|
|
كاتب الموضوع | رسالة |
---|
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:26 | |
| بالأمس أكمل عميد الرواية العربية نجيب محفوظ عامين من الغياب، وقد قررت 'أخبار الأدب' أن تستعيده بهذه الحكايات من 'حكايات حارتنا ' النص الأقرب إلي أن يكون سيرة له ولأيام طفولته. منقول عن 'أخبار الأدب' |
|
| |
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:27 | |
| الحكاية رقم '1' يروق لي اللعب في الساحة بين القبو والتكية. ومثل جميع الأطفال أرنو إلي أشجار التوت بحديقة التكية. أوراقها الخضر هي ينابيع الخضرة الوحيدة في حارتنا. وثمارها السود مثار الأشواق في قلوبنا الغضة. وها هي التكية مثل قلعة صغيرة تحدق بها الحديقة، بوابتها مغلقة عابسة، دائما مغلقة، والنوافذ مغلقة، فالمبني كله غارق في البعد والانطواء والعزلة، تمتد أيدينا إلي سوره كما تمتد إلي القمر. وأحيانا يلوح في الحديقة ذو لحية مرسلة وعباءة فضفاضة وطاقية مزركشة فنهتف كلنا: 'يادرويش.. إن شا الله تعيش'. ولكنه يمضي متأملا الأرض المعشوشبة أو يتمهل عند جدول ماء، ثم لا يلبث أن يختفي وراء الباب الداخلي. من هؤلاء الرجال يا أبي؟ إنهم رجال الله.. ثم بنبرة ذات معني: ملعون من يكدر صفوهم! ولكن قلبي مولع بالتوت وحده. وينهكني اللعب ذات يوم فأجلس علي الأرض لأستريح ثم أغفو. أستيقظ فأجدني وحيدا في الساحة، حتي الشمس توارت وراء السور العتيق، ونسائم الربيع تهبط مشبعة بأنافس الأصيل. علي أن أمرق من القبو إلي الحارة قبل أن يدلهم الظلام. وأنهض متوثبا ولكن إحساسا خفيا يساورني بأنني غير وحيد، وأنني أهيم في مجال جاذبية لطيف، وأن ثمة نظرة رحيبة تستقر علي قلبي، فأنظر ناحية التكية. هناك تحت شجرة التوت الوسيطة يقف رجل. درويش ولكنه ليس كالدراويش الذين رأيت من قبل. طاعن في الكبر، مديد في الطول، وجهه بحيرة من نور مشع. عباءته خضراء وعمامته الطويلة بيضاء وفخامته فوق كل تصور وخيال. ومن شدة حملقتي فيه أثمل بنوره فيملأ منظره الكون. وخاطر طيب يقول لي إنه صاحب المكان وولي الأمر، وأنه ودود بخلاف الآخرين. أقترب من السور ثم أقول بابتهال: إني أحب التوت.. فلم ينبس ولم يتحرك فأتوهم أنه لم يسمعني، أكرر بصوت أعمق: إني أحب التوت.. يخيل إلي أنه يشملني بنظرة، وصوته الرخيم يقول: 'بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد'. ويخيل إلي أنه رمي إلي بثمرة فأنحني نحو الأرض لألتقطها فلا أعثر علي شيء ثم أستقيم فأجد مكانه خاليا، والظلمة تغشي الباب الداخلي. وأقص القصة علي أبي فيرمقني بارتياب فأؤكدها له فيقول: تلك الأوصاف لاتكون إلا للشيخ الكبير ولكنه لايغادر خلوته! فأحلف له علي صدقي بكل مقدس فيسألني: تري ما معني الرطانة التي حفظتها؟ سمعتها مرارا ضمن تراتيل التكية.. فيصمت أبي مليا ثم يقول: لاتخبر بذلك أحدا. ويبسط يديه ثم يتلو الصمدية. وأهرع إلي الساحة فأتخلف وحدي بعد ذهاب الصبيان. أنتظر ظهور الشيخ فلا يظهر. أهتف بصوتي الرفيع: 'بلبلي خون دلي خورد وكأني حاصل كرد'. فلا يجيب. أعاني بلاء الانتظار وهو لايرحم لهفتي. وأتذكر الحادثة في زمن متأخر، أتساءل عن حقيقتها، هل رأيت الشيخ حقا أو ادعيت ذلك استوهابا للأهمية ثم صدقت. نفسي؟، هل توهمت ما لا وجود له من أثر النوم ولكثرة ما يقال في بيتنا عن الشيخ الكبير؟. هكذا أفكر، وإلا فلماذا لم يظهر الشيخ مرة أخري؟. ولماذا يجمع الناس علي أنه لايغادر خلوته؟. هكذا خلقت أسطورة وهكذا بددتها. غير أن الرؤية المزعومة للشيخ قد استقرت في أعماق نفسي كذكري مفعمة بالعذوبة. كما أنني مازلت مولعا بالتوت |
|
| |
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:29 | |
| الحكاية رقم '2' شمس الضحي تسطع والسماء صافية. من موقفي فوق السطح أري المآذن والقباب، وأري غرابا واقفا علي وتد مغروز في سور السطح مربوط به حبل الغسيل. أرمق السطح الملاصق فيتحلب ريقي. تحدثني نفسي بأن أذهب إلي ست أم زكي لأحظي بشيء من الحلوي. وأعبر السور، أمضي نحو المنور، أطل من نافذة فيه مخلوعة الزجاج، أري تحت المنور مباشرة ست أم زكي عارية تماما. تجلس علي كنبة تتشمس، تمشط شعرها، عارية تماما.. منظر غريب وباهر، وهي في ضخامة بقرة. وأهتف: ياتيزة! ترتعب، تنظر إلي فوق، لاتلبث أن تضحك، تصيح بي: ياعكروت.. أنزل.. أهبط بسرعة ثم أقف عند الباب بحذر مبهم وأتساءل: أدخل؟ وتسمح فأدخل، اقترب من مجلسها فترمقني بنظرة باسمة وتقول: وقعت يابطل.. وتستلقي علي بطنها وتقول: دلك لي ظهري. أشمر عن ساعدي، أدلك ظهرها بحماس ورضا، أشم رائحة جسد بشري معبق بالصابون والقرنفل، وهي تتمتم: تسلم يداك! ثم بمزاح: أنت عفريت من الجنة! ثم وهي تضحك: الكتكوت الفصيح يخرج من البيضة يصيح. ويزداد حماسي في العمل فتقول: ارفع يدك لفوق ياشيطان، هل ستخبر أمك؟ كلا. فتضحك وتقول: وعارف أيضا أنه يوجد ما لايقال، حقيقة أنك شيطان، هل تعلمت التدليك في الكتاب؟. ماذا تدرس في الكتاب؟ الفاتحة وألف باء. ربنا يحفظك وأشوفك ماشطة، ماذا ستأكل اليوم؟ بامية. عظيم سأتغدي عندكم. زياراتها لبيتنا ندوات للبهجة والمرح، تنثال الملح من فيها بلا حساب، وكذلك النكات المكشوفة، فتحاول أمي أن تبعدني ولكني أرجع، وتشير لها إشارات خفية محذرة فأتشبث بالبقاء وتتمادي هي في الدعابة. وتسألها أمي معاتبة: متي تصلين وتصومين! فتجيب: في آخر شهر قبل يوم القيامة. في الخمسين، مهذارة مرحة طروب ولكنها لم تنزلق لسوء، وعمل ابنها زكي نجارا في حارتنا فسار بين الناس مرفوع الرأس. وهي تدمن التدخين والقهوة وسماع أسطوانات منيرة المهدية، أرملة، في كل بيت لها صديقة حميمة، لم تشتبك في مشاجرة واحدة في حارتنا الحافلة بالمشاحنات.
