زيارة زوجة المفقود لأرحامها
السؤال:
امرأةٌ فُقِد زوجُها منذ أَكْثَرَ مِن سِتَّةِ أشهرٍ ولم يُعْلَمْ مكانُه، وهي تسأل ماذا تفعل وهل يجوز لها أن تزور بيتَ والِدِها، وأن تَصِل أرحامَها، وهذا مع الإشارة إلى مسألةِ ما إذا منعَتْها أُمُّ الزوج، وهذا موجودٌ في عُرْفهم، فما الذي يجوز لها؟
وما حكمُ مَن غاب عن زوجته لِمُدَّةِ ثَمانِي سنواتٍ مِن غيرِ أن يسأل عنها، ومكانُ تواجُدِه معروفٌ، ثمَّ عاد بعد تلك المدَّة، فهل يجوز للمرأة أن تبقى معه في العلاقة الزوجية، وأن تلبِّيَ رغبتَه إن دعاها للفراش؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فإذا غاب الزوجُ عن أهله وانقطع خبرُه ولم يُعْلَمْ مكانُه ولم يُعْرَفْ: أهو على قيدِ الحياة أم ميِّتٌ: فإمَّا أن يكون حكمُ القاضي مَبْنِيًّا على دليلٍ كشهادة العدول؛ فيَثْبُت موتُه مِن الوقت الذي قام الدليلُ على الموت فيه، وتعتدُّ زوجتُه مِن ذلك الوقت.
وإمَّا أن يَبْنِيَ حُكْمَه على أماراتٍ لا تصلح أن تكون دليلًا فيحكم القاضي بموتِ المفقود بمقتضى مُضِيِّ أربعِ سنواتٍ مِن تاريخ التحرِّي عملًا بما تقرَّر في عهدِ إمارة الصحابيِّ الجليل عمرَ بنِ الخطَّاب رضي الله عنه في حقِّ المفقود(١)، ويكون موتُه حُكميًّا لاحتمالِ أن يكون حَيًّا، وتعتدُّ المرأةُ ـ بعد مُضِيِّ المدَّةِ ـ أربعةَ أشهرٍ وعشرًا ثُمَّ تَحِلُّ.
أمَّا إذا غاب الزوجُ عن أهله وتوارى عنها مع معرفةِ مكانه وإمكانِ الاتِّصال به، وكان في فترةِ غيابه معذورًا، مع قيامه بواجبِ الإنفاق على زوجته؛ فليس لها أن تطلب التفريقَ، غير أنَّ المُدَّة المعذور فيها لا يجوز أن تكون مُطْلَقةً؛ نظرًا لتضرُّرِ المرأةِ لامتداد الفترة المُطْلَقة مِن غيرِ تقييدٍ، و«الضَّرَرُ يُزَالُ» كما هو معروفٌ في حديثِ ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما مرفوعًا: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ»(٢)؛ ولذلك يتعيَّنُ على الزوجِ «التسريحُ بإحسانٍ» لعدمِ إمكانه إمساكَ زوجته بالمعروف، ويقوم القاضي مَقامَه بالتطليق إن امتنع عن ذلك رفعًا للظلم والضرر، ما لم تَرْضَ زوجتُه بالبقاء تحت عصمته.
أمَّا إن غاب عنها بدون عذرٍ مشروعٍ فلها أن تطلب التفريقَ، وللقاضي إنذارُه بالرجوع إلى أهله أو نَقْلِها إليه، ويرفع الظلمَ بفسخِ العقد في حالةِ عدمِ الاستجابة.
وإذا لم يُؤَدِّ واجِبَ الإنفاق عليها فلها ـ أيضًا ـ أن تطلب فَسْخَ العقدِ بسببه ـ غاب عنها أم لم يَغِبْ ـ إن رَغِبَتْ في فراقه، أمَّا إن رَضِيَتِ البقاءَ تحت عصمته فإنَّ العقد يستمِرُّ صحيحًا لعدمِ ثبوت الفسخ والإبطال، عملًا باستصحاب ما دلَّ الشرعُ والعقلُ على ثبوته ودوامه.
هذا، والزوج إذا غاب عن زوجته، ولم يترك لها نفقةً ولا خَلَّف لها مالًا؛ فلها أن تمتنع مِن تسليمِ نَفْسِها له؛ لأنَّ مِن شرطِ التسليمِ وجوبَ النفقة، وهو مُجْمَعٌ على وجوبه في حقِّه، لقوله تعالى: ﴿وَعَلَى ٱلۡمَوۡلُودِ لَهُۥ رِزۡقُهُنَّ وَكِسۡوَتُهُنَّ بِٱلۡمَعۡرُوفِۚ﴾ [البقرة: ٢٣٣]، ولقوله تعالى: ﴿لِيُنفِقۡ ذُو سَعَةٖ مِّن سَعَتِهِۦۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيۡهِ رِزۡقُهُۥ فَلۡيُنفِقۡ مِمَّآ ءَاتَىٰهُ ٱللَّهُۚ لَا يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفۡسًا إِلَّا مَآ ءَاتَىٰهَاۚ﴾ [الطلاق: ٧]. وعليه، فإذا انتفى الشرطُ ينتفي المشروطُ، ولا تُعَدُّ عاصيةً إن سَلَّمَتْ نَفْسَها، ويبقى حقُّها في النفقة قائمًا طيلةَ مدَّةِ تخلِّي زوجِها عن النفقة، ويَسَعُها المطالَبةُ بها استصحابًا للأصل السابق.
