التكبير لسجود التلاوة
السؤال:
تَنازَعَ أهلُ مسجدٍ في أمرِ التكبيرِ لسجودِ التلاوةِ في صلاةِ التراويح، وقد اختار بعضُهم رأيَ الشيخِ الألبانيِّ الذي مالَ إلى رأيِ أبي حنيفةَ في عدمِ مشروعيةِ هذا التكبيرِ لعدمِ صحَّةِ الحديثِ فيه، فضلاً عن آثارِ الصحابةِ، وقد بالَغَ بعضُهم في مُناصَرةِ رأيِه إلى القطعِ بأنَّ هذا العملَ إنما هو بدعةٌ ضلالةٌ، فالمَرْجُوُّ منكم الإفادةُ والتوضيحُ على ما عَهِدناه منكم، وجزاكم اللهُ خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ حديثَ ابنِ عُمَرَ رضي الله عنهما(١) الذي يدلُّ على مشروعيةِ التكبيرِ لسجودِ التلاوةِ في إسنادِه العُمَرِيُّ عبدُ اللهِ بنُ عُمَرَ المكبَّرُ وهو ضعيفٌ، وقد ضعَّف إسنادَه النوويُّ(٢) والحافظُ(٣) ووافَقَهما الألبانيُّ(٤)، وأخرجه الحاكمُ مِن روايةِ العُمَرِيِّ أيضًا، لكِنْ وَقَع عنده مُصَغَّرًا: عُبَيْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ، والمصغَّرُ ثِقَةٌ، ولهذا قال الحاكمُ: «صحيحٌ على شرطِ الشيخين»، غيرَ أنه ليس في روايتِه لفظُ «كبَّر»، قال الحافظُ: «وأصلُه في الصحيحين مِن حديثِ ابنِ عُمَرَ بلفظٍ آخَرَ»(٥).
وقد أورد الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ الأثرَ القوليَّ لابنِ مسعودٍ: «إِذَا قَرَأْتَ سَجْدَةً فَكَبِّرْ وَاسْجُدْ، وَإِذَا رَفَعْتَ [رَأْسَكَ] فَكَبِّرْ»(٦)، وتعقَّبه بأنه لم يَجِدْ مَن عَزَاهُ لابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، وإنما علَّقه البيهقيُّ لغيرِه، وفي سندِه الربيعُ بنُ صُبَيْحٍ، قال الحافظُ: «صدوقٌ سيِّئُ الحفظِ»(٧)، ووجد له الألبانيُّ أصلاً مِن فعلِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، إلاَّ أنَّ في سندِه ـ أيضًا ـ عطاءَ بنَ السائبِ: كان اختلط، ولَمَّا لم يَرِدْ عنِ الصحابةِ الذين رَوَوْا سجودَه صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم للتلاوةِ ذِكْرُ تكبيرِه للسجودِ مَالَ الشيخُ الألبانيُّ ورجَّح عَدَمَ مشروعيةِ التكبيرِ، وهو روايةٌ عنِ الإمامِ أبي حنيفةَ ـ رحمه الله ـ(٨).
وفي تقديري: أنَّ أَمْرَ التكبيرِ لسجودِ التلاوةِ إذا لم يَثْبُتْ فيه نصٌّ وَجَبَ المَصِيرُ إلى النصِّ العامِّ لا إلى الأصلِ العدميِّ الذي هو استصحابُ العدمِ الأصليِّ حتَّى يَرِدَ دليلٌ ناقِلٌ عنه، وهو ما يُعْرَفُ بالإباحةِ العقليةِ أو البراءةِ الأصليةِ لوجودِ الناقلِ، ويتمثَّل النصُّ العامُّ في ظاهرِ حديثِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَوَضْعٍ وَقِيَامٍ وَقُعُودٍ، وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ»(٩).
