هويدا رأفت الجندى مراقب عام
عدد الرسائل : 4821 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 10157 ترشيحات : 11 الأوســــــــــمة :
| موضوع: المقارنة بين الشعر والنثر. 13/9/2009, 19:07 | |
| المقارنة بين الشعر والنثر.
وُجِدَ فن النثر في مرحلة مُبكّرة من تاريخ البيان العربي، ومنذ العصر الجاهلي أخذ الكلام الفني المنثور، على شكل قصص، وحِكم في التطور، بدءاً بالمرحلة الإسلامية، حيث اتخذ شكل خُطَب ورسائل تُمليها ظروفٌ موضوعية، لعلّ أبرزها تنافس الأحزاب على الخلافة، إلى العصر العباسي؛ حيث يزدهر فن النثر، ويشملُ جوانب الفكر والشعور، وينطوي على أغنى المضامين وأكثرها تعدّداً وتشعّباً، نتيجةً للحيوية والتجدّد اللذين شهدتهما الحياة العقلية والوجدانية العربية، ونتيجة تصاعد مكانة الكاتب الناثر، وتحولات الثقافة العربية التي أفرزت مصطلح "صناعة الكتابة" إلى جانب مصطلح "صناعة الشعر".
وقد دفعت رغبةُ قويةُ، في تأكيد أصالة النثر الفني في التراث الأدبي العربي الدكتور زكي مبارك إلى اتخاذ القرآن الكريم دليلاً على وجود نثر فني جاهلي؛ إذ إنّ نثراً يستحق كلَّ الاهتمام أُهمِلَ معْظم الإهمال من حركة النقد، التي انصرفت انصرافاً، يكاد يكون كُلّياً إلى الشعر، وذلك بسبب اعتقاد ساذج، هو أنّ النثر أداة أقرب إلى التعبير عن أغراض علمية، وسياسية ودينية، منها إلى التعبير عن الغرض الفني الأدبي، الذي استأثر الشعر بتناوله حسب النقد القديم، وإنّ ضآلة حظ النثر من الاهتمام، في تراثنا النقدي القديم، مقارنة بحظ الشعر، دفعت نُقّاداً معاصرين إلى التنبيه على قلّة الاهتمام النقدي عامةً بالنثر، على نحو ما فعل الدكتور مصطفى ناصف حين قال.: "إنّ حقائق النثر العربي ما تزال مطويّة، وإنّ جدلاً ذهنيّاً خصباً متنوع المظاهر يحتاج إلى من يتتبعّه، وإذ ذاك تتغير مُقرّرات كثيرة"، ومن ثمَّ أُهمِلَ التطور الهائل الذي أصابَ لغة النثر، حين ارتبطت التجربة الشخصية بقدرة ذهنية على التعبير لا مثيل لها.
هناك حقيقة نقدية مهمّة هي تهميش فن النثر في النقد العربي القديم؛ لأنّ الثقافة الرسمية السائدة كانت مرتبطة أشدّ الارتباط بالشعر، ما دفعَ النقّاد إلى المقارنة بين الشعر والنثر، فانقسموا فريقين: الأول يُفضِّلُ الشعر، والثاني يُفضِّلُ النثر، ويُقدِّمُ كل فريق براهينه لإثبات تفضيله.
يُعدُّ أبو حيّان التوحيدي أحدَ أهم النقّاد الذين تناولوا قضية العلاقة بين الشعر والنثر، حيث أثار معاصريه من النقّاد لمناقشتها إذ رأى أنّ منشأ هذه المشكلة فلسفي الطابع، ولاحظَ أنّ الذين يُفضِّلون الشعر على النثر أكثر من الذين يفضِّلون النثر على الشعر، وعرض لآراء نقّاد من الفريقين، وللحجج والبراهين التي يسوقونها، لتأكيد صحة ما يرون، فالذين يُفضِّلون الشعر يُفضِّلونه من أجل أبرز مزيّة فيه؛ وهي الوزن، كأبي سليمان المنطقي الذي يرى أنّ النظمَ ممَّا تتقبّله النفس أكثر ممّا تتقبل النثر؛ ذلك لأنّ "النظم أدلُّ على الطبيعة، لأنّه من حيّز التركيب، والنثر أدلُّ على العقل، لأنّ النثر من حيّز البساطة، وإنّما تقبلنّا المنظوم بأكثر من تقُّبلِنَا المنثور لأنّا للطبيعة أكثر منّا بالعقل، والوزن معشوقٌ للطبيعة والحس".
