شاع في الأذهان أن عمود الشعر مرتبط بالوزن و القافية وحدهما، و تعودنا أن نصف القصيدة بأنها عمودية، حينما تكون موزونة على أحد البحور الخليلية و مقفاة، لكن " المرزوقي" في مقدمة شرحه لديوان الحماسة، يرى في عمود الشعر شيئا أخرا، هذا الشيء جديد على الدارس للبلاغة المبتدئ بتعلمها، و إن كان متخصصا باللغة العربية لذلك ارتأى الباحث أن يقدم في هذا البحث تعريفا لعمود الشعر، و تبيينا لمفهومه و معانيه حتى يتسنى لدارس البلاغة تعلم عمود الشعر بيسر فيا ترى ما هو هذا الشيء الجديد الذي أتى به العلامة المرزوقي ؟لذلك دعونا نغوص في شرح العلامة المرزوقي الذي يرى بأن الشعر عند العرب له سبع خصال: " من لزمها بحقها و بنى شعره عليها فهو عندهم المفلق المعظم. و المحسن المقدم، و من لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم و الإحسان، و هذا إجماع مأخوذ به و متبع نهجه عند العرب" .
و الخصال السبع التي يستنتجها الباحث هي:
1—شرف المعنى و صحته.
2—جزالة اللفظ و استقامته.
3- الإصابة في الوصف، و يستشهد بقول عمر بن الخطاب في زهير – و كان يراه أفضل الشعراء –" كان لا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال".
4- المقاربة في التشبيه.
5- التحام أجزاء النظم و التئامه على تخير من لذيذ الوزن،
6- مناسبة المستعار منه للمستعار له،
7- مشاكلة اللفظ للمعنى و شدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما.
و أسوق إليك عزيزي القارئ نص العلامة المرزوقي الذي استنتج الباحث منه خصال عمود الشعر بأكمله فهو يقول الآتي:
"فإذا كان الأمر على هذا فالواجب أن يتبين ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب، ليتميز تليد الصنعة من الطريف، و قديم نظام القريض من الحديث، و لتعرف مواطئ أقدام المختارين فيما اختاروه، و مراسم إقدام المزيفين على ما زيفوه، و يعلم أيضا أن فرقا بين المصنوع و المطبوع، و فضيلة الآتي السمح على الأبي الصعب، فنقول و بالله التوفيق:إنهم كانوا يحاولون شرف المعنى و صحته، و جزالة اللفظ و استقامته، و الإصابة في الوصف، و من اجتماع هذه الأسباب الثلاثة كثرت سوائر الأمثال، و شوارد الأبيات، و المقاربة في التشبيه، و التحام أجزاء النظم و التئامها على تخير من لذيذ الوزن، و مناسبة المستعار منه للمستعار له، و مشاكلة اللفظ للمعنى و شدة اقتضائهما للقافية حتى لا منافرة بينهما فهذه سبعة أبواب هي عمود الشعر، و لكل باب منها معيار:
فمعيار المعنى أن يعرض على العقل الصحيح، و الفهم الثاقب، فإذا انعطف عليه جنبتا القبول و الاصطفاء، مستأنسا بقرائنه، خرج وافيا، و إلا انتقص بمقدار شوبه ، و وحشته.
و عيار اللفظ الطبع و الرواية و الاستعمال، فما سلم مما يهجنه عند العرض عليها فهو المختار المستقيم.و هذا في مفردته و جملته مراعى، لأن اللفظة تستكرم بانفرادها، فإذا ضامها ما لا يوافقها عادت الجملة هجينا.
و عيار الإصابة في الوصف الذكاء و حسن التمييز، فما وجداه صادقا في العلوق ممازجا في اللصوق، يتعسر الخروج عنه، و التبرؤ منه، فذاك سيماء الإصابة فيه.
و يروى عن عمر رضي الله عنه أنه قال في زهير:"كان لا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال ".فتأمل هذا الكلام فإن تفسيره ما ذكرناه.
و عيار المقاربة في التشبيه الفطنة و حسن التقدير، فأصدقه ما لا ينتقض عند العكس، و أحسنه ما أوقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما ليبين وجه التشبيه بلا كلفة، إلا أن يكون المطلوب من التشبيه أشهر صفات المشبه به و أملكها له، لأنه حينئذ يدل على نفسه و يحميه من الغموض و الالتباس.و قد قيل:"أقسام الشعر ثلاثة:مثل سائر، و تشبيه نادر، و استعارة قريبة ".
