عمود الشعر في القرن الثالث الهجري:
نشطت الأبحاث الأدبية في البلاغة و خصائصها و ما زالت حركة البحث فيها تقدم حتى القرن الخامس و ما يليه و بلغت أوجها، و من أعلام هذا البحث: الجاحظ 250هـ و ابن قتيبة 276هـ و قدامة بن جعفر 277 و أبي الحسن الجرجاني 266، و الآمدي 370، و أبي هلال العسكري 395، و الباقلاني 402، و ابن رشيق 463، و ابن سنان 466، و عبد القاهر الجرجاني 471.
ثنائية اللفظ والمعنى في القرن الثالث:
أسس الجاحظ الثنائية بين اللفظ و المعنى يقول الجاحظ: المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العربي و الأعجمي، و القروي و البدوي، و إنما الشعر صياغة و ضرب من النسج و جنس من التصوير.
فالشعر العربي في خصيصة صياغته، و طريقة تشكيله و تقديمه، و إن براعة الشاعر الخاصة هي الشكلية أو الأسلوبية و فرادة الطريقة التي يتميز بها، و لم تعد أهمية للمعاني فهي ميسرة و مطروحة في الطريق.
اللفظ و المعنى عند ابن قتيبة:
الفصل بين اللفظ و المعنى في الشعر ظهر عند ابن قتيبة أيضا حيث يقسم النص الشعري إلى أربعة أضراب:
- حسن لفظه و جاد معناه.
- حسن لفظه و حلا، و أما معناه فليس فيه فائدة.
- جاد معناه و قصرت ألفاظه.
- تأخر معناه و تأخر لفظه.
و المراد باللفظ كل ما يتعلق بالصياغة أو طريقة تشكيل المعنى و الصور البلاغية و الفنية، فهو هنا يفصل بين اللفظ و المعنى، و إن المعاني كما يرى أنها تتفاوت، و أنها ليست كما يعتبرها الجاحظ بأنها مطروحة في الطريق.
القول بثنائية اللفظ و المعنى في الشعر أضرت بالنقد الأدبي عند العرب، و أدت إلى الفصل الكامل بين شكل العمل الأدبي و محتواه، و النظر إلى الصور الفنية، و كل أشكال الأسلوب باعتبارها من أشكال الزينة الطارئة على معنى سابق عليها.
و ممن انتقد الفصل بين اللفظ و المعنى من النقاد عبد القادر الجرجاني صاحب كتاب دلائل الإعجاز و أسرار البلاغة، فقد أثبت مبدأين:
الأول: إن البلاغة لا تقوم على اللفظ بذاته و لا على المعنى بذاته بل على طريقة نظمهما معاً في الجملة.
الثاني: إن النظم العالي لا يعني مجرد الإجادة في رصف الألفاظ و العبارات كقول أحدهم «لله درّ خطيب قام عندك يا أمير المؤمنين: ما أفصح لسانه، و أحسن بيانه، و أمضى جنابه، و أبل ريقه، و أسهل طريقه، أو كقول الجاحظ:جنبك الله الشبهة و عصمك عن الحيرة، و جعل بينك و بين المعرفة نسباً، و بين الصدق سبباً، و حبب إليك التثبت و زين في عينيك الإنصاف،... إلخ فهذا عند الجرجاني كلام حسن الرصف سبيل صاحبه في ضم بعضه إلى بعض سبيل من عمد إلى لآلي فخرطها في سلك لا يبتغي أكثر من أن يمنعها من التفرق.
فالبلاغة عند الجرجاني لا تقف عند الإجادة في رصف الألفاظ.
و العلامة المرزوقي يؤكد في النص السابق على أن المعنى يعرض على العقل و الفهم الثاقب بمعنى أن يكون صحيحا يقبله العقل و يفهمه فإذا كان كذلك لقي القبول و الاصطفاء مستأنسا بقرائنه فيخرج وافيا كاملا و إلا انتقص بمقدار شوبه، و وحشته أي بقدر غريبه و ابتعاده عن الصواب يكون ناقصا ممقوتا مكروها من النفوس .
و أن اللفظ يجب أن يكون مطبوعا، و مرويا و مستعملا لا متروكا و غريبا و ليس فيه تعقيد أي فصيحا و هذه الفصاحة تكون على مستويين:
مستوى اللفظة المفردة: و يكون بسلامة الكلمة مفردة و معنى سلامتها أن تكون الكلمة خالية من حروف مكررة فيها تقارب في المخارج مما يؤدي صعوبة النطق و مثال ذلك: مستشزرات، و خوع هوع ، و همع الهوامع .
أما المستوى الثاني: هو الجملة بأكملها أي لا تكون المفردة معيبة بنفسها و لكن من خلال ربطها مع مفردات أخرى تكون هجينا أي مستهجنة مستصعبة و مثال ذلك قول أحد الشعراء :
و قبر حرب بمكان قفر و ما قرب قبر حرب قبر
كما يجب أن تكون اللفظة على قدر المعنى جزلة مؤدية إلى المعنى المنشود بلا إضافة و لا نقصان و هنا تظهر براعة الشاعر، و فحولته التي تميزه عن غيره من الشعراء.
