فن المعاني
المعاني علم يعرف به أحوال اللفظ العربي التي بها يكون بليغاً فصيحاً في أفراده وتركيبه(1 ) فالفصاحة أن يكون الكلام خالصاً أي سالماً مما يعد عيباً في اللغة بأن يسلم من عيوب تعرض للكلمات التي تركب منها الكلام أو تعرض لمجموع الكلام(2 ) فالعيوب العارضة للكلمات ثلاثة الغرابة، وتنافر الحروف، ومخالفة قياس التصريف، والعيوب العارضة لمجموع الكلام ثلاثة التعقيد (3 ) وتنافر الكلمات، ومخالفة قواعد النحو ويسمى ضعف التأليف.
أما الغرابة فهي قلة استعمال الكلمة في متعارف أهل اللغة أو تناسيها في متعارف الأدباء مثل الساهور اسم الهلال ومثل تكأكأ بمعنى اجتمع وافر نقع بمعنى تفرق في قول أبي علقمة أحد الموسوسين وقد أصابه صرع فأحاطت به الناس (( مالكم تكأكأتم علي كما تكأكأون على ذي جنة افر نقعوا))( 4) وأما تنافر الحروف فهو ثقل قوي في النطق بالكلمة لاجتماع حروف فيها يحصل من اجتماعها ثقل نحو الخعخع نبت ترعاه الإبل وأقل منه في الثقل مستشزرات بمعنى مرتفعات وأما الثقل الذي لا يضجر اللسان فلا يضر نحو وسبحه وقول زهير
* ومن هاب أسباب المنايا ينلنه*
وأما مخالفة قياس التصريف فهو النطق بالكلمة على خلاف قواعد الصرف.
كما يقول في الفعل الماضي من البيع بَيَعَ لجهله بأن حرف العلة إذا تحرك وانفتح ما قبله يقلب ألفا.
وأما التعقيد فهو عدم ظهور دلالة الكلام على المراد لاختلال في نظمه ولو كان ذلك الاختلال حاصلا من مجموع أمور جائزة في النحو كقول الفرزدق يمدح إبراهيم بن هشام المخزومي خال الخليفة هشام بن عبد الملك
وما مثله في الناس إلا مملكا
أبو أمه حي أبوه يقاربه
أراد وما مثله في الناس حي يقاربه أي في المجد إلا ملكاً أبو أم الملك أبو هذا الممدوح فشتت أوصال الكلام تشتيتاً تضل فيه الأفهام( 5) وأما التنافر فهو ثقل الكلمات عند اجتماعها حين تجتمع حروف يعسر النطق بها نحو قول الراجز الذي لا يعرف.
وقبر حرب بمكان قفر
وليس قرب قبر حرب قبر
فكل كلمة منه لا تنافر فيها وإنما حصل التنافر من اجتماعها حتى قيل إنه لا يتهيأ لأحد أن ينشد النصف الآخر ثلاث مرات متواليات فلا يتلعثم لسانه.
( ) نسبة للخصوص وهم خاصة الناس في هذا الباب أعني بلغاء الكلام لأن هاته الأحوال لا توجد إلا في كلام البلغاء دون كلام السوقة ولئن وجدت في كلام السوقة فإنها غير مقصود بها مرماها.
( ) أصل المعنى هو المقدار الذي يتعلق غرض المتكلم بإفادته المخاطب سواء كان قليلاً نحو نزل المطر أو بزيادة معنى نحو نزل الجود ورسف فلان فإنه يفيد أزيد من نزل المطر ومشى فلان لكنه أفاده بمدلول الكلمات وقد تكون الزيادة في المعنى نحو جاء فلان الكاتب وكل هذا من قبيل أصل المعنى لأن جميعه تعبير لزمت إفادته فالحاصل أن أصل المعنى يطول ويقصر بحسب الغرض وهو فوائد أصلية، ثم إذا كيف المتكلم بكيفيات فتلك الكيفيات زائدة على أصل المعنى.
