أراد بالسماء المطر لقربه من السماء، وقال "رعيناه" والمطر لا يرعى، ولكن أراد النبت الذي يكون عنه، فهذا كله مجاز، وكذلك قول العتابي:
يا ليلة لي بجوارين ساهرةً *** حتى تكلم في الصبح العصافير
فجعل الليل ساهرة على المجاز، وإنما يسير فيها، وجعل للعصافير كلاماً، ولا كلام لها على الحقيقة، ويورد آيات من القرآن، من بينها قول الله تعالى: {واسأل القرية التي كنا فيها}، وقد اعتبر علماء البلاغة المتأخرون المثالين الأول والثالث من المجاز المرسل، والمثال الثاني، وهو "ليلة ساهرة" من المجاز العقلي، وهو يعزو دخول التشبيه تحت اسم المجاز إلى أن المتشابهين في أكثر الأشياء إنما يتشابهان بالمقاربة على المسامحة والاصطلاح، لا على الحقيقة.
معروف أن البلاغيين بعده، جعلوا المجاز علماً على الاستعارة والكناية والمجاز المرسل والمجاز العقلي، وأخرجوا التشبيه لأن ركنيه وهما المشبه والمشبه به حقيقيان.
من ذلك يتبين لنا أن ابن الرشيق لم يعرف المجاز بمعناه الاصطلاحي كما عرفه المتأخرون، ولم يتضح عنده، حيث أدخل فيه أمثلة من الاستعارة والكناية والتشبيه، ولكن على كل حال، وكما يرى الدكتور شوقي ضيف(17) "هذه أول نظرة دقيقة للباب، فقد كانت كلمة المجاز تلقانا قبله منذ الجاحظ دون تحديد دقيق لما تصدق عليه من صور البيان".
4. الاستعارة:
عد ابن الرشيق الاستعارة من البديع متابعاً في ذلك ابن المعتز وعقد لها باباً، استهله ببيان منزلتها قائلاً:(18) "الاستعارة أفضل أنواع المجاز، وليس في حلى الشعر أعجب منها وهي من محاسن الكلام إذا وقعت موقعها، ونزلت موضعها"، وقد نقل في هذا الباب تعريفات الاستعارة لدى القاضي الجرجاني وابن وكيع المصري وابن جني والرماني، وهو يعجب برأي ابن جني خاصة الذي يقول فيه: "الاستعارة لا تكون إلا للمبالغة وإلا فهي حقيقة" ويرتضي هذا الرأي مذهبا له فيقول: "وكلام ابن جني أيضا حسن في موضعه لأن الشيء إذا أعطى وصف نفسه لم يسم استعارة إلا أنه لا يحب للشاعر أن يبعد الاستعارة جدا حتى ينافر، ولا أن يقربها كثيرا حتى يحقق، ولكن خير الأمور أوساطها"، وهو يكشف السر في استعارة لفظ الشيء لغيره بقوله: "والاستعارة إنما هي من اتساعهم في الكلام اقتداراً ودالة، ليس ضرورة، لأن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم، وليس ذلك في لغة أحد من الأمم غيرهم، فإنما استعاروا مجازاً واتساعاً، ألا ترى أن للشيء عندهم أسماء كثيرة، وهم يستعيرون له مع ذلك؟"
ويؤخذ على ابن الرشيق في هذا القول ثلاثة أمور:
الأول: ادعاؤه أن الاستعارة تأتي في الكلام توسعاً وإظهاراً للاقتدار والدالة، والصواب أنها ضرورة لابد منها.
الثاني: زعمه أن ألفاظ العرب أكثر من معانيهم، وهذا لم يقل به أحد حتى من أولئك الذين تعصبوا للعرب ضد الشعوبية وزعيمهم الجاحظ الذي يقول(19): "إن حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ، لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وأسماء المعاني مقصورة معدودة ومحصلة محدودة".
الثالث: ذكره أن ذلك ليس في لغة أحد من الأمم غير العرب، فإن قصد بذلك كثرة الألفاظ عن المعاني فقد أخطأ لأن اللغات سواء في أن ألفاظها محصورة، والمعاني النفسية أو الكونية لا حصر لها، وإن كان يعني أن اللغة العربية انفردت بالاستعارة فقد أخطأ أيضاً، لأن أرسطو قرر منذ القدم أن الاستعارة أهم شيء في الشعر والنثر".
والسمة الواضحة لدى ابن الرشيق في باب الاستعارة هي عدم عنايته بالتعاريف والحدود، فهو يعرض للاستعارة عرضاً أدبياً ويبسط القول فيها، ويضرب لها أمثلة من القرآن والسنة والشعر القديم والحديث مع عنايته بالمقارنة بين الاستعارات في بعض الأحيان والمفاضلة بينها.