أما الإصابة في الوصف فهي تعني الصدق في الوصف حيث يصف الشيء بما فيه صائبا في وصفه له بذاك الوصف الذي يكون ملاصقا له، و هنا تعتمد الإصابة على ذكاء الشاعر، و حسن تمييزه للأشياء و هذا هو معنى ما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في زهير قوله :"كان لا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال " فلا يمكن أن تمدح الرجل بالجمال الجسدي لأنه من خصائص النساء لا الرجال .
أما المقاربة في التشبيه فتعتمد على حسن التقدير و الفطنة حيث يقوم الشاعر بالدلالة على المشبه بالمشبه به بشيء يقرب المعنى للأذهان لا يبعدها عن مدارك المشبه بإتيانه بصفة غريبة عن المشبه و المقاربة في التشبيه، مما ينسجم مع النزعة المنطقية العقلية من جهة، و يرتبط بالتوافق الشكلي من جهة ثانية. يقول جابر عصفور :" " و الإصابة و المقاربة ..... مصطلحان يمكن أن يندرجا تحت ما نسميه بالتناسب المنطقي بين أطراف التشبيه، لأنهما يرتبطان ـ في النهاية ـ بمدى التوافق الشكلي بين الأطراف "
أما التحام أجزاء النظم و التئامه على تخير من لذيذ الوزن فهو معتمد على دربة اللسان، و طبعه على النطق بكل سهولة من غير ملل، و لا كلل بسبب ثقل المفردة المنطوقة فإذا كان النظم كاملا سلسا سهل النطق غنائي اللفظ موسيقي الإيقاع كان مرتبط ترابطا عضويا القصيدة منه كالبيت الواحد و البيت كالكلمة الواحدة حتى ليكون سهل الحفظ و الفهم أما إذا كان على غير ذلك فإنه يكون رديء حتى ليعجز الرجل الفهامة و الحفاظة عن فهمه و حفظه.
و أما مناسبة المستعار منه للمستعار له فهي تعتمد على صفاء الذهن و الفطنة، و ملاك الأمر تقريب التشبيه في الأصل حتى يتناسب المشبه و المشبه به،
أما مشاكلة اللفظ للمعنى و شدة اقتضائهما للقافية فهو يعتمد على طول الدربة و دوام المدارسة حتى لا يكون بين اللفظ و المعنى خلل أو جفاء أو قصور أو زيادة و معنى هذا أن تكون كمية الألفاظ مناسبة بالضبط لقوالب المعاني، و كأنها مخيطة على قياسها و أن تكون القافية فوق ذلك معقولة يتوقعها السامع قبل أن تأتي.
هذه هي خصال عمود الشعر عند العرب كما ساقها العلامة المرزوقي في مقدمة شرحه لديوان الحماسة.
الخروج عن عمود الشعر:
بما أن موضوع البحث عن عمود الشعر العربي ارتأيت الحديث عن موضوع يرتبط به ألا و هو الخروج عن عمود الشعر الذي ذكره العلامة المرزوقي في مقدمة ديوان الحماسة لذلك علينا أن نفرق بين الخروج عن عمود الشعر و الخروج عن خصلة من خصاله، إن الخروج عن إحدى الخصال لا يعتبر ابتكارا جديدا، خاصة إذا كانت الخصلة تشبه الرداء، حين نخلع عن الشيء رداءه القديم، يبقى هو إذا لم نغير البدن. و المرزوقي نفسه و هو بصدد كلامه عن الخصال يتكلم عن " من لم يجمعها كلها". إذا، فمسألة عدم جمع الخصال مسألة مطروحة منذ المرزوقي (ت:421 هـ). لذلك نقول: إن الخروج عن إحدى خصال عمود الشعر أصبح معتبرا لا ممتهنا لأنه لولا الخروج عن إحدى خصال عمود الشعر لما تنوعت الأشعار كشعر التفعيلة و الشعر الحر و هذا خلاف نظرة أبي مسلم البهلاني للشعر الحر حيث يقول: "هذا الكلام المؤلف و المسمى الشعر الحر لا أعتبره شعرا و لا أرتاح له".فنجد أبا مسلم هنا يرفض و بشكل واضح الخروج عن إحدى خصال عمود الشعر، و يرى التمسك بعمود الشعر و القصيدة العمودية هو الأصح و الباحث يوافق أبا مسلم في هذا الرأي.
الخاتمة:
إن قضية عمود الشعر قضية تحدث فيها علماء كثيرون، و من بينهم العلامة المرزوقي، وعبد القادر الجرجاني، و آخرون و ما هذا إلا لأهمية هذه القضية في الميزان النقدي و التراث البلاغي، و على السير بأحكام عمود الشعر يعرف الشاعر المبدع الفحل من غيره؛ لأن الشاعر أرستقراطي في استعمال اللغة و عمود الشعر هو أحد السبل التي تصل بالشاعر إلى درجة الإبداع و التميز، و قد قمت في البحث المنصرم بشرح و تعريف عمود الشعر، و ما اتصل به من معان آملا أن يستفيد من هذا العمل جميع القارئين من دارسين و مدرسين.
المصادر:
1 – شرح ديوان الحماسة لأبي علي أحمد المرزوقي ج 1 ،ط2،1967 م .
2- الموازنة لأبي القاسم الحسن بن بشر الآمدي ،مكتبة العلمية ،بيروت ،1944 م .
تم بحمد الله
موضوع: عمود الشعر ج2 
20/4/2009, 00:40
