في حكم الأناشيد الإسلامية والدعوةِ بها
السؤال:
ما حكمُ الأناشيد الإسلامية؟ وهل يجوز اتِّخاذُها وسيلةً للدعوة؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلام على مَنْ أرسله الله رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فتجدرُ الملاحَظةُ ـ أوَّلًا ـ أنَّ تقييدَ الأناشيدِ المتضمِّنةِ للأشعار والأرجاز بكونها «إسلاميةً» أو «دينيةً» غيرُ معروفٍ عند خيرِ الناس مِنَ القرون المفضَّلة ولا مَنْ بعدهم، وإنما كانوا يُفرِّقون بين الحَسَنِ والقبيحِ مِنَ الشِّعر والرَّجَز، أو بين المحمود والمذموم، أو بين ما يُكْرَهُ وما يجوز.
أمَّا الأناشيد إِنْ كانَتْ عبارةً عن أشعارٍ أو أرجازٍ تُرنَّم لإظهار السرور بها أو قَطْعِ المسافات في الأسفار أو ترويحِ النفس، وكانَتْ مُشْتَمِلةً على مَواعِظَ وأمثالٍ وحِكَمٍ، وخاليةً مِنَ المعازف وآلاتِ الطرب باستثناء الدفِّ في العيد والعرس، وكانَتْ سالِمَةً مِنَ الفُحْشِ والخَنَا الذي يُثير الشهوةَ ويدفع إلى الفاحشة أو يَصِفُ محاسنَ المرأةِ والخمرةَ ويشجِّع على شُرْبِها، ولم يتضمَّنِ الشِّعْرُ شركًا بالله تعالى أو كَذِبًا على الله ورسولِه صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابِه رضي الله عنهم؛ فلا مانِعَ منها إذ لا محذورَ فيها، لكنَّ الإكثار مِنَ الترنُّم بها أو الاستماعِ إليها غيرُ ممدوحٍ بل مرغوبٌ عنه؛ إذ ليس كُلُّ مُباحٍ يُباحُ على الإطلاق، وخاصَّةً إذا كانَتْ تصرف سامِعَها عن قراءةِ القرآنِ أو عن طَلَبِ العلمِ النافع أو الدعوةِ إلى الله تعالى، وقد أقرَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم على الشِّعر والرَّجَز والحُداء، وبوَّب البخاريُّ ـ رحمه الله ـ: «بابُ ما يجوز مِنَ الشعر والرَّجَز والحُداء وما يُكْرَه منه»(١)، وكان البراءُ بنُ مالكٍ رضي الله عنه يحدو بالرجال، وكان أَنْجَشَةُ يحدو بالنساء ـ وكان حَسَنَ الصوت ـ فقال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالقَوَارِيرِ»(٢)، والحُداءُ في الغالبِ إنما يكون بالرَّجَزِ وقد يكون بغيره مِنَ الشعر، وهو ضربٌ مِنَ الغناء، وشبيهُه غناءُ الركبانِ وغناءُ النصب، وقد نَقَلَ ابنُ عبدِ البرِّ ـ رحمه الله ـ جوازَ هذه الأوجه جميعًا ـ بلا خلافٍ ـ إِنْ سَلِمَ الشعرُ مِنَ الفحش والخَنَا.
أمَّا الأناشيد المسمَّاةُ إسلاميةً، التي تُقام على وجهٍ يُنْشَد فيه الشعرُ بالألحان والتنغيمِ استجلابًا للتطريب في حِلَقِ الذِّكر وغيرها، وقد يُصاحِبُه بعضُ المعازف وآلاتِ الطرب كالدفِّ والطبل والقضبان وغيرها؛ فهذا أَشْبَهُ بالتغبير الذي ذمَّهُ الشافعيُّ وأحمد وغيرُهما مِنَ الأئمَّة المتقدِّمين، فقَدْ صحَّ عن الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ أنه قال: «خلَّفْتُ بالعراق شيئًا يسمَّى: التغبيرَ وضعَتْه الزنادقةُ، يشغلون به الناسَ عن القرآن»(٣)، وصحَّ عن أحمد ـ رحمه الله ـ أنه قال عنه: «بدعةٌ مُحْدَثةٌ»(٤).
ويكفي أنَّ المذاهب الأربعة اتَّفقوا على تحريمِ آلات الطرب تحريمًا كُلِّيًّا إلَّا ما استثناه الدليلُ وهو الدُّفُّ في النكاح والعيد، وقد ورَدَتْ نصوصٌ كثيرةٌ مِنَ الكتاب والسُّنَّةِ تذمُّ آلةَ الطرب وتمنعها(٥)، منها: قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «صَوْتَانِ مَلْعُونَانِ: صَوْتُ مِزْمَارٍ عِنْدَ نِعْمَةٍ، وَصَوْتُ وَيْلٍ عِنْدَ مُصِيبَةٍ»(٦)، وقولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ»(٧)، وغيرُها مِنَ الأدلَّة الشرعية.
