البيروني، العالم الذي سبق زمانه
يزخر تاريخ الإسلام بأعلام بصموا الحضارة بإنتاجاتهم وأفكارهم، وأسسوا لبناء علوم كثيرة، وقدموا للإنسانية إرثاً علميا توارثته الأجيال، ولا زال حتى يومنا هذا زادا ينهل منه الباحثون في شتى فروع المعرفة. والغريب هو أن بعض هؤلاء الأعلام لا تكاد تسمع لهم ذكرا بين أبناء دينهم وجلدتهم، بل هم أكثر شهرة وحضورا عند الآخر المقدر للعلم والعلماء. ومن بين هؤلاء الأعلام نجد البيروني.
هو أبو الريحان أحمد بن محمد البيروني الخوارزمي، ولد في بلدة بيرون سنة 362هـ/973م، وتوفي سنة 440هـ/1048م بغزنة (كابل اليوم). فيلسوف ورياضي ومؤرخ، اطلع على فلسفة اليونانيين والهنود، وكان ذا شهرة عالية ومكانة متميزة عند ملوك عصره. له مؤلفات كثيرة ومهمة في ضروب مختلفة من العلم ترجمت أغلبها إلى أهمّ اللّغات العالمية. ففي الجغرافيا ألَّف: تصحيح الطول والعرض لمساكن المعمور من الأرض. وفي التاريخ ألف: الآثار الباقية عن القرون الخالية. وفي الفلك له: الاستشهاد باختلاف الأرصاد. ومما أُثِرَ عنه في الرياضيات: كتاب استخراج الكعاب والأضلاع وما وراءه من مراتب الحساب. وفي الأدب كتب شرح ديوان أبي تمام. وله في الفلسفة: كتاب المقالات والآراء والديانات، وغير ذلك من المؤلَّفات الضخمة التي تربو على الأربعمائة كتاب. وبهذه المؤلفات يكاد يكون البيروني قد ألَّف في كل فروع المعرفة التي عهدها عصره.
لقد قدم البيروني إسهامات علمية قيمة في ميدان العلوم التجريبية، فقام بحسابات وحل معادلات لا تعالج اليوم إلا بالأدمغة الالكترونية، واختار أصعب المسائل وحلها، وتسمى هذه المسائل الهندسية والرياضية «مسائل البيروني». وابتكر نظرية خاصة لتقدير «النسبة التقريبية» الضرورية لحساب مساحات ومحيطات الدوائر، وتمكن من تقدير محيط الكرة الأرضية وقطره. واهتم بالخواص الفيزيائية لكثير من المواد، وتناولت أبحاثه علم ميكانيكا الموائع والهيدروستاتيكا، كما انضم مع ابن سينا إلى الذين شاركوا ابن الهيثم في رأيه القائل بأن الضوء يأتي من الجسم المرئي إلى العين. ومن أبرز ما قام به البيروني أنه توصل إلى تحديد الثقل النوعي لـ 18 عنصرًا مركبًا، بعضها من الأحجار الكريمة، مستخدمًا الجهاز المخروطي، وقد استخرج قيم الثقل النوعي لهذه العناصر منسوبة إلى الذهب مرة وإلى الماء مرة أخرى. وفي ظاهرة الجاذبية كان البيروني، مع ابن الحائك، من الرواد الذين قالوا بأن للأرض خاصية جذب الأجسام نحو مركزها. ومن المسائل الفيزيائية التي تناولها البيروني في كتاباته ظاهرة تأثير الحرارة في المعادن، وضغط السوائل وتوازنها، وتفسير بعض الظواهر المتعلقة بسريان الموائع، وظاهرة المد والجزر وسريان الضوء.
فلا عجب بعد هذا كله أن نجد المستشرق الألماني “سخاو” يصفه بقوله: “إن البيروني من أضخم العقول التي ظهرت في العالم، وإنه أعظم علماء
عصره، ومن أعظم العلماء في كل العصور.” ونجد جورج سارتون يقول فيه: “كان رحّالة وفيلسوفًا، ورياضيًّا، وفلكيًّا، وجغرافيًّا، وعالمًا موسوعيًّا، ومن أكبر
عظماء الإسلام، ومن أكابر علماء العالم” ونجد أيضا المستشرق الروسي كراتشكوفسكي يقول فيه: “لا نملك إزاء هذا إلا الانحناء في خشوع واحترام أمام النتائج العلمية الباهرة التي توصل إليها، والتراث العلمي الحافل الذي أنتجه في ظروف الزمان الذي عاش فيه”. ولا عجب كذلك أن نجد في القمر أماكن تحمل اسمه، وأن تسمي روسيا مدينة وجامعة باسمه، وتقيم له تمثالا في جامعة موسكو، وتنظم في شأنه الندوات، ويكرم من قبل دول عديدة.
المصادر:
طوقان فدوى، العرب وما قدموه للحضارة، دار الكتاب العربي بيروت، ص163 وما بعدها.
عفيفي محمد الصادق، تطور الفكر العلمي عند المسلمين، 1977، مكتبة الغانجي القاهرة، ص112-115.
حميدة عبد الرحمن، أعلام الجغرافيين العرب، 1984، دار الفكر دمشق، ص340-342.
موسوعة أعلام الفلسفة العرب والأجانب، ج1، ص299-300
الزركلي خير الدين، الأعلام، 2002، دار العالم للملايين بيروت، ص314
المصدر
mqalh
يوسف الشاطر