الكارثة التي ساهمت
في إنهاء صيد الحيتان في الولايات المتحدة
كارثة وقعت في 1871 كادت أن تودي بحياة صائدي الحيتان
في المحيط المتجمد الشمالي، لكنها ساعدت في وقف صيد الحيتان في تلك المنطقةتساهم بقايا مجموعة من السفن الغارقة التي اكتشفت في المحيط المتجمد الشمالي في إزاحة الستار عن حقائق جديدة تعيننا على فهم الكارثة التي ساعدت في وضع حد لصيد الحيتان في الولايات المتحدة.
في أغسطس/آب عام 1871، كانت العواصف الثلجية تهب، وكانت قبائل الإنويت، السكان الأصليون في المنطقة القطبية الشمالية، تطلق التحذيرات إيذانا بقرب دخول فصل الشتاء.
وكان هناك أسطول لصيد الحيتان يتكون من 32 سفينة، ورغم تلك التحذيرات لم يبرح ذلك الأسطول مكانه طمعا في اصطياد وقتل المزيد من الحيتان ذات الرأس المقوس.
وسرعان ما علقت تلك السفن الكبيرة في كتل جليدية في بحر تشوكشي بالمحيط المتجمد الشمالي بمحاذاة سواحل ألاسكا. وعندما يئس ركاب هذه السفن من هبوب الرياح لإزاحة الجليد عن طريقهم، اضطر 1,119 شخص، من النساء والرجال والأطفال، للقفز من السفينة.
وتكدس هؤلاء الركاب في زوارق صيد الحيتان الصغيرة، لتجري بهم في المياه المحفوفة بالمخاطر، لمسافة 70 ميلا صوب سبع سفن كانت قد بقيت في وسط المحيط.. ولحسن الحظ، نجا جميع الركاب.
وذكر تقرير نُشر بعد سنوات طوال أن طاقم السفينة "نجا بأعجوبة من الكارثة".
هذه الكارثة كانت ستقع حتما. وحين وقعت، ساهمت في وضع حد لصيد الحيتان في الولايات المتحدة. إلا أن هذه القصة لم تُطو صفحاتها بعد، إذ لا تزال السفن الغارقة في قاع المحيط المتجمد الشمالي تكشف عن أسرار جديدة عن تلك الكارثة.
بدأ صيد الحيتان في غرب المحيط المتجمد الشمالي منذ عام 1848، الذي كان يعد موردا خصبا للحيتان وشحومها وعظامها.
صورت الكثير من اللوحات أسطول صيد الحيتان
بعد أن هجره الركاب في المحيط القطبي الشماليوكان صيد الحيتان يمثل إحدى الصناعات الكبرى آنذاك، إذ يجلب للسوق المنتجات المطلوبة تجاريا، وأهمها الزيت. كما كان عظم فك الحوت، الذي يسمى "البلين" ثمين للغاية، لأنه كان يُستخدم في تصنيع الكثير من الأدوات المنزلية، قبل اختراع البلاستيك، في سوق عالمي يزداد توسعا.
وزادت أهمية الحيتان ذات الرأس المقوس، بعد أن استخدمت عظام فكها لتدعيم مشدات الخصر للنساء. ويقول إريك جاي دولين، مؤلف كتاب "الوحش البحري: تاريخ صيد الحيتان في أمريكا": "منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، بدأ التهافت على مناجم الذهب المكتشفة حديثا في المنطقة القطبية الشمالية، وكان في صدارة القوافل المتجهة إلى هناك صائدو الحيتان الأمريكيون، طمعا في الحصول على الحيتان الضخمة ذات الرأس المقوس".
وبعد عقدين من الزمان فقط، تناقصت أعداد الحيتان ذات الرأس المقوس في المنطقة بما يزيد على 60 في المئة. وفي ظل هذا التراجع في أعداد الحيتان من هذا النوع، وتعذر العثور عليها، اتجه صائدو الحيتان إلى صيد حيوان الفظ البحري.