وتتنهد أمي ذات يوم وتقول: مسكينة يا أم زكي، ربنا يرعاك ويشفيك.. تتوعك صحتها، وتأخذ في التدهور، تهزل بسرعة مذهلة كأنها كرة ثقبت، يترهل جسمها فيغدو طيات من الجلد خاوية، وتخيب في شفائها كافة الوصفات، وتفتي حكمة حارتنا الخالدة بأن مرضها ليس مرضا من الامراض المعروفة ولكنه فعل من أفعال 'الأسياد' والا شفاء لها إلا بالزار. ويجيء اليوم المشهود فيكتظ بيت جارتنا بالنساء، ويعبق بالبخور، وتتسلط عليه جوقة من السودانيات يكتنفهن الغموض والأسرار. وأطل برأسي من المنور فأري صديقتي في مشهد جديد، تجلس علي عرش في عباءة مزركشة بالتلي والترتر، متوجة الرأس بتاج من العاج تتدلي منه عناقيد الخرز مختلف الألوان، منقوعة القدمين في وعاء من ماء الورد تستقر في قعره حبات من البن الأخضر. وتدق الدفوف، وتهزج الحناجر النحاسية بالأناشيد المرعشة، فتفوح في الجو أنفاس العفاريت، ويدعو كل عفريت صاحبته المختارة من بين المدعوات للرقص، فتموج القاعة بالحركات، وتتوهج بالتأوهات، وتذوب الأجساد في الأرواح. وها هي أم زكي تتلوي بعنف كأنما ردت إلي جنون الشباب، وعن فيها المزين بالأسنان المذهبة يصدر صفير حاد، ثم تركض دائرة حول العرش، ويتحول ركضها إلي اندفاع رهيب، وتدور وتدور حتي تترنح من الإعياء وتتهاوي مغشيا عليها.. وجلجلت زغرودة وارتفع صوت مبتهلا: ليشهدنا خاتم الرسل الكرام.
وها هي الأيام تمر. وصحة صديقتي لاتتحسن. لاتمزح الآن ولا تضحك وتتساءل في جزع: ماذا جري لي؟.. ماذا جري لي يارب؟!.. أين أنت يا أم زكي؟! ويضطر المعلم زكي أخيرا إلي نقلها إلي قصر العيني. وتودع عيناي الدامعتان الكارو وهي تتأرجح بها. وتلمحني واقفا فتلوح لي بيدها وتقول: أدع لي فإن الله يستجيب لدعاء الصغار. فأرفع عيني إلي السماء وأتمتم: 'يارب.. رجع لنا تيزة أم زكي' ولكن كأن الكارو حملتها إلي بلاد الواق الواق. |
|
| |
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:31 | |
| الحكاية رقم '3' اليوم جميل ولكنه يعبق بسر. أبي ينظر إلي باهتمام. يبتسم لي برقة وهو يحتسي قهوته. وهو يهم بالذهاب يداعب شعري ويربت علي منكبي بحنان ثم يمضي. وأمي تقوم بعملها اليومي بعصبية، تغضي عن عبثي وتقول لي مشجعة: العب ياحبيبي.. لا نظرات تهديد ولازجر ولا وعيد. وأصعد إلي السطح بعض الوقت ولما أرجع أجد أمامي جارتنا الشامية أم برهوم. أعدو إلي المطبخ لأخبر أمي ولكني لم أجدها. وأنادي عليها بلا جدوي فتقول لي أم برهوم: تيتك ذهبت في مشوار، وأنا معك حتي ترجع.. فأقول محتجا: ولكني أريد أن ألعب في الحارة. وتتركني وحدي وأنا ضيفتك؟ وأصبر متضايقا. ويدق الباب فتوميء لي بالانتظار وتذهب.. تغيب دقيقة وإذا بعم حسن الحلاق ومساعده يدخلان باسمين فقلت لهما من فوري: أبي خرج. فقال العجوز: نحن ضيوف!، سنريك لعبة فريدة. وجلس علي كنبة وهو يبسمل ثم قال وهو يخرج من حقيبته أدوات بيضاء لامعة: يسرك بلا شك أن تتعلم كيف تستعمل هذه الأدوات. وأهرع نحوه متملصا من ارتباكي! ويجيء مساعده بمقعد فيجلسني عليه أمام المعلم قائلا: هكذا أفضل. وإذا بيديه تكبلانني من الذراعين والساقين بقوة وإحكام فكأنها ألصقت بالغراء والمسامير، فصرخت غاضبا: ابعد عني واستغثت بأم برهوم ولكنها كانت فص ملح ذاب.. ولم أفهم شيئا مما يحدث حتي بدأت العملية الرهيبة، ها أنا أعاني هجمة وحشية طاغية لا أستطيع لها دفعا ولامنها مفرا. وها هو الألم الحاد القاسي ينشب أظافره الشوكية في لحمي وينساب بمكر شيطاني إلي أطراف جسمي وصميم قلبي. وها هو صراخي يدك الجدران ويجتاح أرجاء حارتنا.
