قديرا لثراء إبداعاته احتفل معرض مسقط الدولى للكتاب بالأديب القصصى الراحل يوسف الشارونى يوم الثلاثاء الماضى حيث عقدت ندوة بعنوان «يوسف الشارونى مثقفا وإنسانا» ضمن الفعاليات الثقافية التى أقامها المعرض والتى تزامنت مع ذكرى الأربعين للكاتب الكبير، بمشاركة نخبة من المثقفين المصريين.
وهنا تذكرت كلماته فى آخر حوار أجريته معه منذ عدة أشهر وهو يحدثنى عن عمره الذى انقضى ويباهى بالعنفوان فى هذا العمر ( 92 عاما ) وكأنه يكتب شهادة للتاريخ لأنه كان يشعر بدنو أجله، وهو ما أفصح عنه قائلا ً«ربما يكون هذا آخر حوار أجريه معك لأننى اشتقت لأصدقاء ورفاق الدرب الذين رحلوا وتركونى وحيداً» وأسهب فى هذا الحوار عن ذكرياته منذ نشأته الأولى فى جزيرة شارونه وعلاقة الأسرة بالفن وأهم أعماله الإبداعية وعلاقاته بأصدقائه وكبار المبدعين والجوائز التى حصل عليها.
وكان يشعر بالرضا عن رحلته الإبداعية حينما قال لى «اننى قمت بدورى وأخلصت لعملي»، وحدثنى عن أحدث كتبه «مباهج التسعين» والذى شبه نفسه فيه بالتاجر الذى يحصى مكاسبه وخسائره فى آخر يومه، ويعدد أعماله الإبداعية قائلاً «نشرت ثلاثة وستين كتابا وأربعة قيد النشر مابين قصة ورواية ونثر شعرى ودراسات نقدية وسير، فلم أحدد لنفسى إبداعا معينا بل أطلقتها تبدع فى حرية ... فضلا عن عشرات المشاركات الأدبية من الصين شرقا حتى أكسفورد والجزائر غربا، ومن الدانمارك شمالا حتى جوبا جنوبا».
وبرحيله فقد الوسط الثقافى أحد رواد التجديد فى القصة العربية الحديثة فهو أول من أرسى قواعد القصة التعبيرية, وعمل على تطوير أدواته الفنية فى كتابة القصة القصيرة - فنه الأثير وكعبة عشقه التى لم يتحول عنها إلا قليلا- فباحت له بأسرارها وأعطته مفاتيح خزائنها فنجح فى التعبير عن موجة القلق التى كانت تسود القرن العشرين والضغوط التى تعرض لها الإنسان المعاصر فى أعمال فنية تتجاوز ظاهر الأشياء إلى جوهرها. فشغل مجتمع الستينيات الأدبى بقصصه القصيرة ذات الاتجاه المميز، فكانت منعطفا مهما فى تاريخ تطور القصة المصرية ، وأصبح له مدرسته حيث فتح طرقا جديدة واستشرف آفاقا لم تكن مطروقة من قبل.
فلم يعرف أحد من الكتاب العرب بقى مخلصا للقصة القصيرة ومنتميا لفنها لأكثر من سبعين عاما مثل الشارونى منذ أن أمسكت أنامله القلم وخط أول قصة قصيرة له فى أواخر الأربعينيات من القرن العشرين.
ولم يكن الشارونى قاصاً متميزاً فحسب بل صاحب كتابات دسمة فى النقد الأدبى وأخرى توازيها فى عمقها فى تحقيق التراث العربى بين الإبداع والتنظير .. ولم لا؟ وهو تلميذ د.طه الحاجرى الذى علمه مبادئ النقد الأدبى الحديث، ولم تكن مطالعاته إلا تطبيقاً لهذه المبادئ، بالإضافة إلى محاضراته فى معهد الدراسات الإسلامية بجامعة برلين عن الأدب العربي, وفى المعهد الإسبانى العربى بمدريد وكذلك فى جامعتى لايدن وأمستردام بهولندا, ومشاركاته فى عضوية كثير من مؤتمرات الأدباء العرب،إلى جانب مناصبه الإدارية المتعددة.
وقد تحولت بعض قصصه إلى مسلسلات إذاعية وتليفزيونية, ونوقشت بعض أعماله فى العديد من الرسائل العلمية بالجامعات المصرية والأجنبية، بالإضافة إلى هذا كله كان الشارونى شاعرا وله ديوان بعنوان «المساء الأخير» صدر عام 1963، وكان فيه رائدا للنثر الغنائى كما يسميه النقاد «قصيدة النثر»، فكان سباقا فى هذا المجال لكنه غادر هذه المنطقة سريعا لتبقى إبداعاته فى القصة القصيرة علامات مضيئة وفارقة فى تاريخ هذا الفن فى مصر والوطن العربي.
ويعتبر كفاح الشارونى الأدبى صورة من كفاح جيل اتسم بالعطاء والتجريب فى مجالات الإبداع الأدبى ومغامرات البحث والنقد، وترجمت أعماله إلى الإنجليزية والألمانية والفرنسية والأسبانية. كما تـُرجمت بعض قصصه إلى الهولندية والسويدية والبولندية والروسية والصينية والدانمركية..
رحم الله الفقيد بقدر ما أعطى وأبدع.
ahram.org.eg