هذا، ومِن حَقِّ الزوج إمساكُ زوجته في المسكن الشرعيِّ اللائق بها، ولا يَحِلُّ لها أن تَخْرُج إلَّا بإذنه، وإن خرجَتْ بغيرِ إذنِه كانت ناشزةً، عاصيةً لله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم، مُسْتَحِقَّةً للعقوبة(٣).
غير أنَّه لا ينبغي له أن يمنعها مِن زيارةِ أبوَيْها أو عيادتِهما، وعليها أن تُمرِّض المريضَ منهما إذا تَعذَّر وجودُ مَن يقوم بذلك وإن لم يَرْضَ الزوجُ ولم يأذن؛ إذ لا يَحِقُّ له أن يمنعها مِن الواجب ولا يَأْمُرَها بقطيعةِ الرَّحِمِ؛ فإنَّ طاعةَ الزوجِ مقيَّدةٌ بالمعروف، وليس هذا منه، على نحوِ ما ذَكَرَ ابنُ قُدامةَ ـ رحمه الله ـ(٤).
كما لا ينبغي له أن يمنعها مِن الخروج بالضوابط الشرعية لطلبِ العلم الشرعيِّ إن كانت جاهلةً بأحكامِ دينها ـ وعلى أقلِّ تقديرٍ: الضروري منها ـ إذا لم يكن الزوجُ قادرًا على تعليمها أو كان قادرًا ولم يفعل؛ لأنَّ طَلَبَ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَيْهَا(٥)، ولا يَحِقُّ للزوج أن يمنعها مِن هذه الفريضة، كما لا يَحِقُّ له أن يمنعها إذا استأذنَتْ للخروج إلى المسجد لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم فيما رواه الإمامُ البخاريُّ مِن حديث ابن عمر رضي الله عنهما: «إِذَا اسْتَأْذَنَتِ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى المَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا»(٦).
وهذا يكون في حالِ حضور الزوج، والمرأةُ مأمورةٌ بالاستئذان منه؛ لأنَّه إذا كان المسجدُ يقتضي استئذانَه فالخروجُ إلى غيره مِمَّا ليس بفرضٍ مِن بابٍ أَوْلَى.
أمَّا إذا كان الزوجُ غائبًا وكان في مَنْزِلِها مَن يقوم مَقامَه ـ كوكيله مِن مَحارِمها مثلًا ـ فالحُكمُ السابقُ بالنسبة للزوج يُساق إلى حكمِ نائبِهِ لكونه يُمثِّل الأصيلَ، وله أن يُرافِقَها إلى مَحَلِّ الحاجة والضرورة، أمَّا إذا خَشِيَتْ على نَفْسِها ـ حالةَ الخروج ـ سوءَ العاقبة ـ بمنعِ أمِّ الزوج لها ـ والإخلالَ بالحياة الزوجية التي هي راغبةٌ في انتظارها؛ فالأَوْلَى أن تصبرَ حتَّى يفتح اللهُ ـ سبحانه وتعالى ـ وهو خيرُ الفاتحين، عملًا بأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ وَأَهْوَنِ المَفْسَدَتَيْنِ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
(١) أخرجه عبد الرزَّاق في «المصنَّف» (٧/ ٨٨) رقم: (١٢٣٢٤)، وابن أبي شيبة في «المصنَّف» (٣/ ٥٢١) رقم: (١٦٧١٨)، والبيهقيُّ في «السنن الكبرى» (٧/ ٤٤٥)، وحسَّنه الألبانيُّ في «الإرواء» (٦/ ١٥٠).
(٢) أخرجه ابن ماجه في «الأحكام» بابُ مَن بنى في حقِّه ما يضرُّ بجاره (٢٣٤٠)، وأحمد (٢٢٧٧٨)، مِن حديث عُبادة بن الصامت رضي الله عنه. وأخرجه ابن ماجه في «الأحكام» بابُ مَن بنى في حقِّه ما يضرُّ بجاره (٢٣٤١)، وأحمد (٢٨٦٥)، مِن حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما. والحديث صحَّحه الألبانيُّ في «الإرواء» (٨٩٦) وفي «السلسلة الصحيحة» (٢٥٠).
(٣) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣٢/ ٢٨١).
(٤) «المغني» (٧/ ٢٠ ـ ٢١).
(٥) لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ»، أخرجه الطبرانيُّ في «المعجم الأوسط» (٤٠٩٦) مِن حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وابن ماجه في «المقدِّمة» باب فضل العلماء والحثِّ على طلبِ العلم (٢٢٤) عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (٣٩١٣).
(٦) متَّفقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «النكاح» باب استئذان المرأةِ زوجَها في الخروج إلى المسجد وغيرِه (٥٢٣٨)، ومسلمٌ في «الصلاة» (١/ ٢٠٦) رقم: (٤٤٢)، مِن حديث ابن عمر رضي الله عنهما