وقفات مع حجـة الــوداعالحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن اتبع هديه وسار على نهجه إلى يوم الدين .. وبعد ..
فتسمى حجة النبي صلى الله عليه وسلم التي حجها بعد أن فُرِضَ الحج على المسلمين باسم حجة البلاغ , وحجة الإسلام , وحجة الوداع ..
وسميت بحجة البلاغ ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام بلغ الناس فيها شرع الله في الحج قولا وفعلا , ولم يكن بقي من دعائم الإسلام وقواعده شيء إلا وقد بينه عليه السلام , فلما بين لهم شريعة الحج , ووضحه , وشرحه , أنزل الله عز وجل عليه وهو واقف بعرفة قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ "(1) ..
كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لخص في لقائه مع من حجوا معه تعاليم الإسلام ، كما يفعل المعلم المجد بعد فراغه من تدريس المنهج الدراسي لطلابه ، حيث يقوم بمراجعته سريعا ، وتلخصيه في نقاط عابرة لهم خلال حصة أو حصتين .
وسميت بحجة الإسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحج بعد مبعثه سواها ، وسميت بحجة الوداع لأنه صلى الله عليه وسلم ودع فيها من حضره من أصحابه ، وقال لهم : " أيها الناس إني والله لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد يومي هذا بمكاني " (2)..
استعداد رسول الله للحج بعد فرغه من استقبال الوفود العربية :
فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من استقبال وفود العرب , وبعث عماله إلى الأقاليم المختلفة بالجزيرة العربية , بعد أن دانت له عن آخرها , وأراد قبل وفاته أن يلتقي بالمسلمين في مؤتمر عام , يوضح فيه ما قد يخفى على الناس من أمور دينهم , ويجيب فيه عما يدور في أذهانهم من استفسارات عن الإسلام , ويعلمهم كيف تؤدى مناسك الحج التي لم يروها في صورتها العملية الكاملة من قبل , ويودعهم قبل رحيله إلى الملأ الأعلى ، فأعلن نيته في الحج للناس ليستعد من يريد الذهاب معه , ثم بعث إلى أمرائه ليعلموا الناس بذلك ، فقدم إليه بالمدينة بشر كثير , كلهم يلتمس أن يأتم به صلى الله عليه وسلم , وتهيأ للرحيل ، وخرج من المدينة لخمس ليال بقين من ذي القعدة , ومعه ما يزيد على مائة وعشرين ألف مسلم , غير الذين لحقوا به في الطريق وفي مكة , واصطحب معه نساءه كلهن معه .
بدء إحرام رسول الله للحج :
وسار صلى الله عليه وسلم بالناس حتى وصل إلى " ذي الحليفة " نزل فيه , وقبل أن يصلي الظهر اغتسل لإحرامه، ثم طيبته عائشة بيدها بذَرِيَرة وطيب فيه مِسْك، في بدنه ورأسه، حتى كان وبَيِصُ الطيب يري في مفارقه ولحيته، ومشط شعره , ووضع عليه مادة دهنية لزجة ؛ حتى لا يتشعث , ويظل على قوامه ؛ لأن الإسلام يأمر بالتجمل , والعبادات فيه تقوم على الطهارة والنظافة.
ثم لبس صلى الله عليه وسلم إزاره ورداءه، وصلي الظهر ركعتين، وقيل العصر ثم خرج، فركب راحلته , حتى إذا استوت به على البيداء حمد الله عز وجل , وسبح ثم قال : لبيك عمرة وحجا , وواصل سيره حتى قرب من مكة، فبات بمكان يسمى " ذو طُوَي"ثم دخل مكة بعد أن صلي الفجر , واغتسل من صباح يوم الأحد لأربع ليال خلون من ذي الحجة سنة 10هـ ..
تأديته لمناسك العمرة وذهابه إلى عرفة :
وقصد المسجد الحرام لأداء مناسك العمرة , فطاف بالبيت سبعا ، وسعي بين الصفا والمروة سبعا ، ولم يَحِلَّ ؛لأنه كان قارناً ( أي في نيته أن يجمع بين مناسك العمرة والحج معا ) ثم نزل بأعلى مكة عند الحَجُون ، وأقام هناك حتى خرج إلى منى في اليوم الثامن من ذي الحجة ـ وهو يوم التَّرْوِيَة ـ فصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر ـ خمس صلوات ـ ثم مكث قليلاً حتى طلعت الشمس، فأجاز حتى أتى عرفة، فوجد أصحابه قد نصبوا له القبة ( الخيمة التي يستظل بها ) بَنَمِرَة، فنزل بها، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته "القَصْوَاء " فركبها وسار حتى حلت أتي بطن الوادي، وقد اجتمع حوله مائة وأربعة وعشرون ألفا أو مائة وأربعة وأربعون ألفاً من الناس .
