في حكم الصلاة باللباس الأحمر
السؤال:
ما حكمُ الصلاةِ باللباسِ الأحمرِ؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فمسألةُ لُبْسِ الأَحْمَرِ في الصلاةِ راجعةٌ ـ في الأصل ـ إلى حُكْمِ لُبْسِ الأحمر، وما عليه المالكيةُ والشافعيةُ وغيرُهم الجوازُ مُطلقًا؛ لحديثِ البراءِ بنِ عازبٍ رضي الله عنهما قال: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرْبُوعًا، بَعِيدَ مَا بَيْنَ الْمَنْكِبَيْنِ، لَهُ شَعَرٌ يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنِهِ، رَأَيْتُهُ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، لَمْ أَرَ شَيْئًا قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهُ»(١)، ولحديثِ أبي جُحَيْفَةَ رضي الله عنه: أنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «خَرَجَ فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ مُشَمِّرًا، فَصَلَّى إِلَى العَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ»(٢)، ولحديثِ عامرٍ الْمُزَنِيِّ رضي الله عنه بإسنادٍ فيه اختلافٌ قال: «رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى يَخْطُبُ عَلَى بَغْلَةٍ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ أَحْمَرُ»(٣).
وفي المسألةِ أدلَّةٌ مانعةٌ مِنْ لُبْسِ الأحمرِ، غايةُ ما فيها ـ إِنْ صحَّتْ ـ أنها تُفيدُ الكراهةَ دون التحريمِ، وهي ـ في حقيقتها ـ غيرُ صالحةٍ للاحتجاجِ لِمَا في أسانيدِها مِنَ مَقالٍ، فضلًا عن مُعارَضتِها للأحاديثِ الصحيحةِ الثابتة، وما صحَّ مِن هذه الأحاديثِ فهو قابلٌ للتأويلِ.
لذلك، يمكن تعليلُ النهيِ عن لُبْسِ الأحمرِ بالتعليلاتِ التالية، وكُلُّها لا تخلو مِنْ نظرٍ:
ـ فإذا علَّلْنا المنعَ بأنَّ الحمرةَ هي حِبُّ الشيطانِ وزينتُه لِمَا وَرَدَ في البابِ مِن أحاديثَ ـ لو صحَّتْ ـ فقَدْ لَبِسَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسَلَّم الحُلَّةَ الحمراءَ في غيرِ مرَّةٍ؛ فيَبْعُدُ منه أَنْ يَلْبَسَ ما حذَّرَنا مِن لُبْسِه. ولا يمكن التذرُّعُ بعدمِ تَعارُضِ الخاصِّ مِنَ القولِ مع فِعْلِه؛ لأنَّ العلَّةَ المذكورةَ مُشْعِرَةٌ بعدمِ الاختصاص، بلِ النبيُّ صلَّى الله عليه وآلِه وسلَّم أحَقُّ الناسِ بتجنُّبِ ما يُلابِسُه الشيطانُ، بناءً على أنَّ الأصلَ أنَّ: «مَا يَثْبُتُ لِأُمَّتِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ مَا لَمْ يَرِدْ دَلِيلٌ خَاصٌّ بِهِ»، ولا خصوصَ يُصاحِبُه.
ـ وإذا علَّلْنا النهيَ بمنعِ التشبُّهِ بالكُفَّارِ لِما رواهُ مسلمٌ مِن حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو قال: «رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّ هَذِهِ مِنْ ثِيَابِ الكُفَّارِ فَلَا تَلْبَسْهَا»»(٤)؛ فإنَّ النهيَ يَتوجَّهُ إلى نوعٍ خاصٍّ مِن الحمرةِ وهي الحمرةُ الحاصلةُ عن صِباغِ العُصْفُرِ على ما قرَّره ابنُ القيِّمِ ـ رحمه الله ـ جمعًا بينه وبين ما ثَبَتَ في الصحيحين مِنْ أَنَّهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كَانَ يَلْبَسُ حُلَّةً حَمْرَاءَ(٥).
وبنفسِ التوجيهِ يُجَابُ على ما ثَبَتَ مِنَ النهيِ عنِ المَيَاثِرِ(٦) الحُمْرِ(٧)؛ فإنَّ غايةَ ما تدلُّ عليه تحريمُ المِيثَرةِ الحمراءِ، قال أبو عُبَيْدٍ: «وأمَّا المَياثِرُ الحُمْرُ التي جاء فيها النهيُ فإنها كانَتْ مِن مَراكِبِ الأعاجم مِن ديباجٍ أو حريرٍ»(٨)، وقال ابنُ الأثير: «ويدخل فيه مَياثِرُ السُّرُوج؛ لأنَّ النهي يَشْمَلُ كُلَّ مِيثَرَةٍ حَمْرَاءَ، سواءٌ كانَتْ على رَحْلٍ أو سَرْجٍ»(٩).
قلت: وليس فيه ما يدلُّ على تحريمِ ما عَدَاها مع ما ثَبَتَ مِنْ لُبْسِه صلَّى الله عليه وسلَّم للحُلَّةِ الحمراءِ مرَّاتٍ.