أمّا الجاحظ فيُفضِّلُ الشعر على النثر، ويجعلُ مقاييسه مصدراً لقياس النثر، وهذا ما قرأه الدكتور عبد السلام المسدّي في مجمل نقد الجاحظ، وأوجزهُ قائلاً: "الجاحظ يكاد يجعلُ من الشعر رمزاً للخلق الأسلوبي الأوفى، لذلك نراه يخصُّ نقد النثر، ببعض المقاييس المُستقاة من خصائص الحياكة الشعرية؛ كأن يكون الكلام قائماً على الشمائل الموزونة، حتى يكتسبَ ميزة الإيقاع المقطعي، وهذا ما يُعلّلُ الوصية الفنيّة المبدئية: "إنْ استطعتم أن يكون كلامكم كله مثل التوقيع فافعلوا".
والمُظّفر بن الفضل العلوي كتبَ "نضرة الإغريض في نصرة القريض"، وفيه يُكرِّسُ خمسة فصول لوصف الشعر، وأحكامه، وتَبيّن أحواله، وأقسامه، وذكر آلاته؛ من بلاغة، ونحو، وفصاحة، وحقيقة، ومجاز، وما يجوز للشاعر، وما لا يجوز، وفَضْلِ الشعر، ومكانته في الحياة العربية،والمفاضلة بين الشعر والنثر، لينتهي من ذلك كُلّه إلى تفضيل الشعر ونصرته، وتعداد فضائله التي يمتاز بها عن النثر، يقول: "ومن فضيلة الشعر أنّ الكلام المنثور وإنْ راقت ديباجته، ورقّت بهجته وحَسُنَتْ ألفاظه، وعَذُبَتْ مناهله إذا أنشده الحادي، وأورده الشادي، ومدَّ به صوته المُطربْ، ورفعَ به عقيرته المنشد، لا يُحرِّكُ رزيناً، ولا يُسلّى حزيناً، ولا يُظهرُ من القلوب كميناً، ولا يُخَوِّنُ من الدمع أميناً، فإذا حُوِّلَ بعينه نظماً، ووُسمَ بالوزن وسماً، ولج الأسماع بغير امتناع".
فالمُظّفر يُفضّلُ الشعر على النَثر، لأنّ النثر يفتقر إلى عناصر تعودتها الذائقة الفنيّة العربية، ويملكها الشعر، وتكرّست بالنقد، هذه العناصر هي الإيقاع المُطربْ، الذي يُخاطبُ مشاعر السامعين فيُحرِّكُ ساكنهم، ويُسلّي حزينهم، ويكشفُ عن المُخبّأ في نفوسهم من فرحٍ أو حزن، وفي رأي المُظفّر لا يمكن للنثر أن يقوم بمثل هذا الدور الخطير، إلاّ إذا تخلّى عن هويته العقليّة، واستعار هوية الشعر العاطفية.
لقد كانت إحدى أخطر نتائج تفضيل الشعر على النثر، والفصل بينهما، انقسام النص الإبداعي إلى مضمون سابق وشكل لاحق، وإلى اعتبار المعنى محور اهتمام النثر، واللفظ محور اهتمام الشعر. لكنَّ طغيان الاهتمام بالشعر وتفضيله على النثر، لا يعني إهمال النقّاد القدماء للنثر إهمالاً مطلقاً، فقد قاربوا الكثير من القضايا النقدية المتعلّقة به، ووضعوها محلّ اهتمامهم، مثل أدب الرسائل، والخطب، والبلاغة النثرية، والمفاضلة بين الشعر والنثر، وتصنيف النثر، وتنافس الكتّاب في ميدان الكتابة النثرية؛ ولذلك يمكن القول: إنّ المقارنة بين الشعر والنثر قضية أفرزتها مستجدات ثقافية، شهدها العصر العباسي، فقد وُلِدَ فنٌ جديد هو فن الكتابة، الذي أتقنه كُتّابٌ مجيدون، ونافسَ النثرُ الشعرَ، والكاتبُ الشاعرَ، في ظلِّ ظروفٍ سياسية وفكرية، ولم يعد الشعر ـ وحده ـ يستوعبُ ضروبَ الجدل والحوار والتناظر، التي استجدّت حول قضايا عقليّة، وصوفيّة، وفلسفيّة.
