فيه عصمتهن من الذنوب ،وبفضله يكتسبن دراية تبيح لهن القيام بما كلفن به ، من وظائف تربوية واقتصادية واجتماعية.
فقد روى البخاري بسنده عن أبي سعيد الخدري قال : قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم ، غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً من نفسك فوعدهن يوماً لقيهن فيه فوعظهن ، وأمرهن فكان فيما قال لهن : ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار ، فقالت امرأة : واثنين ، فقال : واثنين (46)
فالرسول صلى الله عليه وسلم ، علم النساء وغيرهن في هذا الحديث ثلاثة أمور :
1- أن العلم حق للجميع ،وأن الإنسان يستطيع أن يطالب بهذا الحق بالطرق المشروعة.
2- أن الإنسان مطالب بأن يتجنب الشح المادي ،وأن يحمي نفسه منه ،قال ابن حجر : قوله وأمرهن أي بالصدقة (47) .
3- التحلي بالصبر الجميل
فقد علم الرسول صلى الله عليه وسلم النساء ثواب من تحمى نفسها من الشح المعنوي الذي قد يؤدي بصاحبه إلى الكفر بنعم الله تعالى والانهيار العصبي عند الشدائد ، وهو ما يعاني من جانب من أفراد المجتمعات في العصر الحاضر الذي ترك بعض أفراده التمسك بحبل الله المتين ، ولم يفهموا الوظائف التي خصهم الله بها الفهم الصحيح كما أنهم تاهوا وهو ينظرون إلى ما يتمتعون به من نعم ، فظنوا أن زوالها عنهم فيه من الظلم والقهر ما تنوء بحمله الجبال.
وتخريج الإمام البخاري لهذا الحديث في كتاب الاعتصام دليل على هذا الجانب التربوي الذي جاء في الحوار الذي دار بين الرسول صلى الله عليه وسلم وإحدى نساء المسلمين ،والذي نشأ عن قوله عليه الصلاة والسلام : ما منكن تقدم ثلاثة من ولدها إلا كان لها حجاباً من النار فقد تطلعت إحدى الصحابيات إلى فضل الله تعالى فسألت عن نصيب من قدمت اثنين من الأبناء ولعل منهم من ودت السؤال عن نصيب من قدمت واحداً فقط ، وجاء الجواب النبوي مبيناً أن حكم الاثنين لا يختلف عن الثلاثة ،جاء في رواية كتاب الاعتصام أن السائلة كررت سؤالها مرتين ، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم أجابها بقوله (واثنين واثنين واثنين) واستنتج عياض وابن التين أن مفهوم العدد في الأرقام المذكورة ليس مراداً لذاته ،إذ إن مفهوم الحديث هو بيان الجزاء الذي أعده الله تعالى لمن وقى نفسه من الشح.
قال تعالى : (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) (48)
علم الرسول صلى الله عليه وسلم المرأة هذه المعاني وغيرها ، كما فعل ذلك مع الرجال لأن الإسلام لا يميز بين الرجل والمرأة في هذا الحق فهما يشتركان فيه مهما كانت مكانتهما الاجتماعية ، فالأمة لا تختلف في ذلك عن ربتها ففي باب تعليم الرجل أمته وأهله ،أخرج البخاري عن أبي بردة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (ثلاثة لهم أجران : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بمحمد والعبد المملوك إذا أدى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت عنده أمة فأدبها فأحسن تأديبها وعلمها ، فأحسن تعليمها ثم اعتقها فتزوجها فله أجران (49)
فالقدرة على التعليم عند الأمة لا تختلف عما هي عليه عند ربتها أو سيدتها فقد وهبها الله تعالى أجهزة لا تختلف عن أجهزتهم لتحصيل العلم الذي يرفع من درجة صاحبه ،فالإسلام وإن أقر العبودية الناتجة عن الضرورة الاقتصادية إلا أنه ألغى العبودية المتصلة بحق الحياة وحق العقيدة وحق التفكير والتعلم.
فالناس سواسية في هذه الحقوق ، وكلهم مطالبون بتعلم ما به يحفظ الدين ، فقد أخرج الإمام أحمد بسنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : (فيكم كتاب الله يتعلمه الأسود والأحمر والأبيض تعلموه قبل أن يأتي زمان يتعلمه ناس لا يجاوز تراقيهم ويقومونه كما يقوم السهم فيتعجلون أجره ولا يتأجلونه (50)
فكل مسلم مطالب بأن يتعلم القرآن ويتدبره وينشره حتى يحول دون التعلم الأبتر والفهم القاصر ، لا فرق في ذلك بين أسود وأحمر أبيض ، ولا بين شيخ وشاب.