لا أدري ماذا يدور مدة من الزمن. أغوص في الماء بين اليقظة والنوم. تمر بي أجيال من الألوان والمخاوف والأحزان. وعند نقطة من الزمن تلوح لي أمي بوجه يرنو بالاعتذار والتشجيع. وقبل أن أفتح فمي محتجا أو متهما تضع بين يدي هدايا الشيكولاتة والملبس. وأعيش أياما بين ذكريات أليمة وكنوز من الحلوي بألوانها البهيجة.. ويمتليء البيت بالإخوة والأخوات. وأنتقل من مكان إلي مكان مفرجا بين فخذي مبعدا بيدي الجلباب عن جسدي. |
|
| |
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:33 | |
| الحكاية رقم '4' وأنا ماض نحو القبو ينفتح باب بيت القيرواني تاجر الدقيق وتبرز منه بناته الثلاث. منبع نور يتدفق فيبهر القلب والبصر. بيضاوات ملونات الشعر والأعين سافرات الوجوه ينفثن ملاحة نقية. الدوكار ينتظرهن فأتسمر أنا بين الدوكار وبينهن. ويرين ذهولي فتضحك وسطاهن وهي أشدهن امتلاء وأغلظهن شفة وتقول: ما له يسد الطريق! لا أتحرك فتخاطبني مداعبة: أفق يا أنت! وأقول متأثرا بدفقة حياة مبهمة: بلبلي خون دلي خورد وكلي حاصل كرد. فيغرقن في الضحك وتقول الكبري: إنه درويش. فتقول الوسطي: إنه مجنون! وألقي بنفسي في ظلمة القبو فأمضي مهرولا حتي أخرج إلي نور الساحة أمام التكية، في رأسي حماس وفي قلبي نذير نشوه البراعم قبل أن تتفتح. صورهن الباهرة مستكنة في متحف الأعماق. بذور حب لم يتح لها أن تنمو لأنها غرست قبل أوانها |
|
| |
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:34 | |
| الحكاية رقم '5' اليوم سعيد. سأذهب في صحبة أمي إلي زيارة حرم المأمور. هطلت الأمطار في الصباح الباكر ولكن الجو رق وصفا عند الضحي وأشرقت الشمس. المياه تغمر فجوات الطريق وتخدد جوانبه ولكنني سعيد بزيارة حرم المأمور. امرأة عملاقة، سمراء دكناء، في نقرة ذقنها وشم، ونبرتها ريفية غريبة، وضحكتها عالية، وقطتها غزيرة الشعر نقية البياض ودائما تسبح بذكر الله. وتعانق أمي مرحبة وأنا أنتظر. تلتف نحوي ضاحكة وهي تعبث بشعر رأسي، ترفعني بين يديها فأرتفع فوق الأرض عاليا، تضمني إلي صدرها فأغوص في أعماق طرية، وأشعر ببطنها مثل حشية وثيرة ينبعث منها إلي جوارحي دفء مؤثر. أسير وراءهما وأنا أسوي ما تشعث من شعري وملابسي ولما أفق من نفحة الدفء. وتقول لأمي: بت أومن بأن القبو مسكون بالعفاريت.. فتبسمل أمي فتقول الأخري: إنهم يخرجون عقب منتصف الليل. فتقول لها أمي محذرة: إياك وأن تنظري من النافذة. والاعب أنا القطة حتي تتواري تحت الكنبة. أنظر إلي رأس ثور مثبت في الجدار فوق سيفين متقاطعين متمنيا الوصول إليه. المضيفة تقدم لي قطعة هريسة فأتناولها. أمني النفس بحضن دافيء آخر عند انتهاء الزيارة. ويطول الحديث ويتشعب. وتشعل المرأة المصباح الغازي المدلي من السقف تدور حول المصباح فراشة. أتساءل متي تجيء لحظة الوداع الواعدة بالدفء؟ |