خطبته الجامعة بعرفة:
فقام فيهم خطيباً، وقال :"أيها الناس ! اسمعوا قولي ! فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً ، أيها الناس : إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم , كحرمة يومكم هذا , وكحرمة شهركم هذا , وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم , وقد بلغت , فمن كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها , وإن كل ربا موضوع , ولكن لكم رؤوس أموالكم , لا تظلمون ولا تظلمون.
وفي مثل تلك المواقف تختلف الأفهام ، وربما تعددت التفاسير لما يقال ، لذلك كان صلى الله عليه وسلم يختار من الألفاظ ما يرسخ اليقين في قلوب الناس ، ولذلك لم يكتف النبي صلى الله عليه وسلم بالتنبيه على حرمة دماء وأعراض وأموال المسلم ، وإنما أكد على حرمتها بالتشبيه بحرمة البيت الحرام والشهر الحرام ، كما نبه إلى أن تلك الحرمة غير مؤقتة بزمن ، وإنما هي سارية إلى يوم القيامة ( إلى أن تلقوا ربكم ) وعند حديثه صلى الله عليه وسلم عن حرمة الربا لم يقل : إن الربا موضوع ، وإنما قال : كل ربا موضوع ، لكي لا يترك لمتأول فرصة ليقول : إن بعض أصناف الربا حرام وبعضها حلال ، وعقب صلى الله عليه وسلم على ذلك بقوله : " قضى اللّه أنه لا رباً " ..
ثم جاء التطبيق العملي لذالكم التشريع : " وأن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله ( وقد كان العباس رجلا ثريا , يقرض التجار في الجاهلية الأموال بالربا , وبدأ به رسول الله ؛ ليعلم الناس أنه لا يجامل أحدا في الدين ولو كان أقرب الناس إليه)" .
وتحريم الربا يحد من أهم الإصلاحات الاقتصادية التي جاء بها الإسلام للبشرية , يعرف ذلك من تبحر أو تعمق في علم الاقتصاد ؛ ذلك لأن الربا يؤدي إلى كساد في مجالات العمل المختلفة , فالرجل المرابي بدلا من أن يستثمر أمواله ويفكر في ابتكار وسائل جديدة لذلك يكتفي بإقراض ماله للغير , كما أن الإنسان المقترض بالربا قد يضطر إلى البحث عن وسيلة يكسب بها الأموال الملزم بأدائها دون النظر لمشروعية هذه الوسيلة وأثرها على المجتمع .
كما أنه يقضي على مواهب كثير من الأفراد الذين لا يجدون من يمولهم , ويخشون من تراكم الفائدة الربوية عليهم , في حين أنهم لو اقترضوا الأموال من أصحابها بالمضاربة أو المشاركة العادلة في الربح والخسارة فسيقبلون على العمل باطمئنان .
وتكون أضرار الربا الاقتصادية أكبر إذا كان الاقتراض من أجل الحاجة المعيشية , لأن المقترض كثيرا ما يلجأ إلى أساليب غير سوية لتسديد الزيادات المتراكمة عليه ، أقلها السرقة والاختلاس ، أو بيع بعض مستلزمات حياته الأساسية ، كالمسكن وغيره , هذا فضلا عما يحدث من اختلال في طبقات المجتمع , وانتشار الجشع , وانعدام لروح التكافل بين أفراد المجتمع , وحالات المجتمعات الربوية تشير إلى ذلك .
ثم قال صلى الله عليه وسلم "ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع (3) يقول ابن تيمية : وهذا يدخل فيه ما كانوا عليه من العادات والعبادات، مثل دعواهم : يا لفلان ، ويا لفلان، ومثل أعيادهم، وغير ذلك من أمورهم . (4).
وخص النبي صلى الله عليه وسلم من بين أمور الجاهلية عادة الثأر فقال : " ...وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع " فقد ذهبت الجاهلية بعُبيّتها ، حيث لم يكن ثمة زاجر ولا رادع ، ولذلك لا يجوز أن يعاقب الإنسان على ما اقترفه فيها بعد إسلامه ، ولا أن يعير بذنوبه بعد توبته ..
وكان التطبيق العملي على ذلك هو قوله صلى الله عليه وسلم : " أن أول دمائكم أضع دم عامر بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب ( وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل ) فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
إن كثيرا من الأنظمة عند قيامها تضع من القوانين ما يبهر ، ولكن بعد قليل من وضعها يفاجأ المواطنون أن من وضعوها هم أول من خرج عليها ، ولذلك يستهين الناس بها ، أما رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ما من تشريع جاء به من عند الله سبحانه وتعالى إلا والتزم به ، وألزم به أسرته قبل أن يلزم به الآخرين .
