مفاهيم إسلامية في رواية عذراء جاكرتا
بقلم سمير أحمد الشريف
يعدّ المرحوم نجيب الكيلاني واحدا من الذين تمكنوا من تطويع التاريخ للأدب بتوازن لم يطغ فيه أحدهما على الآخر مستلهما
مبدأ الإسلام الحنيف، وموظفاً مفاهيمه، وأصبح يشار له كمؤسس ضليع ممن أرسوا قواعد الأدب الإسلامي. وفي روايته (عذراء جاكرتا) يستحضر الكيلاني أحداث فترة دقيقة في ستينات هذا القرن، مرت على جزء عزيز من بلاد المسلمين، عانى خلالها المسلمون الكثير، نتيجة الزوابع التي حاول الشيوعيون إثارتها عام 1965م في جزر إندونيسيا، أملاً في الاستيلاء على السلطة، وتحويل الأمة المسلمة هناك إلى قطيع يأتمر بأوامر الانقلابيين. يكشف الكيلاني الوسائل الدموية التي استخدمها الشيوعيون، وكل الشرائح المتعلقة بأذيالهم، وفي المقابل صور صمود المسلمين، وتمسكهم بدينهم، مستهترين بالأساليب القمعية، متيقنين بنصر الله، كما فضح ممارسات الأدعياء بتحقيق العدالة ونصر المظلومين، ويكشف (عيديد) زعيم الحزب الشيوعي الإندونيسي وزوجته (تانتي) حقيقة مشاعر الشيوعيين وكذب ادعاءاتهم من خلال الحياة التي يحيونها. ضحكت (تانتي) وقالت وهي تخلع معطفها.. - هون عليك يا عيديد، ما الذي يشقيك، هذا قصرنا مليء بكل شيء، الخدم يروحون ويجيئون، ولدينا أموال طائلة، والحزب "بكوادره" تحت تصرفك (ص21). هؤلاء الذين يضحكون على السذّج بالعدالة المزعومة، لا يتورعون عن التجسس حتى على رجالهم، معتمدين الاغتيال وسيلة لتصفية حساباتهم مع المناوئين. - هذا كل شيء عن الكولونيلات والجنرالات. قال عيديد وهو يتنهد بارتياح: - لا يصح أن يفلت منهم أحد.. تذكر جيدا أن الموت هو الحل النهائي لأي خلاف سياسي.. وأن الرحمة عند الثورة حماقة.. وليس لدينا شخص نصف نصف، إما معنا أو علينا. قال رجل الاستخبارات: -:وتلك قائمة محرري الصحف، القسم أ- محكوم عليهم بالموت، والقسم ب للزج بهم في المعتقلات (ص24-25). هذا غير أسلوب النيل من المعارضين الإسلاميين، بتشويه صورهم وإطلاق الشائعات المغرضة حولهم. ها هم يرسمون طريقة ضد (فاطمة) ابنة المجاهد (حاجي محمد إدريس) التي تنتسب لجماعة (ماشومي) الإسلامية وتعمل ضد (عيديد) الذي يقول: - إن وجودها في كلية الآداب وسط طلبة الجامعة يبعث على القلق.. يكتفى بأن يثار حولها الغبار، قولوا إن أباها عميل هولندي سابق، ويتلقى المعونات من الخارج، وتربطه بالمخابرات المركزية صلة، انسجوا حولها القصص. ولكي ينال منها، ولعجزه عن وضع حد لنشاطها، يقرر (عيديد) الزواج من فاطمة عنوة، بعد أن يسجن والدها، ليضغط عليها وتنزل عند رغبته. هاهم أصحاب الشعارات يعودون في لحظة صدق مع أنفسهم إلى فطرتهم، برغم أوحال الشيوعية التي يغرقون فيها (تانتي) زوجة زعيم الحزب الشيوعي حدث لها تبدل، واهتزت قناعاتها، كانت تعرف أن زوجها يتلقى الفتيات، ويفتح لهن عن طريق الإذاعة والصحف وشاشة التلفزيون، لم تكن تكترث لكنها الآن لا تطيق رؤية شيء من هذا، إن مفاهيمها التقدمية حول الرجل والمرأة تتداعى، أصبحت في نظرها تافهة ولا قيمة لها، وشعورها بالملكية الفردية يتسلل إليها، أصبحت تؤمن أن يكون لها بيت تملكه وتتشبث بأغلى الجواهر والثياب، أصبحت تنظر للخدم ككائنات أخرى، هذا ما تحسه، وإن كان كلامها في المجتمعات ومقالاتها في الصحف وأحاديثها في الإذاعة والتلفزيون نقيض ذلك. الشيوعي يناقض قناعاته بل يتخلى عنها عندما يتعلق بأسرته وأهله وعيديد الذي يرضى لنفسه أن يرتمي في أحضان الساقطات يرفض لزوجته أن تفعل ذلك: - أين كنت. - في حفلة. - لمَ لمْ تخبريني؟ - وفي بيت (سوبا ندريو) بالذات؟ - ألم تذهب له كل أسبوع؟ - لكنه بالنسبة لك أمر آخر. ودّوت على وجهها صفعة أودعها ثورته وحنقه. أما صورة المجتمع الذي لا يحميه الإسلام فيرسما هذا الإطار: شوارع تموج بالحركة والحياة، المواكب تمضي، وأعلام خفاقة ترفرف في الهواء، وشارة ضخمة على مركز الحزب، والصحف تلطخها العناوين والراديو يصرح بأغنيات العاطفة، وصور الرئيس تملأ الشاشات، والعربات الفاخرة تنطلق بسرعة، وامرأة عجوز تقف ذليلة، تمد كف الضراعة للسائرين. مقابل هذه الصورة، قصر الرئيس الصيفي، تحيط به حديقة غناء كبيرة، غرست فيها الرياحين وأنواع الورود، ويمرح في الحديقة أنواع من الغزلان. الموت في تلك الأجواء بسيط بسيط.. أنفاس تصمت وقلب يتوقف،والكائن البشري يتحول إلى كومة من اللحم تثير التقزز. وكما هي نهاية الطغاة، ألقي القبض على (عيديد) بعد فشل الثورة، مختبئاً خلف خزنة، كسير النظرات شاحب الوجه تائها. على نقيض هذه الصورة نرى فاطمة ووالدها ووالدتها وخطيبها، إنها رموز متحركة بمبدأ الإسلام، متمثلة مفاهيمه وقيمه في كل مناحي الحياة. (فاطمة) الفتاة التي تدافع عن الإسلام بجرأة، وتعكس حواراتها تجذرها بالتراث الإسلامي تقبض على إسلامها محتسبة مشقة ما تعاني في سبيل الله، ووالدتها تقف بجانبها مشجعة مواسية، مذكرة إياها بما لاقاه السلف الصالح في سبيل الدعوة إلى الله. أما الشيخ الطاعن (حاجي محمد إدريس) فإن صورته تعكس هيبة العلماء المجاهدين، الذين يقرنون القول بالعمل. (حاجي محمد إدريس) منذ البداية تمثل بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكراً) لهذا فهو يضيق بما يرى ويسمع، البلد في حالة فوضى لا مثيل لها، وكل شيء إلى الوراء. ها هو الشيخ وعلى خلاف ما يدعي تلامذة المستشرقين ممن يرددون أن الإسلام لم ينصف المرأة ولا يحترم رأيها، هذا المجاهد، ينزل عند رغبة ابنته عندما طلبت منه الموافقة على زواجها من (أبي الحسن) حتى تحفظ نفسها وتجبُّ الشائعات. هذا الشيخ، خطب الناس فأيقظ النيام على صورة الأوضاع السيئة، وهو يبتسم مرددًا: " الخير في َّ وفي أمتي إلى يوم القيامة" غير يائس من ظلام اللحظة العابرة. عندما ألقي القبض عليه وأودع الزنزانة، لم يتألم لشيء إلا لأذان الصبح، هذا الجليل لم يجد ماءّ في زنزانته، ولما أحس بالعطش تذكر تسابيح ذي النون وهو بطن الحوت" لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" وهو في حواره مع سجانه الشيوعي يستحضر الإسلام ولا يرد إلا بالقرآن والحديث النبوي رغم ما تعنيه هذه الردود للشيوعي. عندما طلب ماء، سخروا منه (ستشرب من ماء زمزم) واستحضر الشيخ رحلته إلى مكة، تذكر زمزم والكعبة، والحمام الآمن، والتكبيرات التي تشق عنان السماء، ونسي نفسه ووجدها قابعة قرب مقام إبراهيم، وحشود المسلمين تطوف حول الكعبة والسقاة يناولون الناس كؤوس الماء..تناول وشرب وصاح "لبيك اللهم لبيك" ووقف قائد السجن ممسكا بكتفه. - لماذا لا تجيب؟ وماذا تقول..هل جننت؟ وأفاق الشيخ مردداً " البقاء لله وحده". ويعاود الأعداء بعد أن أعيتهم السبل نصب كمين للشيخ بإتاحة الفرصة أمامه للهرب، ليقتلوه بهذه التهمة، فيرد الشيخ على مساومة أحدهم. - الناس هنا يموتون من آن لآخر، وفي المعتقل ما يقرب من ألف رجل..ماذا لو هربت؟ سينصب العقاب على التعساء هنا، وقد يحصدونهم بالرصاص، يقول ذلك وهو يتشرب معاني كلام الله " ويؤثرون على أنفسهم". ويعاود الشيخ توضيح رأيه: لماذا أهرب؟ إنني لم أرتكب جرما.. أنا رجل طاعن في السن، وقد أسلمت أمري لله، ولن أهرب حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً. صورة ناطقة بعظمة الإسلام، وصلابة حامليه، وإخلاص أصحاب الأقلام التي وظفت لتظل هذه الصورة ناصعة على الأزمان. نشر في مجلة (الأدب الإسلامي)عدد(9-10)بتاريخ(1416هـ)