|
| |
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:35 | |
| الحكاية رقم '6' علي حصيرة واحدة تقعد صبيانا وبنات في الكتاب. تتلو الآيات بصوت واحد ولاتفرق مقرعة سيدنا الشيخ بين قدم صبي وقدم بنت. وقت الغداء يتربع كل منا مستقبلا الجدار بوجهه، يفك الصرة ويفرش منديله كاشفا عن الرغيف والجبن والحلاوة الطحينية. تسترق عيناي النظر إلي درويشة وهي تقرأ أو تأكل. في الطريق أتبعها حتي تميل إلي الزقاق المسدود ثم أسير إلي بيتي حاملا لوحي وصورتها. وفي موسم القرافة أضيق بالمكوث في الحوش فأمرق إلي الخارج فنتلاقي أنا ودرويشة بين القبور المكشوفة بلا تدبير. وأشطر فطيرتي فأعطيها النصف، نأكل ونتبادل النظر. أين تلعبين؟ في الزقاق. هي تلعب في الزقاق المتفرع من الحارة وأنا لا أجرؤ علي التسلل إليه في النهار. يمنعني إحساس خفي ولكنه غير بريء. ونتواعد بالنظر وبلا كلام. ومع المساء أدخل الزقاق فأجدها واقفة علي عتبة الباب. نقف شبحين صامتين يكتنفنا الذنب والظلام. نجلس؟ ولكنها لاتجيب. أجلس علي العتبة وأشدها من يدها فتجلس. أتزحزح حتي نتلاصق. يغمرني شعور بسرور غريب ذي أسرار. أمد يدي إلي ذقنها فأدير وجهها إلي. أميل نحوها فأقبلها. أحيط خاصرتها بذراعي. أصمت وأهيم وأذوب في دفقة إحساس مبهمة فأعرف السكر قبل الخمر. وننسي الوقت والخوف. وننسي الأهل والحارة. حتي الأشباح لاتفرقنا. |
|
| |
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:36 | |
| الحكاية رقم '7' في ليالي الصيف نسهر فوق السطح، نفرش الحصيرة والشلت، نستضيء بأنوار النجوم أو القمر، تلعب من حولنا القطط، يؤنسنا نقيق الدجاج. وتنضم إلينا في بعض الأحيان أسرة جارنا الحاج بشير، وهي أسرة شامية مكونة من أم وثلاث بنات كبراهن في العاشرة، يحلو لهن في أوقات السرور أن يغنين معا أغنيات جبلية فأتابع الغناء بشغف يقارب شغفي بالبشرة البيضاء والأعين الملونة. أهيم بالأم وبناتها وألح في طلب السماع، ويستخفني الطرب فأشارك في الغناء وأحرز في ذلك نجاحا وإعجابا حتي تقول جارتنا: ما أحلي صوتك ياولد! وأجد في مجتمع الليل فرصة للكشف عن موهبتي الصوتية كما يجد فيه قلبي الصغير نشوته في حضرة البهاء الأنثوي. ويصبح الغناء هوايتي، وسماع أسطوانات المهدية قرة عيني، أما أغنيات الجبل فينشدها قلبي وحنجرتي معا. وتقول جارتنا لأمي ذات يوم: الولد له صوت جميل. فتقول أمي بسرور. حقا؟ لايجوز إهماله؟ فليغن كيف شاء فهو أفضل من العفرتة. ألا تودين أن يكون ابنك مطربا؟ فتؤخذ أمي ولاتجيب فتواصل الجارة: ما له سي أنور وسي عبداللطيف؟ إني أحلم أن أراه يوما موظفا مثل أبيه وإخوته.. المغني يربح أكثر من مصلحة حكومية. وأصغي باهتمام وأنا جالس علي حجر الجارة مزهوا بالدفء والمجد.