5. التمثيل:
كذلك عقد للتمثيل باباً قرر فيه أنه ضرب من الاستعارة، وقد تبع في دلالته قدامة، وقال(20): "إن بعضهم يسميه المماثلة، وهو إما يقصد أبا هلال أو خاله أبا أحمد اللذين سمياه بهذا الاسم، وهو أن تمثل شيئاً بشيء فيه إشارة، ومعناه اختصار قولك: مثل كذا وكذا وكذا". وقد نبه على أن التمثيل والاستعارة من التشبيه إلا أنها بغير آلته، وعلى غير أسلوبه، وأول من اخترع هذا اللون امرؤ القيس في قوله:
وما ذرفت عيناك إلا لتقدحي *** بسهميك في أعشار قلبٍ مقتل
فمثل عينيها بسهمي الميسر- يعني المعلى، وله سبعة أنصباء، والرقيب وله ثلاثة أنصباء- فصار جميع أعشار قلبه للسهمين اللذين مثل بهما عينيها، ومثل قلبه بأعشار الجذور، فتمت له جهات الاستعارة والتمثيل.
6. المثل السائر:
لذلك خصص باباً يقول فيه(21): "المثل السائر في كلام العرب كثير نظماً ونثراً، وأفضله أوجزه، وأحكمه أصدقه، ويضرب لذلك أمثلة منها قوله:
كل إلى أجل والدهر ذو دول *** والحرص مخيبة والرزق مقسوم
ومنها قولهم: "على أهلها جنت براقش" الذي يضرب للرجل يهلك قومه بسببه، ومعروف أن علماء البلاغة يدخلون المثل السائر في التمثيل أو الاستعارة التمثيلية(22)، يذهب ابن الرشيق إلى أن الأمثال في الشعر إنما هي نبذ تستحسن، ونكت تستظرف مع القلة، وفي الندرة، فأما إذا كثرت فهي دالة على الكلفة، وأنها وزنت في الشعر لتكون أشرد له، وأخف للنطق به، فمتى لم يتزن كان الإتيان بها قريباً من تركها". ويعجب مما حكاه الحاتمي قائلاً: "وقد حكى الحاتمي أشياء لا أدري كيف وجهها، وزعم أن حماداً الرواية سئل: بأي شيء فضل النابغة؟ فقال: إن النابغة إن تمثلت ببيت من شعره اكتفيت به، مثل قوله:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبةً *** وليس وراء الله للمرء مذهبُ
بل لو تمثلت بنصف بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: "وليس وراء الله للمرء مذهب"، بل لو تمثلت بربع بيت من شعره اكتفيت به، وهو قوله: "أي الرجال المهذب؟".
ويبدي ابن الرشيق رأيه في ذلك قائلاً: "ولا أعرف كيف يجعل حماد هذا ربع بيت، وفيه زيادة سببين وهما أربعة أحرف؟ إلا أن يريد التقريب، فهذا من الاحتياج، لأنه لا يتمثل به على أنه شعر إلا احتاج إلى ما قبله، واستغنى ما قبله عنه، ألا ترى أنه لو قال: "ولست بمستبق أخاً لا تلمه" أنه يكون مثلاً كافياً، ثم لا يتعلق قوله: "على شعث" بشيء من المثل الثاني، وإن بقي موزوناً، فإن رده على الصدر تعلق به، وبقي المثل الثاني مكسوراً".
7. التشبيه:
وفي باب التشبيه يضيف تعريفاً إلى تعريفات السابقين للتشبيه فيقول(23): "التشبيه صفة الشيء بما قاربه وشاكله، من جهة واحدة أو جهات كثيرة، لا من جميع جهاته، لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه، ألا ترى أن قولهم "خد كالورد" إنما أرادوا حمرة أوراق الورد وطراوتها، لا ما سوى ذلك من صفرة وسطه وخضرة كمائمه، فوقوع التشبيه إنما هو أبداً على الأعراض لا على الجواهر، لأن الجواهر في الأصل كلها واحد، اختلفت أنواعها أو اتفقت". ثم ينقل عن الرماني تقسيمه للتشبيه إلى تشبيه حسن، وهو الذي يخرج الأغمض إلى الأوضح فيفيد بياناً، وتشبيه قبيح وهو ما كان على خلاف ذلك، ويحكي عنه أنه أنشد لذي الرمة:
كأنه كوكب في إثر عفريت *** مسوم في سواد الليل منقضب
ثم قال: قد اجتمع الثور والكوكب في السرعة إلا أن انقضاض الكوكب أسرع، واستدل بهذا على جودة التشبيه، ويعقب ابن الرشيق على ذلك مستدركاً على الشاعر ومبينا ما أغفله المفسر، وعارضاً لوجهة نظره وما يراه بقوله: وأنا أرى أن فيه دركاً على الشاعر، وإغفالاً من الشيخ المفسر، وذلك أن الثور مطلوب والكوكب طالب، فشبهه به في السرعة والبياض، ولو شبهه بالعفريت وشبه الكلب وراءه بالكوكب لكان أحسن وأوضح، لكنه لم يتمكن له المعنى الذي أراده من فوت الثور الذي شبه به راحلته، وأما ما أغفله الشيخ فإن الشاعر إنما رغب في تشبيه الثور بالكوكب، واحتمل عكس التشبيه بأن جعل المطلوب طالباً لبياضه فإن الثور لهق لا محالة، وأما السرعة التي زعم فإن العفريت لو وصفه به وشبهه بسرعته لما كان مقصراً ولا متوسطاً بل فوق ذلك".