ـ وإذا علَّلْنا النهيَ عن لُبْسِ الأحمرِ لأجلِ التشبُّهِ بالنساءِ لكونِه مِنْ زينتِهنَّ أو مِنْ أجلِ الشهرةِ وخَرْمِ المروءةِ؛ فإنَّ النهيَ ـ كما لا يخفى ـ غيرُ واقعٍ على ذاتِ الحمرةِ بل على غيرِها، ويُعارِضُ ذلك ـ أيضًا ـ لُبْسُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لها ـ كما تَقَدَّم ـ.
ـ أمَّا ما قرَّره ابنُ القيِّمِ ـ جمعًا بين الأحاديثِ ـ مِنْ أنَّ الحُلَّةَ الحمراءَ بُرْدانِ يمانيَّان منسوجان بخطوطٍ حُمْرٍ وسُودٍ، فإنَّ هذا الجمعَ يَفْتقرُ إلى دليلٍ؛ لِما عُلِمَ أنَّ الصحابيَّ ـ وهو مِنْ أهلِ اللغةِ واللسانِ ـ قد وَصَفَها بأنها حمراءُ؛ فينبغي حَمْلُها على الأحمرِ البَحْت؛ لأنه هو المعنى الحقيقيُّ لها، وحَمْلُ مَقالةِ ذلك الصحابيِّ على لغةِ قومِه آكَدُ، و«لَا يُصَارُ إِلَى المَعْنَى غَيْرِ الحَقِيقِيِّ إِلَّا بِدَلِيلٍ صَارِفٍ»(١٠) على ما هو مقرَّرٌ في موضعِه.
لذلك ينبغي استصحابُ الإباحةِ العقليةِ المقوَّاةِ بأفعالِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم الثابتةِ المُجيزةِ للُبْسِه لها لا سيَّما وقد ثَبَتَ لُبْسُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم لذلك بعد حَجَّةِ الوداعِ التي لم يَلْبَثْ ـ بعدها ـ سوى أيَّامٍ يسيرةٍ.
وهذا الرأيُ ذَهَبَ إليه جمعٌ مِنَ الصحابةِ والتابعين، وبه قال المالكيةُ والشافعيةُ ـ على ما قدَّمْنا ـ وارتضاهُ الشوكانيُّ ـ رحمه الله ـ بقوله: «والحقُّ أَنْ يَتوجَّهَ النهيُ عن المُعَصْفَرِ إلى نوعٍ خاصٍّ مِن الأحمرِ وهو المصبوغُ بالعُصْفُرِ؛ لأنَّ العُصْفُرَ يُصْبَغُ صِباغًا أَحْمَرَ؛ فما كان مِن الأحمر مصبوغًا بالعُصْفُرِ فالنهيُ مُتوجِّهٌ إليه، وما كان مِن الأحمر غيرَ مصبوغٍ بالعُصْفُرِ فلُبْسُه جائزٌ»(١١).
فإِنِ استقرَّ الحكمُ على هذا فإنَّ الصلاةَ باللباسِ الأحمرِ صحيحةٌ مِنْ غيرِ كراهيةٍ.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ١٥ ذو الحجَّة ١٤١٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٢ أفريل ١٩٩٧م
(١) رواه البخاريُّ في «المناقب» بابُ صفة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم (٣٥٥١)، ومسلمٌ في «الفضائل» (٢٣٣٧)، مِن حديث البَراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما.
(٢) رواه البخاريُّ في «الصلاة» باب الصلاة في الثوب الأحمر (٣٧٦)، ومسلمٌ في «الصلاة» (٥٠٣)، مِن حديث أبي جُحَيْفَة رضي الله عنه.
(٣) أخرجه أبو داود في «اللباس» باب الرخصة في الحمرة (٤٠٧٣) مِن حديث عامرٍ المُزَنيِّ رضي الله عنه. وقال الألبانيُّ في «صحيح أبي داود» (٤٠٧٣): «صحيحٌ».
(٤) رواهُ مسلمٌ في «اللباس والزينة» (٢٠٧٧) مِن حديث عبد الله بنِ عمرٍو رضي الله عنهما.
(٥) كما سَبَقَ في حديث البَراء بنِ عازبٍ، وحديثِ أبي جُحَيْفةَ رضي الله عنهم، (هامش: ١، ٢).
(٦) المَياثِر: جمعُ مِيثَرَةٍ مِن الوَثارة، قال ابنُ الأثير في «النهاية» (٥/ ١٥٠): «يقال: وَثُرَ وَثارةً فهو وثيرٌ، أي: وطيءٌ ليِّنٌ، وأصلُها: مِوْثَرةٌ؛ فقُلِبَتِ الواوُ ياءً لكسرةِ الميم، وهي مِن مَراكِبِ العَجَم، تُعْمَلُ مِن حريرٍ أو دِيباجٍ».
(٧) انظر الحديث الذي رواهُ البخاريُّ في «اللباس» باب المِيثَرَةِ الحمراء (٥٨٤٩) مِن حديث البَراء بنِ عازبٍ رضي الله عنهما.
(٨) «غريب الحديث» للقاسم بنِ سلَّام (١/ ٢٢٨)، وانظر: «الصِّحاح» للجوهري (٢/ ٨٤٤).
(٩) «النهاية» لابن الأثير (٥/ ١٥١).
(١٠) انظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٢/ ١١٤).
(١١) «السيل الجرَّار» للشوكاني (١٠٢)، وانظر: «نيل الأوطار» للشوكاني (٢/ ١١٤).