وأكمل صلى الله عليه وسلم خطبته فقال : " ...أما بعد : أيها الناس ! فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً , ولكنه أن يطع فيما سوى ذلك , فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم " .
إن جزيرة العرب لن تعود ديار كفر بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا أمر قضاه الله سبحانه وتعالى ، وبقي على المسلمين أن يحفظوها من الموبقات ، ومما يتساهل فيه الناس من أمور المعصية والسماح للمنحرفين اللادينيين بنشر أفكارهم الضالة بين الناس أو السماح لغير المسلمين باستيطان تلك الديار وبناء معابدهم فيها ، وهي الأمور التي حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : " فاحذروه على دينكم ".
وتابع النبي صلى الله عليه وسلم خطبته قائلا :" أيها الناس ! إن النسيء( التلاعب بأيام الشهور , أو الشهور نفسها , وكانت العرب تبدل في الشهور ؛ ليتحايلوا على القتال في الأشهر الحرم ) زيادة في الكفر , يضل به الذين كفروا , يحلونه عاما , ويحرمونه عاما ؛ ليواطئوا عدة ما حرم اللّه , فيحلوا ما حرم اللّه , ويحرموا ما أحل اللّه , وأن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق اللّه السموات والأرض (أي رجعت الأيام على ما كانت عليه من قبل ) وأن عدة الشهور عند اللّه اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متوالية ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد : أيها الناس ! فإن لكم في نسائكم حقا , ولهن عليكم حقا , لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكن أحداً تكرهونه , وعليهن أن لا يأتين بفاحشة مبينة , فإن فعلن فإن اللّه قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع , وتضربوهن ضربا غير مبرح ( أي ضرب غير شديد قال عنه ابن عباس : بالسواك ونحوه ، والخبر في تفسير القرطبي : 5 / 245) .
فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف , واستوصوا بالنساء خيراً ، فإنهن عندكم عوان , لا يملكن لأنفسهن شيئا , وإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه, واستحللتم فروجهن بكلمات اللّه ..".
وهذا المقطع من خطبته صلى الله عليه وسلم أعاد العلاقة بين الرجل وزوجته إلى أساسها السامي الذي فطر الله كلا منهما عليه , قبل أن تنحرف البشرية عن مجراها , هذه العلاقة التي تبين أن لكل منهما حقا على الآخر لا يجحد , وفي نفس الوقت لا يمكن أن يقوم به طرف دون الآخر , بمعنى أن حق الرجل على المرأة لا يمكن أن يقوم به الرجل , وحق المرأة على الرجل لا يمكن أن تقوم به المرأة ؛ لأنه يرتبط بطبيعة المرأة كما ارتبطت مهام الرجل بطبيعته وبنيته , وبمعنى أوضح أن الرجل والمرأة كقطبي المغناطيس ينجذب أحدهما تجاه الآخر , مادام أحدهما موجبا والآخر سالبا , ولو كانا موجبين فقط أو سالبين فقط ما تجاذبا ..
وأحسب ـ والله أعلم ـ أن هذا هو السبب الذي من أجله خلق الله المرأة الأولى " حواء " من ضلع زوجها "آدم " لتكون العلاقة بينهما علاقة الكل الذي لا يكمل إلا بباقي أجزائه , وهذا ما لا يفهمه دعاة المفاضلة أو التسوية بين الرجل والمرأة الآن.
وإذا كان الذين لا يعرفون الله قد انحرفوا عن هذه الحقيقة , فعجزت تشريعاتهم تحت ميول النفس عن الملائمة بين الطبيعتين فإن من عرف الله واهتدى يوقن أن ما جاء به نبي الإسلام راعى طبيعة الرجل والمرأة ، ولا ينحاز لجنس على الآخر , لأن نظرة الله للجنسين سواء , والجميع من خلقه , فلماذا إذن يفاضل بينهما ؟!
وإذا كان الرجل كسائر الذكور من المخلوقات الأخرى قد زيد في قوته , فما ذلك إلا ليسعى بها على رزق أنثاه " زوجته " وأولاده ، لا ليبطش بها عليهم , وإلا فهو خارج على قانون الله , وهذا ما حذر منه نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم .
وأهم ما في المقطع أنه بين الأمور التي ينبغي أن يعاقب فيها الرجل زوجته ، وهي أن تُدخل بيته أحدا يكره ( من غير المحارم ) أو أن تأتي بفاحشة بينة ، وما سوى ذلك من هفوات فينبغي للرجل أن يغفره لزوجته مقابل ما تقوم به من رعاية شأنه وشأن بيته وأولاده .
كما أنه صلى الله عليه وسلم نبه إلى أنه إن حدث خصام ( هجر ) فينبغي أن يكون داخل الدار ، ولا يضطر المرء زوجته لأن تغادره ، فبقاؤها في البيت في فترة الخصام سيجعل حركة البيت قائمة لا تتوقف ، ومصالح الأولاد لا تتعطل ، كما أن إشعار المرأة بوجود زوجها بجوارها وهو لا يقربها يجعلها تحس بالذنب ، وفوق ذلك فإن بقاء المرأة في البيت يجعل الخصومة محصورة بينهما لا يتدخل فيها طرف ثالث فيفسد علاقتهما .
ولو التزم المسلمون بذلك ما احتجنا للمحاكم الأسرية وغير الأسرية التي لم تزد الحياة الزوجية إلا تعقيدا .
ثم أكمل صلى الله عليه وسلم خطبته فقال "...فاعقلوا أيها الناس قولي, فإني قد بلغت , وقد تركت فيكم ما أن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً, أمرا بيناً, كتاب اللّه وسنة نبيه.
إن الأهواء قد تتعدد والمذاهب قد تتفرع ، والأمور قد تتشعب ، فيبتعد الناس عن أصول دينهم مع مرور السنين ، ويلتبس الحق بالباطل ، والمتشابه بالحكم ، ولذلك أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عند حدوث ذلك بترك كل الآراء والاجتهادات والعودة إلى كتاب الله وسنة نبيه ، فهما المصدر الذي لا يخالطه شك ، وعند العودة إليها تزول كل الاختلافات ، وتخمد كل البدع ، وتنمحي الضلالات .
وتابع النبي صلى الله عليه وسلم خطبته فقال : " أيها الناس ! اسمعوا قولي , واعقلوه , تعلمنّ أن كل مسلم أخ للمسلم , وأن المسلمين أخوة , فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه , فلا تظلمن أنفسكم" .
ولطالما حرص صلى الله عليه وسلم من قبل على تأكيد رابط الأخوة بين المسلمين ، وتعددت أحاديثه التي تبين أن المسلم أخو المسلم ، ولكني أحسب أن تلك هي المرة الأولى التي يستخدم النبي صلى الله عليه وسلم عبارة " كل المسلم أخ للمسلم " كأنه صلى الله عليه وسلم كان يلمح إلى أن المسلمين ستتباعد بها الديار ، وتقام الحواجز بين الدول الإسلامية ، وينظر أبناء كل دولة إلى الآخرين على أنهم من سكان دولة أخرى ، وبالتالي لا يلزمهم نصرتهم ولا مساعدتهم ، فحذر صلى الله عليه وسلم من ذلك ، وقضى على فكرة المواطنة الضيقة بتلك العبارة المؤكدة " كل المسلم " .
وبعد ذلك انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الحديث عن موضوع السمع والطاعة لأمراء المسلمين ، فقال : " اسمعوا وأطيعوا ولو استعمل عليكم عبد أسود مجدع يقودكم بكتاب الله ، فاسمعوا وأطيعوا ( 5) .
وموضوع السمع والطاعة للأمراء من أهم الأمور دلالة على طاعة الله سبحانه وتعالى وحسن الإيمان والإخلاص، وهو أمارة على انتصار الإنسان على نفسه التي بين جنبيه التي غالبا ما تأنف من الخضوع لغيرها ، وهي السبيل الأول لاستقرار المجتمع المسلم ، ولذلك لم يغفل النبي صلى الله عليه وسلم الإشارة إليها .
ثم ختم خطبته بقوله صلى الله عليه وسلم : " اللّهم هل بلغت , فقال السامعون : اللّهم نعم , نشهد إنك قد بلغت , وأديت ونصحت , فقال بأصبعه السبابة يرفعها إلى السماء ويشير بها على الناس : اللهم اشهد! اللهم اشهد !اللهم اشهد !" (6) .
وفي رواية أخرى أنه قال : "إنكم مسئولون عني فما أنتم قائلون ؟ ". فقالوا: نشهد أنك قد بَلَّغت وأدَّيت ونصحت، فجعل يشير بأصبعه إلى السماء، وينكبها عليهم ويقول: "اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد". (7).
وفي رواية ثالثة أنه صلى الله عليه وسلم قال : " "ألا فليبلغ الشاهدُ الغائِبَ، لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض" (
.