وينقل عن قدامة ما ذهب إليه من أن أفضل التشبيه ما وقع بين شيئين اشتراكهما في الصفات أكثر من انفرادهما، حتى يدني بهما إلى حال الاتحاد، وضرب مثلاً لذلك بما أنشده لإمريء القيس:
له أيطلا ظبى وساقا نعامة *** وإرخاء سرحان، وتقريب تتفل
فهذا تشبيه أعضاء بأعضاء هي هي بعينها، وأفعال بأفعال هي هي بعينها إلا أنها من حيوان مختلف، ويعلق ابن الرشيق على ذلك بقوله: "والأمر كما قال في قرب التشبيه، إلا أن فضل الشاعر فيه غير كبير حينئذ، لأنه كتشبيه نفي لشيئ المشبه الذي ذكره الرماني في تشبيه الحقيقة، وإنما حسن التشبيه أن يقرب بين البعدين حتى تصير بينهما مناسبة واشتراك كما قال الأشجعي:
كأنّ أزيزَ الكير إزرام شَخْبِها *** إذا امتاحها في مِحلب الحيِّ ماتحُ
فشبه ضرع العنز بالكير، وصوت الحلب بأزيزه، فقرب بين الأشياء البعيدة بتشبيه حتى تناسبت، ولو كان الوجه ما قال قدامة لكان الصواب أن يشبه الأشجعي ضرع عنزه بضرع بقرة أو خلف ناقة، لأنه إنما أراد كبره وكثرة ما فيه من اللبن، وكان يعدل عن ذكر الكير وأزيزه الذي دل به على عظم ما يكون من صفة كبر الضرع وكثرة لبنه".
هذا وقد فطن إلى أحوال طرفي التشبيه من ناحية الإفراد والتعدد وأورد أمثلة كثيرة لتشبيهات تعدد فيها طرفا التشبه، لا يزال علماء البلاغة يرددونها من بعده حتى العصر الحديث، يقول: "وأصل التشبيه مع دخول الكاف وأمثالها أو كأن وما شاكلها شيء بشيء في بيت واحد إلى أن صنع امرؤ القيس في صفة عقاب:
كأن قلوب الطير رطباً ويابساً *** لدى وكرها العناب والحشف البالي
فشبه شيئين بشيئين في بيت واحد. كذلك ينقل عن القاضي الجرجاني رأيه في التشبيه، وأنه يقع مرة بالصورة الصفة ومرة بالحالة والطريقة، ويعجب لنقده لبيت المتنبي:
بليت بلى الأطلال لم أقف بها *** وقوف شحيح ضاع في الترب خاتمه
حيث قصد الجرجاني إلى أن المتنبي إنما أراد وقوفاً خارجاً عن المتعارف إذ يعلق عليه ابن الرشيق بقوله: "فهذا والله هو النقد العجيب الذي غفل الناس عنه بل عموا وصحوا".
8. الإشارة:
أفرد ابن الرشيق للإشارة باباً تناولها فيه، فبين أنها(24) بلاغة عجيبة تدل على بعد المرمى، وفرط المقدرة، وليس يأتي بها إلا الشاعر المبرز، والحاذق الماهر، وهي في كل نوع من الكلام لمحة دالة، واختصار وتلويح يعرف مجملاً، ومعناه بعيد من ظاهر لفظه، ثم قسمها إلى عدة ألوان بلاغية هي: الوحي، التفخيم، الإيماء، التلويح، التمثيل، الرمز، اللمحة، اللغز، اللحن، "ويسميه المتأخرون المحاجاة لدلالة الحجا عليه"، الحذف، التورية، وقد أدخل ابن الرشيق في الإشارة التعريض في الكناية والتعمية، وهو في ذلك أدق من صاحب الصناعتين الذي أفرد عنها كثيراً من أقسام الكناية بينما كان ينبغي أن يسلكها فيها.
9. الكناية:
تناول ابن الرشيق مبحث الكناية عقب باب الإشارة وعالجه تحت اسم "التتبيع"، وأشار إلى أن التتبع نوع من الإشارة، وأن قوماً يسمونه التجاوز(25)، وهو "أن يريد الشاعر ذكر الشيء فيتجاوزه، ويذكر ما يتبعه في الصفة، وينوب عنه في الدلالة عليه، وأول من أشار إلى ذلك امرؤ القيس في قوله يصف امرأة:
ويُضْحِي فتيتُ المسكِ فَوقَ فراشِها *** نؤوم الضُحَى لم تَنتَطِق عن تَفَضُلِ