وقد واجه السكان الأصليون الذين يعيشون على حيوانات الفظ مشاكل جمة. ويقول براد بار، من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي بالولايات المتحدة: "كانت حيوانات الفظ هي الطعام الأساسي الذي تعيش عليه قبيلة الإنويت، وعندما بدأ صائدو الحيتان في صيد أعداد كبيرة من حيوان الفظ، عانت قرى كاملة من الجوع".
لكن الأرباح الوفيرة التي جناها الناس من صيد الحيتان كانت كفيلة بإلهائهم عن تلك العواقب الوخيمة. ولهذا رغم تناقص أعداد الحيتان، لم تتوقف أساطيل صيد الحيتان عن خوض المحيط المتجمد الشمالي المحفوف بالمخاطر، وتعرض ركابها للموت أكثر من مرة.
سفينة "غاي هيد"، كانت من بين السفن التي علقت في كتل الجليدوفي عام 1845، فقدت سفينتان كان يقودهما الربان البريطاني، جون فرانكلين، في المحيط المتجمد الشمالي. ويقول جيمس ديلغادو، من الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي: "اشتهر المحيط المتجمد الشمالي بأنه يلتهم السفن ويخطف الركاب".
وفي عام 1871، نجا أسطول آخر من مواجهة نفس المصير. ويقول بار: "كان صائدو الحيتان يعرفون متى يتكون الجليد، لكن أعداد الحيتان تناقصت، وبات صيدها عسيرا. لذا، كانت السفن تبقى لوقت لاحق من السنة لتملأ خزائنها بالزيت وعظم الحوت، ولهذا اعتادوا العمل عندما يبدأ الجليد في التكون بمحاذاة الساحل".
وحتى عام 2015، لم يُكتشف أي دليل مادي يثبت وقوع الكارثة، ولهذا لم يعرف أحد شيئا عنها، إلا من خلال القصص والتقارير المكتوبة. فقد استولت قبائل الإنويت على بعض المراكب، والبعض الآخر منها غرق في المياه.
قرر بار ومعه فريق من الباحثين سبر أغوار المحيط المتجمد الشمالي، بحثا عن آثار تثبت وقوع هذه الكارثة. وتوقع الكثيرون أنهم لن يعثروا على أي أثر، وأن أي بقايا ستكون قد سحقت على مر الزمن.
لكن على العكس، في بداية 2016، بعد وضع خرائط لمساحة 50 كيلومترا من قاع المحيط، اكتشفوا حطام سفينتين على الأقل. وباستخدام أجهزة السونار ووسائل الاستشعار، استطاعوا أن يكتشفوا تأثير حطام السفينة على المجال المغناطيسي للأرض على عمق أربعة إلى خمسة أمتار من سطح الماء.
سفينة "كونكورديا" إحدى السفن الأخرى التي علقت في الكتل الجليديةواستطاعوا أن يروا بأنفسهم هياكل السفن والمراسي، وحتى القدور التي كانت تستخدم لحفظ الزيت المستخرج من شحم الحوت.
وعلى الرغم من مرور 144 عاما على الكارثة، بقيت حطام السفن بعد أن علق الجزء السفلي من بدن السفينة في مرتفع رملي تحت الماء، مما ساعد في الحفاظ على بعض حطامها في حالة سليمة.
ويقول ديلغادو، الذي شارك في المشروع: "علقت السفن في هذا المرتفع الرملي المغمور بالماء، ودفنت أجزاء منها في بعض الأوقات. وتحت تأثير الأحوال الجوية القاسية لفصل الشتاء هناك، تتحول المنطقة بأكملها إلى كتلة متجمدة".
وكان هذا الاكتشاف أول دليل مادي يثبت وقوع الكارثة، كما يعد نجاحا لأساليب التنقيب عن الآثار في المحيط المتجمد الشمالي في هذه البيئة القاسية. وأعلن بار وفريق الباحثين عن نتائج البحث في تقرير نشر في ديسمبر/كانون الثاني 2016، في دورية "نوتيكال أركيولوجي" المعنية بعلم الآثار البحري.