فالنثرُ قسيم الشعر في الفنون الكتابية، والنثر لغة العرب وكلامهم. ويُجمع بعضهم على الأسبقية التاريخية للنثر، إذ يرون أنّ النثر ـ إبداعيّاً ـ أصلٌ للشعر، فالشعرُ قبلَ أن يكون نظماً هو كلامٌ منثور جمعَتْ أشتاتَهُ الصنعةُ الفنيّة، وحين يترددّ أنّ النثر هو الحديث اليومي، فهذا لا يعني الهبوط بالنثر إلى مستوى الحديث المألوف بين الناس؛ لأنّ مثل هذا الحديث أنتجَ أدبَ المحاورات، وإلى نوع الكلام المنثور ينتمي حديث الرسول (، وتنتمي بلاغةُ الأعراب والحكماء، لذلك نجدُ عدداً وافراً من النقّاد القدماء يُفضلّون النثر، فها هو ذا أبو عابد الكرخي ـ على سبيل المثال ـ يقول: "من شرف النثر أنّ الكتب القديمة والحديثة النازلة من السماء على ألسنة الرُسل بالتأييد الإلهي كلها منثورة مبسوطة". ويرى الكرخي ـ أيضاً ـ في أفضلية النثر على الشعر، أنّ النثرَ أصلُ الكلام، والنظم فرعه، والأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل، لكن لكلِّ واحدٍ منهما زائناتٌ وشائنات". ويُلِحُّ على أهم سبب يجعلُ من النثر الأشرف، وهو أنّ النثر لغة الكتب السماوية، فهي كلُّها "منثورة، مبسوطة، متباينة الأوزان، متباعدة الأبنية، مختلفة التصاريف، لا تنقاد للوزن وتدخل في الأعاريض، ومن شرف النثر أنّ الوحدة فيه أظهر، وأثرها فيه أشهر، والتكلّف منه أبعد، وهو إلى الصفاء أقرب"؛ فالكرخي يمدح النثر في شبهه بالكتب السماوية، وخاصة الشبه في ناحية تجسّد الوحدة الفكرية فيه، وبعده عن التصنّع الذي قد نجده في النظم فهو صناعي مأسور بالوزن، والقافية، وغيرها "وإذا كان باعث النظم الأول قبل العروض هو الذوق، فالذوق طباعي والطباعي هو مخدوم الفكر الذي هو منشأ النثر".
والمرزوقي أثار هو الآخر قضيّة المفاضلة بين النظم والنثر، في إطار محاولته تفسير ظاهرة موضوعية تتفرّع إلى ثلاث مشكلات؛ هي: تأخر الشعراء عن رتبة الكُتّاب، وقلّة المُترسلّين، وكثرة الشعراء. وذكر المرزوقي الأسباب التي أوجبت تأخّر الشعراء عن رتبة البلغاء، كما أوجبت أن يكون النثر أرفع شأناً من الشعر؛ وهي "الأول: أنّ ملوك العرب قبل الإسلام وبعده كانوا يتبجّحون بالخطابة والافتنان فيها، وكانوا يأنفون من الاشتهار بقرض الشعر، ويعدُّه ملوكُهم دناءة،، الثاني: أنهم اتخذوا الشعر مكسبةً وتجارة، والثالث: أنّ الإعجاز القرآني والحديث النبوي وقعاً في النثر دون النظم".