و عيار التحام أجزاء النظم و التئامه على تخير من لذيذ الوزن، الطبع و اللسان، فما لم يتعثر الطبع بأبنيته و عقوده، و لم يتحبس اللسان في فصوله و وصوله، بل استمرا فيه و استسهلاه، بلا ملال و لا كلال، فذاك يوشك أن يكون القصيدة منه كالبيت، و البيت كالكلمة تسالما لأجزائه و تقارنا، و ألا يكون كما قيل فيه:
و شعر كبعر الكبش فرق بينه لسان دعي في القريض دخيل
و كما قال خلف:
و بعض قريض الشعر أولاد علة يكد لسان الناطق المتحفظ
و كما قال رؤبة لابنه عقبة و قد عرض عليه شيئا مما قاله، فقال:قد قلت لو كان له قران.
و إنما قلنا على تخير من لذيذ الوزن لأن لذيذه يطرب الطبع لإيقاعه، و يمازجه بصفائه، كما يطرب الفهم لصواب تركيبه، و اعتدال نظومه.
و لذلك قال حسان:
تغن في كل شعر أنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار
و عيار الاستعارة الذهن و الفطنة، و ملاك الأمر تقريب التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبه و المشبه به، ثم يكتفي فيه بالاسم المستعار لأنه المنقول عما كان له في الوضع إلى المستعار له.
و عيار مشاكلة اللفظ للمعنى و شدة اقتضائهما للقافية، طول الدربة و دوام الدراسة، فإذا حكما بحسن التباس بعضهما ببعض، لا جفاء في خلالها و لا نبو، و لا زيادة فيها و لا قصور، و كان اللفظ مقسوما على رتب المعاني: قد جعل الأخص للأخص، و الأخس للأخس، فهو البريء من العيب.
و أما القافية فيجب أن تكون كالموعود به المنتظر، يتشوفها المعنى بحقه و اللفظ بقسطه، و إلا كانت قلقة في مقرها، مجتلبة لمتغن عنها.
فهذه الخصال عمود الشعر عند العرب، فمن لزمها بحقها و بنى شعره عليها، فهو عندهم المفلق المعظم، و المحسن المقدم، و من لم يجمعها كلها فبقدر سهمته منها يكون نصيبه من التقدم و الإحسان، و هذا إجماع مأخوذ به و متبع نهجه حتى الآن "
ففي كل عصر محاولات لفهم الشعر، و وضع القوانين التي ينبغي على الشعراء السير عليها، و التي من خلالها يميز الشعر من غيره، و يثري البحث في خصائص البلاغة الشعرية التي اختلف النقاد القدماء فيها، و في مقدمة ديوان الحماسة لأبي تمام يستعرض شارح الديوان أحمد بن محمد المرزوقي اختلاف النقاد العرب، ثم يعقب على ذلك بقوله فإذا كان الأمر على هذا فالواجب أن يتبين ما هو عمود الشعر المعروف عند العرب، ليتميز تليد الصنعة من الطريف، وقديم نظام القريض من الحديث.
فما هو عمود الشعر الذي يرى المرزوقي ضرورة معرفته؟
تعريف عمود الشعر:
النقد العربي القديم و منذ أواخر القرن الثاني الهجري في نظرته للشعر وضع قواعد شعرية انتظمت تماماً إبان القرن الثالث، كان يقصد منها ضبط الصناعة الشعرية، و مساعدتها على بلوغ مرتبة جمالية سامية، و وضع طريقة محددة المعالم لجودة النظم، هذه القواعد أو الطريقة المحددة المتمثلة عند العرب هي ما يسمى بعمود الشعر.
أما قبل أواخر القرن الثاني فجل ما وصلنا من النقد البلاغي السابق لم يخرج عن كونه نظرات أولية و عبارات مختزلة مبعثها ذوق أدبي فطري، كالذي يروونه، مثلاً عن عمر بن الخطاب أنه كان يفضل شعر زهير لخلوه من المعاضلة و الحوشية، أو كالذي يروونه عن نصيب أنه انتقد بيتا للكميت لأنه لم يراع فيه المؤاخاة بين الألفاظ.