وكم يأسف الإنسان عندما يرى أن تلك العبارة التي حذر فيها صلى الله عليه وسلم أمته من التقاتل فيما بينها ، التقاتل الذي هو بمثابة الكفر بعد الإسلام ، صار يحفظها ويرددها الصغار والكبار ، ورغم ذلك لا يكاد يمر يوم إلا ودماء المسلمين تنزف من التقاتل فيما بينهم !!.
ولم ينس صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ في خطبته من تلخيص تعاليم الإسلام الإشارة إلى دعوة غير المسلمين إلى الله عز وجل ، فتلك قضية لا تقل في الأهمية عن الانشغال بمصالح المسلمين الداخلية ، يقول أبو أُمامة الباهليّ : شهدت خطبة رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم يوم حجة الوداع، فقال قولا كثيرا حسنا جميلا وكان فيها: "مَن أسْلَمَ مِن أهْل الكتَابَيْنِ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ، وَلَهُ مِثْلُ الَّذي لَنَا، وَعَلَيْهِ مِثْلُ الَّذي عَلَيْنَا، وَمَن أسْلَمَ مِنَ المُشْركينَ فَلَهُ أجْرُهُ، وَلَهُ الذيِ لَنا، وَعَلَيْهِ مِثَلُ الَّذي عَلَيْنا"(9).
بهذه الكلمات النابضة التي تلخص مبادئ الإسلام ودع النبي العطوف الذي فاض قلبه بالحب والحنان البشرية جمعاء , بعد أن قضى عمره في إرشادها إلى الخير , وإرشادها إلى ما فيه راحتها وسعادتها .
ثم صلى عليه الصلاة والسلام بعد فراغه من الخطبة الظهر والعصر جمع تقديم وقصر, ثم أقبل على ربه يدعوه ويكثر من ذكره , ويقول أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي :" لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير"(10) ..
ورفع يديه إلى السماء , وقال : " اللهم إنك تسمع كلامي , وترى مكاني , وتعلم سري وعلانيتي, ولا يخفى عليك شيء من أمري , أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المقر المعترف بذنبه , أسألك مسألة المسكين , وأبتهل إليك ابتهال الذليل , وأدعوك دعاء الخائف الضرير , من خضعت لك رقبته , وفاضت لك عبرته , وذل لك جسده , ورغم لك أنفه , اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقيا , وكن بي رءوفا رحيما , يا خير المسئولين , ويا خير المعطين" (11) .
هذه الكلمات التي تحمل كل معاني التذلل إلى الله سبحانه وتعالى لو خرجت من فم رجل عاص لتقبلها الله عز وجل ، فكيف وقد خرجت من فم النبي صلى الله عليه وسلم الذي وهب كل حياته وما يملك لله سبحانه وتعالى ثم أتبع ذلك كله بإخلاص تام ، ولذلك لا نعجب أن جاءت الإجابة الفورية لدعائه وقبل أن يغادر مكان دعوته ..
يقول أحد الصحابة :" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة , يداه إلى صدره كاستطعام المسكين , ودعا لأمته بالمغفرة والرحمة , فأكثر الدعاء , فأوحى الله إليه:" إني قد فعلت , إلا ظلم بعضهم بعضا , وأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها, فقال : يا رب إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خير من مظلمته , وتغفر لهذا الظالم , فلم يجبه تلك العشية , فلما كان غداة المزدلفة , أعاد الدعاء , فأجابه الله تعالى إني قد غفرت لهم , فتبسم صلى الله عليه وسلم , فقال له بعض أصحابه : يا رسول الله تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها , فقال : تبسمت من عدو الله إبليس , إنه لما علم أن الله عز وجل قد استجاب لي في أمتي , أهوى يدعو بالويل والثبور , ويحثو التراب على رأسه (12) ..
إن الدعاة إلى الله السائرين على نهج النبي صلى الله عليه وسلم الآن كثيرون ، ولا يشكك أحد في عزيمة الأكثرية منهم ، ولكن مَن مِن هؤلاء الدعاة يظل منشغلا ليل نهار بأمر المغفرة لمن يدعوهم إلى الله ، ومن منهم يتذلل إلى الله سبحانه وتعالى بعد الفراغ من دروسه ووعظه وخطبه ودعوته بمثل هذا الدعاء الذي دعا به النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من خطبته ؟ الجواب أتركه لكل واحد ليجيب عليه بنفسه ، ولا استثني نفسي من ذلك فقد أكون أكثرهم تقصيرا ..
وفي تلك الساعات المباركات أنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى " الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا "(13).