ثم ذكر المرزوقي السبب الخاص في قلّة المترُسلّين وكثرة المُفلقين، وهو أنّ "مبنى "الترسّل" على أن يكون واضح المنهج، سهل المعنى، مُتّسع الباع، واسع النطاق تدلُّ لوائحُه على حقائقه، وظواهرُه على بواطنه، إذا كان مورده على أسماع مفترقة من خاصيٍّ وعاميٍ، وأمّا مبنى الشعر فهو على العكس من جميع ذلك، لأنّه مبنيٌ على أوزانٍ مقدَّرةٍ، وحدود مُقسّمة، وقواف يُسَاقُ ما قبلها إليها". ولذلك فكُلُّ ما يُحمَدُ في الترسل ويُختار، يُذَمُّ في الشعر ويُرفض.
والقلقشندي أيضاً قارنَ بين المنظوم والمنثور، وفضّل المنثور، على الرغم من مزايا النظم وفضائله المتعدّدة؛ من وزنٍ، وقافية، وتوازن أجزاء، ومن مزيّةِ كونه ديوان العرب وكتاب تاريخهم، ووقائعهم، وسائر أحوالهم، فإنّ النثر حسب رأيه "أرفع درجة وأعلى رتبةً وأشرف مقاماً وأحسن نظاماً".
ويوردُ القلقشندي براهينه على هذا التفضيل، كمقارنته بين قول الإمام عليّ (كرم الله وجهه) "قيمةُ كُلِّ امرئٍ ما يُحسنه"، وما أنشده الشعراء في معناه، فأشار إلى انحطاط رتبة هذا القول حين وُظِفَّ في بيت شعر هو:
فيَا لاَئِمِي دَعْنِي أُغالِي بقيمتي * * * فقيمةُ كُلِّ الناسِ ما يُحسنونُه
وأوردَ شاهداً آخر على ما قال؛ وهو قول المتنبي في قلعة الحدث الحمراء:
وكانَ بِها مثلُ الجنونِ فأَصْبَحَتْ * * * ومِنْ جُثَثِ القتلى عليها تمائم
وقال القلقشندي عن نثر الوزير ضياء الدين بن الأثير للبيت السابق، وهو كأنما كان بها جنونٌ فبعث لها من عزائمه عزائم، وعلقّ عليها من رؤوس القتلى تمائم، "إنّه جاء في غاية الطلاوة"، فضلاً عن برهان آخر أورده القلقشندي يظهر في قوله: "وناهيك بالنثر فضيلةً أنّ الله تعالى أنزل به كتابه العزيز ونوره المبين، ولم يُنزِلْه على صفة نظم الشعر".
وأحصى النقاد قدماء ومحدثين فروقاً كثيرة تقوم بين الشعر والنثر؛ كالوزن والقافية، والبناء الخارجي، ولغة التعبير، وخصوصية القصيدة التي لا يمكن بأي حالٍ أن تتحول إلى خطبة أو رسالة، بعكس النثر الذي يمكن تحوَّلـه من فن إلى آخر، وفرق الموضوع، إذ تبدو أغراض النثر أكثر أهمية وجديّة من أغراض الشعر، وفرق الاستعمال الخاص للغة، وفرق الأسلوب، وفروق أخرى، لكنّها جميعاً لا تُلغي الاقتراب بين الشعر والنثر في جوانب معينة؛ كالموسيقى، والسجع، والاستجابة النفسية لكليهما، وتناسب الجمل.
ويُسجِّلُ د. صلاح فضل فرقين هما: فرق اللغة، وفرق طريقة التعبير؛ أمّا فرق اللغة، فلغة الشعر تتميز من لغة النثر بخصائص على مستويين؛ صوتي عروضي، ودلالي معنوي، ولذلك يرى في الشعر ذاته نوعين: شعر منثور يهتم بالمعنى مُغفِلاً الصوت، ونثر منظوم يهتم بالصوت والدلالة معاً، أمّا ما يتعلق بطريقةَ التعبير فسطر النثر يُعبّر عن الفكر بطريقة متتابعة من فكرة إلى أخرى، على شكل سلسلة مع تحفّظ واحد، هو أنّ حلقات السلسلة واحدة، بينما عناصر الفكر مختلفة أمّا أبيات القصيدة فتفتقر إلى هذا التتابع والترابط أحياناً.
