ابن قتيبَة في مُقدّمَة كتابه الشّعر والشعراء ـــ عيسى فتوح
كتب ابن قتيبة هذه المقدمة النقدية وكان قصده المشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جلّ أهل الأدب، ويقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب والنحو والقرآن والحديث.. أما من خفي اسمه وقلّ ذكره، وكسد شعره، وكان لا يعرفه إلا بعض الخواص فلم يذكره، لأن الشعراء المعروفين بالشعر في الجاهلية والإسلام أكثر من أن يحيط بهم محيط، ولو أنفق عمره في البحث عنهم، ولا يعتقد أن عالماً استطاع أن يستغرق شعر قبيلة بكامله، حتى أنه لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه، ولا قصيدة إلا رواها.
لم يسلك ابن قتيبة سبيل من قلد أو استحسن باستحسان غيره، ولا نظر إلى المتقدم بعين الجلالة لتقدمه، وللمتأخر من الشعراء بعين الاحتقار لتأخره، بل نظر بعين العدل إلى الفريقين وأعطى كلاهما حظه، ووفر عليه حقه، إذ رأى من العلماء من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله، ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين لأنه قيل في زمانه، أو رأى قائله، وحجة ابن قتيبة أن الله لم يقصر العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا قوم دون قوم، بل جعل ذلك كله مقسوماً بين عباده في كل دهر، وجعل كل قديم حديثاً في عصره.
وقد ذكر قول وفعل كل شاعر أتى بحسن وأثنى عليه دون أن يضعه عنده تأخرُ قائله أو فاعله، ولا حداثة سنه، ولذلك رفض كل شعر رديء، رغم شرف صاحبه وتقدمه.
يقسم ابن قتيبة الشعر إلى أربعة أقسام أو أضرب:
1 ـ ضرب منه حسن لفظه وجاد معناه كقول الفرزدق:
في كفه خيزرانٌ ريحُهُ عبقٌ *** في كفِ أروع في عرنينِهِ شممُ
يُغضي حياءً ويُغضى من مهابتهِ *** فلا يُكلّمُ إلا حين يبتسمُ
2 ـ وضرب منه حسن لفظه وحلا، فإذا فتشته لم تجد هناك طائلاً كقول جرير:
إن العيونَ التي في طرفها حَوَرٌ *** قَتَلْنَنَا ثم لم يُحيينَ قتلانا
يصرَعْنَ ذا اللبِ حتى لا حَراكَ به *** وهن أضعفُ خلقِ الله أركانا 3
ـ وضرب منه جاد معناه وقصرت الألفاظ عنه كقول لبيد:
ما عاتبَ المرءَ الكريمَ كنفسهِ *** والمرءُ يُصلحهُ الجليسُ الصالحُ4
ـ وضرب منه تأخر لفظه وتأخر معناه كقول الأعشى:
وفوها كأقاحيٍّ *** غذاهُ دائمُ الهطْلِ
كما شيب براحٍ با *** ردٍ من عسلِ النحلِ
ويرى ابن قتيبة أنه ليس لمتأخر الشعراء أن يخرج على مذهب المتقدمين، فيقف على منزل عامر، أو يبكي عند مشيد البنيان، لأن المتقدمين وقفوا على المنزل الداثر والرسم العافي، وليس له أن يرحل على حمار أو بغل ويصفهما، لأن المتقدمين رحلوا على الناقة والبعير، أو يرد على المياه العذبة الجواري لأن المتقدمين وردوا على الأواجن والطوامي، أو يقطع إلى الممدوح منابت النرجس والآس والورد لأن المتقدمين جروا على قطع منابت الشيح والحنوة والعرار، كما لا يجوز له أن يقيس على اشتقاقهم فيطلق ما لم يطلقوا.
ثم يذكر أن من الشعراء المتكلف والمطبوع: فالمتكلف هو الذي قوّم شعره بالثقاف ونقحه بطول التفتيش، وأعاد فيه النظر بعد النظر، كزهير والحطيئة، وكان الأصمعي يقول: "زهير والحطيئة وأشباههما من عبيد الشعر لأنهم نقحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين". وكان الحطيئة يقول: "خير الشعر الحولي المنقح المحكك"، وكان زهير يسمي كبرى قصائده "الحوليات".