لقد أتم الله الدين بنزول تلك الآية ، فلا مكان بعدها لبدعة ، ولا حجة لمبتدع ، وقد رضي الله سبحانه وتعالى للمسلمين بأن يتعبدوا بكل ما أنزل عليهم ، فلا يجوز لهم الزيادة عليه ، كما لا يجوز لهم النقصان ، فكما أن الزيادة في الدين بدعة يضل بها صاحبها ويهوى بها في النار ، فكذلك نقصان الدين بترك أمر من أوامره أو شريعة من شرائعه بدعة تستوجب لصاحبها النار إن لم يتب منها ، وهذا ما أوضحه الله عز وجل في قوله تعالى : " أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ " (14).
واليوم الذي يكمل الله فيه دينه للمؤمنين وهديه للناس لابد أن يكون أفضل الأيام , لذا حث صلى الله عليه وسلم على الإكثار من العمل الصالح فيه ، وقال عن صيامه : "صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية" وقال عن الدعاء فيه : " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة ..." وقال: "ما من يوم أكثر أن يعتق الله فيه عددا من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يباهي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء " (15).
إفاضته من عرفة إلى مزدلفة :
وعند غروب شمس هذا اليوم المبارك التفت إلى الناس وقال صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس إن الله تطول عليكم في هذا اليوم , فغفر لكم إلا التبعات فيما بينكم , ووهب مسيئكم لمحسنكم , وأعطى محسنكم ما سأل , فادفعوا بسم الله "(16) .
فتحرك الناس ولما رآهم صلى الله عليه وسلم يتدافعون في السير قال : "أيها الناس السكينة السكينة " ونهاهم عن التزاحم والاستعجال حتى لا يؤذي بعضهم بعضا , وشد هو زمام ناقته , فكان إذا وجد فسحة سمح لها بالمسير , وإذا وجد تزاحما أوقفها , وسار حتى إذا جاء مزدلفة نزل عند المشعر الحرام , فجمع بين الصلاتين المغرب والعشاء .
إن من يقبلون على رحمة الله سبحانه وتعالى أجدر بهم أن يلزموا السكينة في حركاتهم وسيرهم ، وأن يحرصوا على عدم التزاحم ؛ كي لا يؤذي بعضهم بعضا ، وإذا ما أسقط التعب أو الهزال أحدهم أثناء السير ينبغي أن تتوقف حركة سير الجميع مهما طال الوقت ليتمكن المسعفون من إسعافه ، وليعلم الجميع أن رحمة الله لن تتنزل عليهم إلا إذا تراحموا في مثل هذا الموقف .
ومن تعلم الرحمة في موقفه هذا وحرص على عدم مزاحمة وأذية إخوانه لا بد أن يعود بهذا الخلق وذالكم السلوك إلى مجتمعه بعد الفراغ من حجه ، ويحرص على التأدب به ، ولو حصل ذلك فستصير بلادنا الإسلامية ـ إن شاء الله ـ من أكثر بلدان العالم نظاما وهدوءا .
مبيته صلى الله عليه وسلم بمزدلفة :
وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مزدلفة ، وهناك بات بها حتى طلع الفجر , فقام وتوضأ وصلى الصبح , وركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام ( جبل صغير بمزدلفة , وهو المذكور في قوله تعالى " فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عن المشعر الحرام") فاستقبل القبلة فدعا الله عز وجل , وكبره , وهلله, ووحده , ولم يزل واقفا حتى أسفر جدا , ودفع إلى منى قبل أن تطلع الشمس ؛ لرمي جمرة العقبة صباح يوم العيد , وقد أخذ معه الحصى من مزدلفة .
أفعاله يوم النحر :
ثم انطلق صلى الله عليه وسلم ملبيا حتى أتى جمرة العقبة بمنى يوم النحْرِ , فرماها وهو على ناقته ( وجمرة العقبة هي المكان الأول الذي تعرض فيه إبليس ـ عليه لعنة الله ـ لنبي الله إبراهيم ـ عليه السلام ـ وأراد أن يغريه بعم الانصياع لأمر الله تعالى , فرماه إبراهيم بسبع حصيات , ثم تعرض له عند الجمرتين الأخريين , فرماه في كل واحدة بسبع أيضا , فصارت سنة متبعة للمؤمنين بالله بعده , ونسكا من مناسك الحج) .
وبعد فراغه صلى الله عليه وسلم من الرمي استقبل القبلة ، ودعا الله سبحانه وتعالى , وأقبل على ما معه من هدي فذبحه , ثم أكل من كل بدنة قطعة هو ومن معه , وترك الباقي لفقراء مكة وما حولها ..