فالعلم حق مشاع قد ينبغ فيه الصغير قبل الكبير، وقد يصبح الأول أعرف من الثاني وأقدر على التبليغ والبيان ،والأمثلة كثيرة في حياة الصحابة والتابعين نكتفي بالإشارة إلى ما كان عليه حبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما الغلام الذي تعلم علم أحد الرهبان بأنه علم علماً ما علمه أحد (51)
إن مبدأ شيوع العلم وكونه حقاً يتمتع به كافة الناس ، لا يستقيم إلا إذا كان العلم من الأمور المكتسبة ،وهذه هي الخاصية الثالثة للعلم.
(3) العلم اكتساب :
إن المتدبر في التوجيهات الإسلامية المتصلة بالعلم يلاحظ أن العلم البشري لا يكون إلا عن طريق الكسب ، فلا وجود لعلم يأتي عن طريق الوراثة ولا عن طريق النور الذي يقذف في القلب فالعلم عملية اكتسابية لا تكون إلا باستخدام الأجهزة التي خلقها الله في الإنسان وطلب منه أن يستخدمها إن هو أراد أن يخرج من الجهل إلى العلم والأدلة على ذلك كثيرة منها :
أ- أن الأنبياء رضي الله عنهم كانوا يستخدمون الوسائل والأجهزة البشرية ، للحصول على العلم الذي لا ينزل عليهم وحياً ، فالوحي قد دعاهم إلى ذلك ، فموسى عليه السلام ، قام خطيباً بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم ، فقال : أنا أعلم ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه أن عبداً من عبادي بمجمع البحرين هو أعلم منك قال : يا رب وكيف به ؟ فقيل له أحمل حوتاً في مكتل ، فإذا فقدته فهو ثم فانطلق وانطلق بفتاه يوشع ابن نون ، وحملا حوتاً في مكتل ، فإذا فقدته فهو ثم فانطلق ،وانطلق بفتاه يوشع بن نون ، وحملا حوتاً في مكتل حتى كانا عند الصخرة وضعا رأسيهما وناما فانسل الحوت من المكتل فاتخذ سبيله في البحر سرباً ،وكان لموسى وفتاه عجباً. فانطلقاً بقية ليلتهما ويومهما كما أصبح ،قال موسى لفتاة آتنا غدائنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً ، ولم يجد موسى مسا من النصب حتى جاوز المكان الذي أمر به فقال له فتاه ، أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، قال موسى ذلك ما كنا نبغي ، فارتدا على آثارهما قصصاً ، فلما انتهيا إلى الصخرة إذا برجل مسجى بثوب أو قال تسجى بثوبه فسلم موسى فقال الخضر وأنى بأرضك السلام ؟ فقال أنا موسى فقال موسى نبي بني إسرائيل ؟ قال : نعم ، قال : هل اتبعك على أن تعلمني مما علمت رشداً ؟ قال : إنك لن تستطيع معي صبراً يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم علمكه لا أعلمه قال ستجدني إن شاء الله صابراً ، ولا أعصى لك أمراً (الحديث) (52)
فهذا الحديث الطويل الذي له أصل في القرآن الكريم يبين :
أولاً : أنه لا يسمح للإنسان مطلقاً أن يدعي أنه أعلم الناس وأنه وصل إلى درجة من العلم لم يصل إليها غيره من البشر.
فهذا الحديث الطويل الذي له أصل في القرآن الكريم يبين :
أولاً – أنه لا يسمح للإنسان مطلقاً أن يدعى أنه أعلم الناس وأنه وصل إلى درجة من العلم لم يصل إليها غيره من البشر.
ثانياً : أن الأنبياء إلى جانب الوحي المنزل عليهم والذي يخرج عن العلم المكتسب يتمتعون بما يتمتع به سائر البشر من قوى تمكنهم من تحصيل العلم وأنهم مدعوون أحياناً إلى استخدام هذه القوى ، وبذل الجهد للحصول على علوم لا تنزل عليهم تنزيلاً.
فموسى عليه السلام قد لاقى في رحلته من النصب ما لاقى واستخدم من الوسائل ما استخدم إلى أن وصل إلى العبد الصالح الذي اشترط عليه شروطاً تتطلب صبراً جميلاً وقدرة على مقاومة ما ركب في النفس من ميل إلى التسرع في معرفة الأسباب والمسببات.
