كنت أتابع المشهد , دون تعاطف مع المفترس أو الفريسة . ودون انفعال يربكني صحيا ونفسيا . فالمنظر يتكرر كثيرا , حين يتعلق الأمر بالحيوانات البرية والبشرية .
مجموعة أسود تهاجم عجل جاموس , ونتيجة المطاردة يسقط العجل وبعض الأسود في البحيرة ..فتقرر الأسود أن تسحب الطريدة إلى البر . لكنها تجد صعوبة في ذلك .
وما هي إلا لحظات حتى تكشف لنا الكاميرا , حقيقة ما يحدث . إذ كان تمساحا يجر العجل من ساقه باتجاه الماء . لكن مجموعة الأسود تغلبت على التمساح , فسحبت العجل بعيدا عن الشاطيء .
ما زال صراخ العجل قويا واضحا , والأسود تكافح لوضع حد لمقاومته , والفتك به . لكن قطيعا هائلا من الجاموس يظهر بغتة .
يتقدم أحدها نحو مجموعة الأسود , ويسدد لأحدها ضربة بقرنيه ترفعه عدة أمتار وتلقي به بعيدا . ثم تكثّف الجواميس هجومها , مما يؤدي إلى هرب الأسود , بينما ينهض العجل ويندمج بالقطيع دون أن تبدو عليه آثار إصابات .
***
ترك المشهد في نفسي ما يشبه الصدمة .
كيف لم يصب العجل بأذى ؟ وكيف هربت الأسود . وانتصر الجاموس ؟ بل كيف قرر الجاموس أن يهاجم الأسد ؟
أليس من الأجدر بالجاموس أن يكون أكثرحكمة وتعقلا ؟ وأن يجرب طرقا أكثر تحضرا في التعامل مع الموقف ؟ وأن يعاين عاقبة الأمور ؟
كان من الممكن أن تهاجم الأسود القطيع , وأن توقع فيه إصابات جسيمة . أليس من الحكمة أن تضحي الجواميس بعجل وتختصر الطريق ؟
أغلب ظني أن الجواميس لا تتصف بالحصافة والذكاء .وما زال عقلها مظلما ضيقا . ولو أتيح لها أن تمتلك ما لنا من حنكة ودهاء وألمعية . لقررت أن تفاوض الأسود , وأن تتصرف بقاعدة أكلت يوم أكل الثور الأبيض . وليس بقاعدة : رفع الخمر واليوم أمر .
ألم تعلم الجواميس أن الأسد ملك الغاب ؟ وأنها عانت من فتكه وجبروته بما يردعها أن تقدم على حماقة كهذه . لكن عاطفتها ربما تغلبت على عقلها .
كان الأجدر بها أن تستعين بعقل عربي حصيف , يبين لها المخاطر , ويبصرها بعواقب الأمور ؟
كم من عجول سقطت في حظيرتنا العربية ؟ وكم من صراخ تعالى ؟ وكم من رمز دنس واستبيح وانتهك ؟
لكن العقل العربي كان من الوعي والحكمة , ما يجعله يتبصر عاقبة الأمور . فيجنح إلى السلم والتفاوض والحنكة والسياسة والدهاء . ويكبح نار عاطفته , واضطراب انفعالاته , ويتصرف سلوكا سويا يثير الإعجاب .
كم من العجول ينبغي أن نقدم كي ندرك أن الأسود لا تفرق بين عجل وآخر ؟ وجاموس وآخر ؟
وأنّا نهاية المطاف كلنا جواميس .
هل من جاموس ينبئنا أن المسافة بين الأقصى والكعبة ليست أبعد من المسافة بين غرناطة وفلسطين ؟ وأن صرخة في غزة ليست بمعزل عن صرخة قد تنطلق بغتة في الصعيد أو الخليج أو مراكش ..؟
لا أنكر أن للأسد هيبة . ولنا خشية . وعقلا عربيا حصيفا .
قد تكون الاسود أكثر قوة وفتكا . لكن الجواميس حين تتكاتف من المحيط إلى الخليج . لا يعلم سوى الله ماذا يمكن أن تفعل ...
عجبني ونقلته