وقد ذكر العلماء أن ما حول مكة يمتد ليشمل كل فقراء العالم , وقد ذكر بعضهم أنه يجوز أن يُقدم ثمن الهدي نقودا إذا لم يتيسر الذبح , أو لم يوجد من يأكله بجوار الحرم الشرف .
ثم دعا صلى الله عليه وسلم الحلاق ، فحلق شعر رأسه ، وأخذ من شاربه وعرضيه ، وقلم أظفاره ، وأمر بشعره وأظفاره أن يدفنا.
ثم اغتسل وتطيب بعد أن حلق, وغير ملابس الإحرام , ثم جلس للناس , ليجيب عن استفساراتهم , وقلما سئل يومئذ عن شيء قدم أو أخر إلا قال : " افعلوا ولا حرج " .
فقد جاءه رجل فقال : يا رسول حلقت قبل أن أنحر ، فقال : " انحر ولا حرج " وجاءه رجل ثان فقال : يا رسول الله نحرت قبل أن أرمي ، قال : " ارم ولا حرج " ..
فليفقه كل من يريد الحج هذا العام تلك الأمور ، وليقتدِ وعاظ الحجيج برسول الله صلى الله عليه وسلم في التيسير على الناس أثناء إرشادهم ..
ثم بعث النبي صلى الله عليه وسلم مناديا ينهى الناس عن الصوم في أيام منى إلا المتمتع ( الذي جمع الحج مع العمرة مع التحلل بعد الفراغ من عمرته ) أو المحصر ( الذي منعته الظروف من الوصول إلى مكان الحج لأداء مناسكه ) وكان مناديه يقول : "أَيّهَا النّاسُ إنّ رَسُولَ اللّهِ قَال: " إنّهَا أَيّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَذِكْرُ اللّه " (17).
ثم أفاض صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام ؛ ليطوف بالبيت طواف الإفاضة , وبعد فراغه من الطواف أتى زمزم فشرب منها , وصب على رأسه من مائها .
مبيته بمنى أيام التشريق :
وبعد ذلك عاد صلى الله عليه وسلم إلى منى مرة أخرى ؛ ليبيت فيها كما أمر الله سبحانه في قوله تعالى :" وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ "(18) .
وهذه الأيام الثلاث يقضيها المسلم في ذكر الله , أو تعلم العلم وسماعه , أو التعرف على المسلمين الذين وحدهم الإسلام رغم اختلاف ألوانهم وألسنتهم وجنسياتهم , فإذا جاء موعد رمي الحصى ذهب لرميه , مبتعدا عن الزحام , وما يضر الناس , ولا يستخدم إلا الحصى الصغير , فقد كان صلى الله عليه وسلم يقول : "ارْمُوا بِمِثْلِ هذه " وكان أزواجه يرمين مع الليل تجنبا للزحام .
وأثناء إقامة النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الأيام جاءته بعض أموال الصدقة فشرع يقسمها بين الفقراء حوله فجاءه رجلان فسألاه منها ، فرفع فيهما البصر وخفضه ، ثم قال : « إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغنيّ ولا لقويّ مكتسب »(19 ) .
ونذكر بذلك المتسولين دون حاجة ، ومن يذهبون فقط إلى موسم الحج لاستعطاف الحجيج وأخذ أموالهم ، ومن يقومون باستئجار أصحاب العاهات ويسفرونهم إلى مكة ليجمعوا بهم الأموال دون وجه حق ، أذكرهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم هذا ؛ لعلهم يتقون الله ولا يكونون عبئا ثقيلا على حجاج بيت الله الحرام
استعداد رسول الله للعودة إلى المدينة بعد فراغه من مناسك الحج :
وبعد مضي الأيام الثلاث بمنى , رجع صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام ، فطاف به سبعا ، طواف الوداع , واستعد للعود إلى المدينة المنورة , وسأله سائل عن الإقامة بمكة بعد الفراغ من أداء المناسك فقال : "إنّمَا هِي ثَلاثٌ يُقِيمُ بِهَا الْمَهَاجِرَ بَعْدَ الصّدْرِ " ولم يرخص له أن يقيم إلا ثلاثة أيام ، وقال : " إنّهَا لَيْسَتْ بِدَارِ مُكْثٍ وَلا إقَامَةٍ " (20).
ولعله قصد من ذلك ألا يضيق على أهل مكة ، وأن تقل بها الأرزاق ، وترتفع بها الأسعار نتيجة تكاثر الناس بها ، فإذا ما أمنت الأرزاق ، وتوفرت في مكة كل احتياجات الناس كما يحدث الآن ، فلا بأس أن يتأخر الحاج بها أكثر من ثلاث حتى يحين ميعاد سفره آمنا .