وفي مجمل الموقف النقدي العربي من النثر، نجدُ أنّ النقّاد يسندون للإيقاع دوراً مهماً في تقريب النثر من الشعر؛ فالإيقاع هو الأساس الفنّي المحوري، وطرق تطبيقه أو استخدامه تختلف بين الشعر والنثر وأنواعهما، وحضوره أو غيابه في العمل الأدبي، هو المقياس الوحيد للكلام ليكون فنيّاً أو غيرَ فنّي؛ ولذلك نجدُ تقسيمات النقّاد لعموم النثر تكاد تنحصر في نوعين:
النثر العادي: وهو الذي يُبلغُ معاني منطقية بأدّق الألفاظ المختارة نحويّاً، من غير أدنى اهتمام بالجانبَ الصوتي (الإيقاع).
النثر الفني: وهو الذي يُعنى باللفظ، والتركيب؛ نحويّاً وصوتياً، لتكون لـه في النهاية صياغة إيقاعية موسيقية ملائمة.
بإزاء النقّاد الذين يُفضلّون الشعر على النثر، والنّقاد الذين يُفضلّون النثر على الشعر، نجدُ فريقاً ثالثاً يساوي بين الشعر والنثر، مستندين إلى فكرة رئيسية هي البناء، فالشعر والنثر متساويان في أنّ لكليهما بناءً يعتمدُ على التوزيع الشكلي؛ فمثلما تنقسمُ القصيدة إلى أبيات ينقسم النص النثري إلى فقرات.
يرى العسكري أنّ "المنظوم مثل المنثور في سهولة مطلعه، وجودة مقطعه، وحُسن رصفه وتأليفه، وكمال صوغه وتركيبه؛ لأنّ الكلام يحسُن بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخيّرِ لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعهِ، ولينِ مقاطعهِ، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه، وتشبُّهِ أعجازه بهواديه، ومآخيره لمباديه"ويرى ـ أيضاً ـ أنّه "لا يحسن مَنثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجاً، ولا تكاد تجد لبليغٍ كلاماً يخلو من الازدواج".
أمّا حازم القرطاجني فيُشبِّه بناء النثر ببناء الشعر؛ فبناء الشعر يبدأ بالأبيات، فالفصول، فالقصائد، وهذا يُناظر في النثر بناء الحروف، فالكلم، فالعبارات. يقول: "اعلم أنّ الأبيات بالنسبة إلى الشعر المنظوم نظائر الحروف المُقطعّة من الكلام المؤلف، والفصول المؤلفة من الأبيات نظائر الكلم المؤلَفة من الحروف، والقصائد المؤتلّفة من الفصول نظائر العبارات المؤلّفة من الألفاظ. فكما أنّ الحروف إذا حَسُنَتْ حَسُنت الفصول المؤلّفة منها إذا رتبت على ما يجب كما أنّ ذلك في الكَلِم المفردة كذلك،وكذلك يحسُن نظم القصيدة من الفصول الحسان، كما يحسُن ائتلاف الكلام من الألفاظ الحِسَان إذا كان تأليفها منها على ما يجب".
ويبدو أنّ المساواة بين الشعر والنثر ـ عند القدماء ـ قائمة على تصّورٍ خاص يقول بتداخل الشعر والنثر، ويذهب إلى أنّ الشعرية، أو ما يمكن تسميته بالمستوى الفني العالي، يُحقّق للنص الأدبي وجوداً إبداعياً طالما توافر فيه، سواءٌ أكان شعراً أم نثراً. فابن طباطبا يرى أنّه "من الأشعار أشعار مُحكمة متقنة، أنيقة الألفاظ، حكيمة المعاني، عجيبة التأليف، إذا نُقِضَتْ وجُعِلَتْ نثراً، لم تبطل جودة معانيها ولم تفقد جزالة ألفاظها". فالإبداع قد يؤدي إلى توافر النثر في الشعر، والشعر في النثر. يقول ابن طباطبا: "الشعر كلامٌ منظومٌ، بانَ عن المنثور، الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خُصّ به من النظم الذي إن عُدِلَ به عن جهته مجّتهُ الأسماع، وفسدَ على الذوق. ونظمهُ معلومٌ محدود".