هذا، وأمَّا اتِّخاذُ اللهوِ والغناء وسيلةً للدعوة إلى الله فلا يخفى على عاقلٍ عَدَمُ مشروعيته؛ لأنَّ ممارسةَ العملِ الدعويِّ ومباشَرتَه دون معرفةِ حُكْمِه والاستنادِ إلى دليلِه الشرعيِّ تحكُّمٌ واتِّباعٌ للهوى، وهو مردودٌ على صاحِبِه؛ إذ لا يجوز الخروجُ عن الحكم الشرعيِّ في المناهج والمقاصد والوسائل؛ لقوله تعالى: ﴿ثُمَّ جَعَلۡنَٰكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٖ مِّنَ ٱلۡأَمۡرِ فَٱتَّبِعۡهَا وَلَا تَتَّبِعۡ أَهۡوَآءَ ٱلَّذِينَ لَا يَعۡلَمُونَ ١٨﴾ [الجاثية]، وقولِه صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ»(٨)؛ فوسائلُ الدعوة إلى الله ينبغي موافَقتُها للنصوص الشرعية العامَّة أو الخاصَّة وقواعدِ الشرع الكُلِّية، وإذا كانَتْ وسيلةُ الغناءِ تابعةً لمقاصدَ طائفيةٍ أو تخدم أغراضًا حزبيةً أو جهويةً فتُمْنَعُ بحكمِ تبعيَّتِها؛ لأنَّ طُرُقَ المناهي والمكروهاتِ تابعةٌ لها، و«النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ نَهْيٌ عَمَّا لَا يَتِمُّ اجْتِنَابُهُ إِلَّا بِهِ»، وإذا كانَتْ وسيلةُ الغناءِ تمثِّل شعارًا خاصًّا بجماعةٍ معيَّنةٍ ذاتِ مَنْحًى عقديٍّ تدعو إليه، أو طائفيٍّ أو حزبيٍّ تسير على منهجه؛ فإنَّ الوسيلةَ تُمْنَعُ لِتَعلُّقِ وصفٍ منهيٍّ بها؛ فلذلك سيَّب النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وسيلةَ النفخِ في البوق للدعوة إلى الصلاة لكونه شعارَ اليهود، وتخلَّى عن الضرب بالناقوس لكونه شِعارَ النصارى، وتَرَكَ إيقادَ النارِ لكونه شِعارَ المجوس(٩).
والعلم عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبِه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١ صفر ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ١ مارس ٢٠٠٦م
(١) «صحيح البخاري بشرح فتح الباري» (١٠/ ٥٣٦)، في «الأدب» باب رقم: (٩٠).
(٢) أخرجه البخاريُّ في «الأدب» بابُ ما يجوز مِنَ الشِّعر والرَّجَز والحُداء وما يُكْرَه منه (٦١٤٩)، ومسلمٌ في «الفضائل» (٢٣٢٣)، مِنْ حديثِ أنسٍ رضي الله عنه.
(٣) انظر: «الأمر بالاتِّباع والنهي عن الابتداع» للسيوطي (١/ ٨)، و«نزهة الأسماع» للحافظ ابنِ رجب (ص ٨٦).
(٤) انظر: «المسائل والرسائل المرويَّة عن الإمام أحمد بنِ حنبلٍ في العقيدة» للأحمدي (٢/ ٢٧٥).
(٥) للشيخ الألبانيِّ ـ رحمه الله ـ رسالةٌ نُشِرَتْ في الردِّ على ابنِ حزمٍ ـ رحمه الله ـ ومَنْ تَبِعه في إباحته لآلات الطرب تحقيقًا وتفنيدًا، موسومةٌ ﺑ: «تحريم آلات الطرب».
(٦) أخرجه البزَّار (١/ ٣٧٧/ ٣٩٥) مِنْ حديث أنسٍ رضي الله عنه. وصحَّحه ابنُ القيِّم في «مسألة السماع» (٣١٨)، وحسَّنه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (٤٢٧).
(٧) أخرجه البخاريُّ في «الأشربة» بابُ ما جاء فيمَنْ يَستحِلُّ الخمرَ ويُسمِّيهِ بغيرِ اسْمِه (٥٥٩٠) مِنْ حديثِ أبي عامرٍ أو أبي مالكٍ الأشعريِّ رضي الله عنهما. قال الألبانيُّ ـ رحمه الله ـ في «السلسلة الصحيحة» للألباني (١/ ١٨٦) رقم: (٩١): «رواه البخاريُّ في «صحيحه» تعليقًا .. وقد وَصَله الطبرانيُّ (١/ ١٦٧/ ١)، والبيهقيُّ (١٠/ ٢٢١)، وابنُ عساكر (١٩/ ٧٩/ ٢) وغيرُهم مِنْ طُرُقٍ عن هشام بنِ عمَّارٍ به»، وقد رجَّح وَصْلَه النوويُّ في «شرح مسلم» (١/ ١٨)، وكذا ابنُ حجرٍ في «فتح الباري» (١٠/ ٥٢).
(٨) أخرجه مسلمٌ في «الأقضية» (١٧١٨) مِنْ حديثِ عائشة رضي الله عنها.
(٩) انظر ذِكْرَ النار والناقوس في: «صحيح البخاري» (٦٠٣) و«صحيح مسلم» (٣٧٨) مِنْ حديثِ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه، وذِكْرَ الناقوس والبوق في «صحيح البخاري» (٦٠٤) و«صحيح مسلم» (٣٧٧) مِنْ حديثِ ابنِ عمر رضي الله عنهما.