والحديثُ أخرج نحوَه البخاريُّ ومسلمٌ مِن حديثِ عمرانَ بنِ حُصَينٍ ومِن حديثِ أبي هريرةَ رضي اللهُ عنهما، ورَفَعَ الترمذيُّ هذا عن الخلفاءِ الأربعةِ وغيرِهم ومَن بعدَهم مِن التابعين، وهذا العمومُ هو عمومُ الجنسِ لأفرادِه وهو يصدق فيه الاسمُ العامُّ على آحادِه، فإنَّ قولَه: «يُكَبِّرُ فِي كُلِّ رَفْعٍ وَوَضْعٍ» يصدق في الفرضِ والنفلِ والفذِّ والجماعةِ، وقد احتجَّ به الجمهورُ في هذين الموضعين، كما يصدق في سجودِ الصلاةِ وسجودِ التلاوةِ، ومعلومٌ أصوليًّا أنَّ: «العَامَّ يَجْرِي عَلَى عُمُومِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ»، ولا يقال: إنَّ هذا العمومَ مخصَّصٌ بما وَرَدَ مِن تكبيراتِه صَلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم الانتقاليةِ في الصلاةِ، فمثلُ هذا لا يصحُّ على القواعدِ العلمية؛ لأنَّ دليلَ الخصوصِ لا يُعارِضُ دليلَ العمومِ بل يُؤكِّده في خصوصِه ولا يُنافِيهِ في عمومِه لكونِه مِن جنسِه، وإنما يتقيَّد العمومُ بالخصوصِ إذا لم يكن مِن جنسِه ويبقى العمومُ ـ عندئذٍ ـ بعد التخصيصِ حجَّةً عند الجمهورِ.
ومثلُ هذا العمومِ معمولٌ به في مَواضِعَ مِن الصلاةِ كاحتجاجِ الشافعيةِ بعمومِ قولِه صَلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي»(١٠) على أنَّ المأمومَ يقول: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، مع أنه صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم قال: «.. وَإِذَا قَالَ ـ أي: الإِمَامُ ـ: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» فَقُولُوا: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ»»(١١)، ولم يُنْقَلْ عن الصحابة أنَّ أحَدَهم قال: «سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ»، بل نُقِل عنْ بعضِهم قولُه: «رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ»(١٢)، وكسجودِ السهوِ فقَدِ استدلَّ العلماءُ بعمومِ ما رواهُ مسلمٌ مِن قولِه صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم: «إِذَا زَادَ الرَّجُلُ أَوْ نَقَصَ فَلْيَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ»(١٣)، فقدْ عملوا بالزيادةِ والنقصانِ على تفصيلٍ بينهم في الصلاةِ دون التي وَرَدَتْ عنِ النبيِّ صَلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم.
هذا، وينبغي العملُ بألفاظِ الشرعِ وعموماتِها، ولا يجوز صرفُها إلى تأويلٍ عارٍ عنِ الدليلِ أو تخصيصٍ خالٍ عن الْحُجَّة، ولا يَلْزَمُ مِن عدمِ ذِكْرِ الصحابةِ الذين رَوَوْا سجودَهُ صَلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم للتلاوةِ تكبيرًا عدَمُ الوقوع؛ لاحتمالِ أنه تُرِكَ للعلمِ به أو للغفلةِ أو الذهولِ عنه أو ما إلى ذلك، ويؤيِّد ذلك عمومًا الحديثُ السابقُ. والأحاديثُ المقطوعةُ عن بعضِ السلفِ كأبي قِلاَبَةَ عبدِ اللهِ بنِ زيدٍ والحسنِ وابنِ سيرينَ ومسلمِ بنِ يسارٍ، فضلاً عن إقرارِ الجمهورِ له وأئمَّةِ الحديثِ لَدَلِيلٌ على أنَّ فيه أصلاً محفوظًا وأنَّ حالَهم أنهم كانوا يكبِّرون للتلاوةِ، فلو لم يكونوا كذلك لنُقِلَ إلينا تَرْكُهم له؛ لأنه على خلافِ الأصلِ.