ومن الذين يساووَن بين الشعر والنثر أبو سليمان المنطقي، الذي يقول بتعادل فني الشعر والنثر، فلكلِّ منهما فضائل ومناقب، ولكلِّ منهما مثالب، ولإتقان كل فنٍ منهما هنَاك شروط، يقول: "وللنثر فضيلته التي لا تُنْكَر، وللنظم شرفه الذي لا يُجْحَد ولا يُسْتر؛ لأنّ مناقب النثر في مقابلة مناقب النظم، ومثالب النثر في مقابلة مثالب النظم، والذي لابُدّ منه هو السلامة والدقّة، وتجنب العويص، وما يحتاج إلى التأويل والتخليص".
أبو حيّان التوحيدي أيضاً يتبنى فكرة المساواة بين الشعر والنثر، إلى درجة المطابقة في الأهمية، والتوحيد في الأداء الفني، فالنظم والنثر يحتاجان إلى الإتقان والجودة، وشدّة تقاربهما تتجلّى بوضوح أكبر في الإيقاع والمحاكاة، وهذا ما كان يغلب على نثر القرن الرابع، ويُعبّر التوحيدي، عن هذا التقارب بالقول: "خير الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنّه نثر، ونثر كأنّه نظم، يطمع مشهوده بالسمع، ويمتنع مقصوده على الطبع".
إنّ قراءة النقد المُوجّه للشعر، والنثر، تكشفُ عن كون القواعد النقدية مشتركة في دراستهما معاً؛ فقواعد البلاغة التي تنطبق على الشعر تنطبق على النثر أيضاً، ويرى قدامة بن جعفر أنّ البلاغة مفهومٌ ينطبق على النثر، والشعر معاً، ويُعرّف البلاغة بأنّها "القول المحيط بالمعنى المقصود مع اختيار الكلام، وحُسن النظام، وفصاحة اللسان". فقُدامة يُوسّعُ مجال البلاغة، فمجالُها الكلام (القول)، ولا يُحدّده شعراً كان، أو نثراً بل يُحدّد مدى الإتقان، وحُسن الاختيار، وبراعة التأليف.
على الرغم من الاهتمام النقدي الموُجّه للنثر. ظلّ نقد الشعر طاغياً، كان نقد النثر موسوماً بضآلة حجمه، غيرَ مواكب لتطور النثر العربي الذي تناسب طرداً مع تطور الفكر العربي وتجدّده، بجوانبه العقلية، وخاصّة الفلسفية، والدينية، والأخلاقية، والوجدانية. حدث هذا التطور بسبب طبيعة الفكر النظرية غير المُقيّدة، والمفتوحة على المجهول الذي يتوق الإنسان إلى الإحاطة به، والنثر هو الأداة الأقدر من الشعر على مساعدة الإنسان، في محاولة تحقيق هذه الإحاطة؛ وذلك هو الفرق الجوهري بين الشعر والنثر، وهو فرق "التوصيل"، فالنثر هو أداة توصيل أفكار كبيرة، وحتى يكون هناك نثرٌ راقٍ لابُدّ من توافر شروط فنية، وموضوعية، وقد يتمتع كثير من الشعر بوزنٍ وقافية، ويخلو من أية قيمة فنية.
إذن فقد حلَّ النقد "القديم، والحديث "إشكالية المُفاضلة بين الشعر والنثر بالتوحيد بينهما، ومساواتهما جماليّاً؛ لأنهما لا يقفان على طرفي نقيض، بل يُكمّل أحدهما الآخر، ويقوم كل منهما بمهمته في الدرجة نفسها من الأهمية، فالفن السامي قد يكون شعراً، وقد يكون نثراً، فلَيسَ من نُقطةٍ حاسمة تحدّد نهاية الشعر وبداية النثر، أو العكس، وإذا كان ثمة خلاف بين الشعر والنثر، فهو خلافٌ كميٌّ وشكليّ، وليس خلافاً جوهريّاً. |
|
الوتر الحزين شخصيات هامة
العمر : 57 عدد الرسائل : 18803 بلد الإقامة : مصر احترام القوانين : العمل : الحالة : نقاط : 32784 ترشيحات : 121 الأوســــــــــمة :
| موضوع: رد: المقارنة بين الشعر والنثر. 13/9/2009, 20:57 | |
| |
|