والعبد الصالح كان في حاجة إلى السؤال ليعلم أن الذي يخاطبه هو موسى عليه السلام : قال ابن حجر وفيه ( الحديث) دليل على أن الأنبياء ومن دونهم لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله إذا لو كان الخضر يعلم كل غيب لعرف موسى قبل أن يسأله (53)
ب- جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإنما أنا قاسم والله يعطي ولن تزال هذه الأمة قائمة على أمر الله لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله (54)
فقوله إنما أنا قاسم يفيد أنه يعلم الناس دون أن يميز بين هذا وذلك ، أما قوله (والله يعطي ) فيشير إلى أن ما يحصل عليه هذا الطالب يختلف عما يحصل إليه ذلك وهذا مرده إلى أن الله تعالى أعطانا ما بفضله نحصل على العلم ، ولكن طريقة استخدامنا لما أعطانا الله تعالى تختلف كما تختلف ظروفنا وحالاتنا النفسية فعملية التعلم إذن تستدعي أمرين : البذل والسعي مع طلب التوفيق من الله تعالى وهذا ما أشار إليه ابن حجر في شرحه عندما بين أن في الحديث إثبات الخير لمن تفقهه في دين الله ، وأن ذلك لا يكون بالاكتساب فقط بل لمن يفتح الله عليه به (55)
فلا خلاف بين ما قاله ابن حجر وبين قولنا إن العلم لا يكون إلا عن طريق الكسب ، فإننا نعلم أن هذا الأخير شرط ضروري في كل عمل يقوم به الإنسان ولكنه ليس بكاف فهو في حاجة إلى توفيق الله وفضله.
ج- جاء في تعليق للبخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال : ومن سلك طريقاً يطلب فيه علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة (56)
فهذا يشير إلى أن العلم يفرض على صاحبه أن ينتقل من مكان إلى مكان آخر ، وأن يرحل من بلد إلى أخر ، إذا لزم الأمر ، وذلك للأخذ عن العلماء ،فالعلم لا يكون إلا بالتعليم أي بإرادة إنسانية محاطة بالعناية الإلهية.
فقد روى عن عبدا لله بن مسعود أنه كان يقول : فعليكم بهذا القرآن فإنه مأدبة الله فمن استطاع منكم أن يأخذ من أدبة الله فليفعل فإنما العلم بالتعلم (57)
د – لم يصدر عن الصحابة رضي الله عنهم ما يشير إلى أنهم تعلموا دون أن يجلسوا في مجالس العلم فعمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يتناوب هو جار له الأنصار في النزول إلى المجلس النبوي للتعلم وكثير من الأحاديث ذكرت أن بعض الصحابة كان يجلس لدى البعض الآخر ليتعلم منه ، ففي الحديث الطويل الذر رواه عمر بن الخطاب أن نساء المهاجرين كن يتعلمن من نساء الأنصار.(58)
والمتدبر في الحديث يستنتج أن المتعلمات كن يمارسن وسائل التعلم ،فهن يسألن ويراجعن ويبذلن ما في وسعهن للخروج من الجهل والتمتع بنعمة العلم.
هذه النعمة التي لا تختلف عن نعم الله تعالى في ضرورة كسبها والحصول عليها عن طريق الجهد البشري الذي هو في حاجة إلى رحمة الله تعالى وفضله ولطفه بعباده.
إن استمرارية العلم وعمومه وكسبه تولدت عنها قضايا تتصل بالدعوة إلى نشره والتحذير من كتمانه ، وبمطالبة أهله بأن يبذلوا ما في وسعهم للمحافظة عليه وصيانته.
وحتى يتيسر هذا وذاك ، فلا بد من اتباع الطرق التعليمية الناجحة التي تساعد على نشر العلم ونمائه وتطوره.
الطرق التعليمية
منذ القديم وطريقة التعليم تحتل مكانة مهمة في كل عملية تهدف إلى نقل المعلومات وتزكيتها واستخدامها ،فقد اهتم بها أصحاب المدارس التربوية والفلسفية ، فالمثاليون (59) لهم طريقتهم في التربية ولهم أساليبهم وذلك الشأن لمن وصفوا بالواقعية (60) ولمن عرفوا بالبراجمتيه (61) وغير هؤلاء وأولئك منتشرة طرقهم في كتب تاريخ التربية وفلسفتها.
ومما يلفت النظر أن الذين تحدثوا عن الطرق التربوية الإسلامية غاب عنهم أن يعودوا إلى الأحاديث النبوية ، وأن يستقرئوها ويحللوها ويستمدوا منها الأساليب والوسائل التي أتبعها الرسول صلى الله عليه وسلم وهو ويعلم جيل الصحابة ليخرجهم من ظلام الأمية إلى نور العلم وحلاوة الإيمان ،غاب عن مؤرخي التربية الإسلامية أن السنة النبوية وهي التي نزلت نصوص القرآن الكريم إلى الواقع العلمي قد سلكت طريقة تربوية لها أسسها التي يميزها عن غيرها من الطرق.
أسس طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم التعليمية :
إلى جانب اتصافها بكل ما يميز الرسول صلى الله عليه وسلم عن سائل البشر من وحي وعصمة غيرهما من صفات النبوة ، فإن في طريقته عليه الصلاة والسلام ج