و من المدهش أن لا يكون هناك مقدار كبير من الشواهد التي تـُظهر أن الملوك الآشوريين بنوا الكثير من الأبنية في نينوى خلال الألفية الثانية. وكان الملوك المتأخرون الذين ظهرت كتاباتهم على المعبد الرئيسي، وبضمنهم شلمنصر الأول وتجلات بيلاصر الأول، أكثر نشاطا ً في البناء في مدينة آشور ؛ والأول هو الذي أسس كلخ (نمرود). وكان على نينوى أن تنتظر الآشوريين الجدد، وخصوصا ً آشورناصربال الثاني (حكم في الفترة 883 – 859 ق. م) ومن تلاه، من أجل أن تشهد توسعا ً معماريا ً ملحوظا ً. ثم واصل الملوك اللاحقون صيانة وتأسيس القصور الجديدة، والمعابد المكرسة لسين ونيرغال ونانا وشمش وعشتار ونابو. ولسوء الحظ لم يترك النهب الشديد إلا القليل من هذه الصروح.
و سنحاريب هو الذي جعل نينوى مدينة رائعة حقا ً (حوالي 700 ق. م). فقد فتح الشوارع والأحياء الجديدة وبنى في نينوى قصرها المشهور الذي لا نظير له، والذي عُثر على معظم أسسه، وكانت أبعاده الإجمالية حوالي 600 × 630 قدما ً. وهو يحتوي على ما لا يقل عن 80 غرفة، عدد كبير منها فيها نقوش نافرة. وقد وُجد هناك الجزء الأكبر من المجموعة (K) المشهورة من الرُقـُم الطينية ؛ وكانت الثران ذات الرؤوس الآدمية موضوعة على جانبي بعض المداخل الرئيسية. وفي ذلك الوقت كانت المساحة الإجمالية لنينوى حوالي 1800 إيكر (700 هيكتار)، وكانت هناك 15 بوابة تخترق أسوارها. وكان الماء يُجلب من التلال إلى نينوى بواسطة منظومة متقنة مكونة من 18 قناة، وقد اكتشفت في جروان، على بعد حوالي 25 ميلا ً (40 كم) عدة أجزاء من قناة مبنية بناءً متقنا ً بناها الملك سنحاريب.
و بنى خليفته أسرحدون قلعة في تل النبي يونس، جنوب قوينجق، وغير معروف ما إذا كان هو أو خليفته مَن وضع تماثيل الفرعون تاركو على مداخلها احتفالا ً بفتح مصر. وقد اكتشفها فؤاد سفر ومحمد علي مصطفى في سنة 1954 لصالح هيئة الآثار العراقية.
و فيما بعد، في القرن السابع ق. م، شيّد آشوربانيبال قصرا ً جديدا ً عند الطرف الشمالي الغربي للمعبد الرئيسي. كما أسس أيضا ً المكتبة الكبرى، وأمر كتـّابه بجمع ونسخ النصوص القديمة من كل أرجاء البلاد. وتحتوي المجموعة (K) على أكثر من 20000 رقيم أو كسر رقيم تتحدث عن كل العالم القديم في بلاد النهرين. ومواضيعها هي الأدب والدين والإدارة، وعدد كبير من الرُقـُم على شكل رسائل. وتشمل فروع التعليم كالرياضيات والنبات والكيمياء والمعاجم. وتحتوي المكتبة على كمية ضخمة جدا ً من المعلومات عن العالم القديم وستشغل العلماء لأجيال عديدة قادمة.
و بعد موت آشوربانيبال بأربع عشرة سنة عانت نينوى من هزيمة لم تتعافَ منها. وقد وُجدت في أجزاء عديدة من المعبد الرئيسي كميات هائلة من الرماد، تشير إلى نهب المدينة على أيدي البابليين والسكيثيين والميديين في سنة 612 ق. م. وبعد ذلك لم تعد المدينة مهمة، بالرغم من وجود بعض الخرائب السلوقية واليونانية. وفي كتابه " الصعود " ذكر زينوفون المدينة باسم مِسپـيلا. وفي القرن الثالث عشر الميلادي تمتعت المدينة على ما يبدو ببعض الرخاء في أيام أتابكة الموصل. وفيما بعد ظلت هناك منازل مسكونة حتى القرن السادس عشر الميلادي على الأقل. وفي هذه الطبقات المتأخرة وجد فخار صيني مقلد.
وصف المدينة
من الأطلال الباقية يتبين أن سور المدينة الآشورية الكبير يبلغ حوالي 7. 5 ميلا ً (12 كم) طولا ً، وفي بعض الأماكن يصل عرضه إلى 148 قدما ً (45 م) ؛ وهناك أيضا ً سور خارجي كبير غير تام، محمي بخندق مائي، ويجري نهر الخوار عبر وسط المدينة ليلتقي بالجانب الغربي لنهر دجلة.
وهناك 15 بوابة كبيرة تقطع جدران المعبد الكبير، وقد بني جزء منها بالطابوق الطيني والجزء الآخر بالحجر. ويبلغ طول الجزء الشرقي حوالي 3 أميال (5 كم)، وفيه ست بوابات ؛ والجزء الجنوبي طوله 262 قدما ً (800 متر)، ويحتوي على بوابة واحدة فقط، هي بوابة آشور ؛ والجزء الغربي طوله حوالي 1. 2 ميل (1. 9 كم)، وفيه ثلاث بوابات هي أدد ونيرغال وسين. ومن المعروف أن واجهات عدد من هذه المداخل فيها تماثيل حجرية كبيرة. في بوابة نيرغال هناك ثوران مجنحان حجريان، ينسبان إلى سنحاريب، وقد أعيد نصبهما هناك في موقع قامت هيئة الآثار العراقية بفتح متحف إلى جواره. وفي بوابة أدد توجد العديد من البلاطات وعليها كتابات. أما ما يعتقد أنها بوابة سين ففيها ممر يعبر مدخلا ً ذي قوس إلى تعلية أو سلم يوصل إلى الشرفات.
و بوابة شمش هي الأكثر تأثيرا ً، وقد أتم كل أعمال التنقيب فيها طارق مظلوم لحساب هيئة الآثار العراقية. وهي محاطة بخندقين ومجرى مائي يُعبَر عليهما بسلسلة من الجسور التي قطعت أحجار أقواسها من الكتل الطبيعية. الجدران مغطاة بحجر الكلس ومحجوزة بحاجز مسنن، يمر من خلفه طريق دفاعي. والبناء مبني بالطين بالإضافة إلى الطابوق المفخور، ويحمل ختم سنحاريب. وهناك مدخل بعرض 14. 8 قدم (4. 5 متر) في وسط المعقل الحصين، وقد عُزز هذا المدخل فيما بعد بستة أبراج. وعلى الجانب الداخلي للبوابة توجد بلاطات منقوشة بنقوش رديئة الصنع تصور احتراق أحد الأبراج، ولعلها تمثل سقوط نينوى وتعود إلى حقب ما بعد الآشوريين. وتتضمن الخارطة الداخلية للبوابة ست غرف كبيرة ضُبطت استقامتها بواسطة بلاطات غير منحوتة موضوعة في الأسس، وقد اكتشفها لايارد ورسام.