قال ابن تيميةَ ـ رحمه الله ـ: «وهذه الأمورُ التي ذَكَرَها كُلُّها مُنْتَفِيَةٌ في سجودِ التلاوةِ والشكرِ»... إلى قولِه: «ولا جَعَلَ لها تكبيرَ افتتاحٍ، وإنما رُوِيَ عنه أنه كبَّر فيها إمَّا للرفع وإمَّا للخفض، والحديثُ في السُّنَن»(١٤).
ومِن هذا المُنْطَلَقِ لا يصحُّ الجزمُ ببدعيةِ التكبيرِ لسجودِ التلاوةِ، وأنَّ ذلك خطأٌ ظاهرٌ يردُّه ما ذَكَرْنا، وقد قرَّر شيخُ الإسلامِ في مسألةِ السنَّةِ والبدعةِ أنَّ البدعةَ في الدِّينِ هي ما لم يَشْرَعْه اللهُ ورسولُه، وهو ما لم يَأْمُرْ به أَمْرَ إيجابٍ أو استحبابٍ، فأمَّا ما أُمِرَ به أَمْرَ إيجابٍ واستحبابٍ وعُلِمَ الأمرُ بالأدلَّةِ الشرعيةِ فهو مِن الدِّين الذي شَرَعَه اللهُ، وإِنْ تَنازَعَ أولو الأمرِ في بعض ذلك.
والقولُ بمشروعيةِ التكبيرِ لسجودِ التلاوةِ هو ما أَخْتَارُه وأُرَجِّحُه ولا أدَّعي القطعَ بصوابِ ترجيحي فإنَّ مِثْلَ هذا القطعِ مجازفةٌ في القولِ لا تَليقُ بالبحثِ العلميِّ الصحيح.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١١ رمضان ١٤١٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٠ جانفي ١٩٩٦م
(١) أخرجه أبو داود في «الصلاة» بابٌ في الرجل يسمع السجدة وهو راكبٌ (١٤١٣)، ولفظُه: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ عَلَيْنَا الْقُرْآنَ، فَإِذَا مَرَّ بِالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وَسَجَدَ وَسَجَدْنَا مَعَهُ». انظر: «الإرواء» للألباني (٤٧١ ـ ٤٧٢).
(٢) قال النوويُّ في «المجموع» (٥/ ٨٩): «إسنادُه ضعيفٌ».
(٣) انظر: «التلخيص الحبير» (٢/ ٢٧) و«بلوغ المرام» (١٠٤) كلاهما لابن حجر.
(٤) انظر: «تمام المنَّة» للألباني (٢٦٧).
(٥) «التلخيص الحبير» لابن حجر (٢/ ٢٧).
(٦) أخرجه البيهقيُّ (٢/ ٤٦٠)، وانظر: «تمام المنَّة» للألباني (٢٦٨).
(٧) انظر: «تمام المنَّة» للألباني (٢٦٨).
(٨) «تمام المنَّة» (٢٦٨).
(٩) أخرجه الترمذي في «الصلاة» بابُ ما جاء في التكبير عند الركوع والسجود (٢٥٣)، والنسائي في «التطبيق» باب التكبير للسجود (١١٤٩). والحديث صحَّحه الألباني في «الإرواء» (٣٣٠).
(١٠) أخرجه البخاري في «الأذان» بابُ الأذان للمسافر إذا كانوا جماعةً والإقامةِ (٦٣١) مِن حديث مالك بنِ الحُوَيْرِث رضي الله عنه.
(١١) أخرجه البخاريُّ في «الأذان» باب: إنما جُعِل الإمامُ ليُؤْتَمَّ به (٦٨٩)، ومسلمٌ في «الصلاة» (٤١١)، مِن حديث أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه.
(١٢) أخرجه البخاريُّ في «الأذان» باب فضل: اللهمَّ ربَّنا لك الحمدُ (٧٩٩) مِن حديث رِفاعة بن رافعٍ الزُّرَقيِّ رضي الله عنه. وأخرجه مسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٦٠٠) مِن حديث أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه. وانظر: «صفة الصلاة» للألباني (١٣٨).
(١٣) أخرجه مسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٥٧٢) مِن حديث عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه.
(١٤) «مجموع الفتاوى» (٢٣/ ١٧٠).