وقد مرض سعد بن أي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قبيل رحيله , فذهب رسول صلى الله عليه وسلم ليزوره , فلما دخل عليه قال سعد : يا رسول الله قد بلغ بي ما ترى من الوجع ، وأنا ذو مال ولا يرثني إلا ابنة لي، فَأتصدق بثلثي مالي ؟ قال : "لا" قَال : فالشطر ؟ قال : " لا " فقال : " الثّلُثُ وَالثّلُثُ كَثِيرٌ، إنّك أَنْ تَتْرُكْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَتْرُكَهُمْ عَالَةً يَتَكَفّفُونَ , وَإِنّك لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِى بِهَا وَجْهَ اللّهِ إلاّ أُجِرْت بِهَا، حَتّى مَا تَجْعَلُ فِي فِيّ ( فم ) امْرَأَتِك"(21) .
ووضع صلى الله عليه وسلم يده على صدر سعد ثم قال : "إنّك رَجُلٌ مَفْئُودٌ ( أي مصاب بمرض القلب ) فَائِت الْحَارِثَ بْنَ كَلَدَةَ أَخَا ثَقِيفٍ، إنّهُ رَجُلٌ يُطَبّبُ ( يعالج ) فَمُرْهُ فَلِيَأْخُذْ سَبْعَ تَمَرَاتٍ مِنْ عَجْوَةِ الْمَدِينَةِ فَلْيَجَأْهُنّ بِنَوَاهُنّ - أَىْ يَدُقّهُنّ - ثُمّ لْيُدَلّكْكَ بِهِنّ" ففعل له الرجل ذلك وشفي سعد حتى فتح كثيرا من بلاد العراق , وأنجب أولادا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع إن رسول الله شخص داء سعد , كما أنه كان مجاب الدعوة , وقد دعا للكثيرين بالشفاء فشفوا , إلا أنه آثر أن يحيله على الطبيب بعد أن أعلمه أن شفاء الله سيتم على يديه ؛ ليعلم المسلمين أن كون الإنسان مؤمنا بالله لا يمنعه من الأخذ بأسباب الشفاء , واستشارة أهل المعرفة بالطب.
دعاء رسول الله عند عوده من سفره :
ولما بدأ صلى الله عليه وسلم سيره من مكة كبر ثلاثا ثم قال : "لا إلَهَ إلاّ اللّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، يُحْيِى وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَىّ لا يَمُوتُ، بِيَدِهِ الْخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ تَائِبُونَ، سَاجِدُونَ عَابِدُونَ، لِرَبّنَا حَامِدُونَ، صَدَقَ اللّهُ وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ، اللّهُمّ إنّا نَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ، وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ، وَسُوءِ الْمَنْظَرِ في الأَهْلِ وَالْمَالِ، اللّهُمّ بَلّغْنَا بَلاغًا صَالِحًا نَبْلُغُ إلَى خَيْرِ مَغْفِرَةٍ مِنْك وَرِضْوَانٍ (22) .
وبعد عودته صلى الله عليه وسلم أبطل الطقوس التي كان العرب يمارسونها بعد حجهم باسم الدين ، فقد جاء في تفسير الطبري أن ناسا من العرَب كانوا إذا حجُّوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ، كانوا يَنقبون في أدبارِها، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم ، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل، قال: يا رسول الله، إني أحمس! - يقول: إنّي محرم - وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون"الحُمس"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أيضا أحمس! فادخل ، فدخل الرجل، فأنزل الله تعالى ذكره:"وأتوا البيوت من أبوابها"(23).
وما أكثر العادات التي توارثها الناس باسم الدين في موسم الحج ، ومن بينها كتابات الشعارات على وجهات المنازل لتعلم الغير بأنهم قد حجوا ، والحرص على التسمي بلقب "حاج " والإسراف في جلب المشتريات من مكة والمدينة باسم الهدايا ، تلك المشتريات التي أكثرها لعب ومنتجات صينية تستنزف موارد المسلمين ، وهي تافهة لا تقدم ولا تؤخر ، وتتلف قبل أن يمر عليها ساعات معدودات ، والكثيرون الآن يتعللون بتأخير فريضة الحج لقلة النفقة ، مع إن ثلث تلك النفقة أو أكثر قد تضيع في تلك الهدايا والمشتريات التي نحن في غنى عنها .
وفي ختام تلك الوقفات أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لما يحب ويرضى ، وأن ييسر أداء فريضة الحج لكل من اشتاق إلى أدائها .
منقول