( ) أحوال المخاطبين مثل حال المنكر والمتردد والمعتقد العكس في القصر وحال الذكي والغبي في إيراد الكناية وأما المقامات فهي أغراض الكلام والمواقع التي يتلكم فيها البليغ مثل مقام الحرب ومقام السلم ومقام الحب ومقام الموعظة ومقام الاستدلال العلمي ومقام الخطابة الاقناعي.
وأما مخالفة قياس النحو فهو عيب كبير لأنه يصير الكلام مخالفاً لاستعمالات العرب الفصحاء فهو يعرض للمولدين والمراد منه مخالفة ما أجمع النحاة على منعه أو ما كان القول بجوازه ضعيفاً ووروده في كلام الغرب شاذاً نحو تعريف غير في كقول كثير من طلبة العلم الغير كذا ونحو تقديم التأكيد على المؤكد في قول المعري
تعب كلها الحياة فما أعــ
ـجب إلا من طامع في ازدياد
وكذلك كل ما جوزه في ضرورة الشعر إذا وقع شيء منه في النثر فضعف التأليف عيب لا يوجب إنبهام المعنى بخلاف التعقيد.
والبلاغة اشتمال الكلام على أحواله خصوصية( ) تستفاد بها معان زائدة على أصل المعنى( ) بشرط فصاحته كاشتمال قوله تعالى: ((فقالوا إنا إليكم مرسلون)) على حالة خصوصية وهي التأكيد بأن لإفادة معنى زائد وهو توكيد الخبر لأجل إبطال تردد المخاطبين فيه وذلك أمر زائد على أصل المعنى وهو الإعلام بكونهم رسلاً الذي يكفي لإفادته أن يقال أرسلنا إليكم أو نحن إليكم مرسلون وتسمى هذه الأحوال الخصوصية بالنكت وبالخصوصيات وهي تكثر وتقل في الكلام بحسب وجود الدواعي والمقتضيات من كثرة وقلة كالأدوية فإنها تشتمل على عقاقير كثيرة تارة وقليلة أخرى بحسب ما يحتاجه المزاج لإصلاحه، انظر مثلاُ قوله تعالى: ((هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور)) فنجد في قوله ((ينزل)) خصوصيتين: إحداهما التعبير بصيغة ((فعَّل)) الدالة على التكرير، والثانية التعبير بصيغة المضارع الدالة على التجدد والاستمرار لأن المقام للتبشير بزيادة الإخراج من الظلمات إلى النور يوماً فيوماً وفي كل حال، وانظر قوله في الآية الأخرى ((نزل عليك الكتاب بالحق)) فلا تجد في ((نزل)) إلا خصوصية واحدة وهي التعبير بصيغة (فعل) لأن المقام للامتنان، والامتنان يكون بما وقع لا بما سيقع والبليغ في إتيانه بهذه الأحوال في كلامه يراعي أحوال المخاطبين ومقامات الكلام( ) فلا يأتي بنكتة وخصوصية إلا إذا رأى أن قد اقتضاها حال المخاطب واستدعاها مقام الكلام وبمقدار تفاوت المتكلمين في تنزيلها على مواقعها يتفاوت الكلام في مراتب البلاغة إلى أن يصل إلى حد الإعجاز الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله وهو الذي اختص به نوابغ بلغاء العرب مثل امرئ القيس والنابغة والأعشى وسحبان في أكثر كلامهم.
وحيث كانت البلاغة يتصف بها الكلام باعتبار إفادته عند التركيب والإسناد فلا جرم إن كان ملاك الأمر فيها راجعاً إلى ما يتقوم به الإسناد وكذلك كيفيات الإسناد والمسند إليه والمسند ثم تتفرع البلاغة في متعلقاتها من المعمولات أحوال الجمل وسيجيء كل نوع من ذلك في بابه.