ولاتدوم أيام السعادة والفن طويلا فذات يوم أري أمي تهز رأسها بأسف وتتمتم: يا للخسارة! فأسألها عما يؤسفها فتقول .. جيراننا الطيبون راحلون إلي بر الشام. ينقبض قلبي بالرغم من أنني لا أحيط بأبعاد الخسارة وأسأل: أهو بعيد؟ فتجيب بحزن: أبعد مما نستطيع أن نبلغه. أود من صميم قلبي أن أغير الواقع، أن أرجع الزمن إلي أمس، ولكن كيف؟ وأودعهم للمرة الأخيرة وهم يستقلون الحانطور وأقبل يد الحاج بشير. وأتبع الحانطور نظري حتي يخفيه منعطف النحاسين. وأبكي طويلا وأعاني مذاق الفراق والكآبة والدنيا الخالية.. |
|
| |
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:38 | |
| الحكاية رقم '8' مواسم القرافة تعد من أسعد أيامي البهيجة. نشرع في الاستعداد لها مع العشي بإعداد الفطير والتمر. وفي الصباح الباكر أمضي بين أبي وأمي حاملا الخوص والريحان، تتقدمنا الخادمة بسلة الرحمة. يسرني تدفق تيارات الخلق، وطوابير الكارو، وأعرف باب الحوش كصديق قديم، ويجذبني القبر بتركيبه الوقور المنعزل وشاهديه الشامخين، وسره المنطوي، وبإجلال والدي له، كما تجذبني شجيرة الصبار. وتحت قبة السماء تنطلق مني وثبات فرح. ودفقات استطلاع لايكدرها شيء، ثم تتم المسرات بمراقبة المقريء الضرير وجماعات الشحاذين المتكالبين علي الرحمة. وتتغير الصورة بدخول همام في إطارها. تجيء أختي وابنها للإقامة عندنا فترة من الزمن. همام في الرابعة أو يزيد عنها قليلا، أجد فيه رفيقا ذا حيوية وجاذبية، يخرجني بمؤانسته من وحدتي. جميل خفيف الروح، يلاعبني بلا ملل ويصدق أكاذيبي وأوهامي. واجده ذات يوم راقدا وصامتا، أدعوه إلي اللعب ولكنه لايستجيب، وأخبر بانه مريض.. ويطبق علي الجو اهتمام وحذر، ويتفشي فيه ضيق وكدر، وأتلقي أحاسيس مبهمة وغير سارة، ويزيد من تعاستي قلق أمي وجزع أختي ثم حضور زوجها. وأسأل عما يحدث فأبعد عن المكان ويقال لي لا شأن لك بهذا.. العب بعيدا.. ولكني أشعر بأن حدثا غير عادي يحدث.. إنه خطير حتي ان أمي تبكي.. وأختي تصرخ. وألمح من بعيد صديقي مغطي فوق الفراش مثل وسادة. لم يترك له متنفس. وأخيرا يتردد اسم الموت من قريب. وأفهم أنه فراق يطول فأبكي مع الباكين، ويتألم قلبي أكثر مما يجوز لسنه. لاتعود زيارة القبر من أيامي البهيجة، ويتغير وقع منظره. أود أن أطلع علي خفاياه، وأتلقي الكآبة من صمته. ولايعزيني أن يقال إن همام يمرح في الجنة ويسقي أزهارها. ولا أتغلب علي لوعة الفراق مع كر الأيام. إنه الحزن والحب الضائع والخوف والذكري القاسية وإرهاق أسرار الغيب |
|
| |
إستر عضو مشارك
عدد الرسائل : 98 بلد الإقامة : ام الدنيا احترام القوانين : نقاط : 6185 ترشيحات : 0
| موضوع: رد: حكايات حارتنا 30/8/2008, 16:39 | |
| شالحكاية رقم '9' خبر يتردد في البيت والحارة. تقول إحدي الجارات لأمي: أما سمعت بالخبر العجيب؟ فتسألها عنه باهتمام فتقول: توحيدة بنت أم علي بنت عم رجب! ما لها كفي الله الشر؟ توظفت في الحكومة! توظفت في الحكومة؟ إي والله.. موظفة.. تذهب إلي الوزارة وتجالس الرجال! لاحول ولاقوة إلا بالله.. إنها من أسرة طيبة.. وأمها طيبة.. وأبوها رجل صحيح! كلام.. أي رجل يرضي عن ذلك؟ اللهم استرنا يارب في الدنيا والآخرة.. يمكن لأن البنت غير جميلة؟ كانت ستجد ابن الحلال علي أي حال.. وأسمع الألسن تلوك سيرتها في الحارة، تعلق وتسخر وتنقد. وكلما لاح أبوها عم رجب أسمع من يقول: اللهم احفظنا.. ياخسارة الرجال! توحيدة أول موظفة من حارتنا. ويقال إنها زاملت أختي الكبري في الكتاب. ويحفزني ما سمعته عنها إلي التفرج عليها حين عودتها من العمل. أقف عند مدخل الحارة حتي أراها وهي تغادر سوارس، أرنو إليها وهي تدنو سافرة الوجه مرهقة النظرة سريعة الخطوة بخلاف النساء والبنات في حارتنا. وتلقي علي نظرة خاطفة أو لاتراني علي الاطلاق ثم تمضي داخل الحارة وأتمتم مرددا كالببغاء: ياخسارة الرجال! |
|
| |
|