وإذا تمكننا من تحليل الحطام المتبقي في قاع المحيط بدقة، سنفهم التاريخ البحري بصورة أوضح. كما يساهم فهم الأحداث السابقة في إظهار مدى تأثير التغير المناخي على القطب الشمالي والناس الذين يعيشون فيه.
ولولا انحسار الجليد البحري بشكل ملحوظ بسبب التغير المناخي، لما تمكن الفريق من الخروج بهذه النتائج. وهذا يعد من "مزايا" التغير المناخي على حد وصف بار.
ظهرت هذه الصورة في مجلة "هاربر" الأسبوعية
في عددها المنشور سنة 1871ولأن الجليد يذوب في القطب الشمالي بمعدلات خطيرة، أُتيحت لنا فترات زمنية أطول كل عام لنجري فيها الأبحاث. ويقول بار إن فريق الباحثين كان سيواجه الكثير من الصعاب عند البحث في قاع المحيط لو لم يتراجع الغطاء الجليدي.
إن فهم الطرق التي ساهم بها الجليد في حفظ السفن يمكن أن يساعدنا في فهم كيفية تغير المناخ، ويقول بار: "هذا الفهم سيوجهنا لمعرفة سبل التكيف مع التغير المناخي في القطب الشمالي".
ويضيف بار: "وقد يؤثر التغير المناخي على الإرث الحضاري الذي غمرته المياه، ففي هذه المناطق الساحلية تواجه الآثار الغارقة تهديدات بسبب العواصف التي قد تشتد قوتها ويزداد معدل تكرارها، مما يجعل المناطق التي لا يغطيها الجليد أكثر عرضة للاضطرابات البيئة".
لا شك أن هذه الكارثة أثرت على صيد الحيتان، فقد بلغت قيمة الأضرار والخسائر جراء تحطم السفن نحو 1.6 مليون دولار في ذلك الوقت، وهو ما يقدر بنحو 30 مليون دولار في الوقت الحالي.
وكانت أغلب السفن قادمة من منطقة واحدة، وهي مدينة نيو بدفورد بولاية ماساتشوستس، التي يقول دولين إنها عانت من تبعات الكارثة.
ويتابع دولين: "إذا تكبدت خسائر مالية بهذا الحجم ستقع حتما مشكلات كبرى، فقد ألقت هذه الخسائر بظلالها على مجال التأمين ومجال صيد الحيتان، ناهيك عن خسائر رأس المال المخصص للاستثمار، ولهذا كان وقع الصدمة شديدا على نيو بدفور".
وقد تراجع صيد الحيتان، لكنه لم يتوقف. بل قرر الكثيرون العودة إلى المحيط المتجمد الشمالي، رغم ما يكتنف رحلتهم من مخاطر. ويقول دولين: "كانت التجارة في عظم فك الحوت لا تزال رائجة آنذاك".
مرساة صغيرة، وحلقة معدنية تستخدم لتثبيت حبال الأشرعة والصواري،
ودعامة معدنية، ربما كانت تمثل جزءا من هيكل السفينةوبعد خمس سنوات، لقي 50 بحارا مصرعهم في رحلة صيد مشابهة، وإن كانت أصغر حجما من السابقة، وذكرت صحيفة بوسطن غلوب أن هؤلاء البحارة "تجمدوا حتى الموت".
ويقول بار إن هاتين الكارثتين "دقتا آخر مسمارين في نعش صيد الحيتان للأغراض التجارية في الولايات المتحدة الأمريكية".
وقد تزامن هذا مع الجهود المحدودة التي كان قد بدأ يشهدها مجال الحفاظ على الحيتان، رغم ضآلة أعدادها آنذاك. ويقول دليغادو: "بوسعنا الآن التنديد بقتل الحيتان. لكن في ذلك الوقت، كان هؤلاء الناس يعتمدون على صيد الحيتان كمصدر للرزق".
وقد أدرك صائدو الحيتان أن أعدادها آخذة في التناقص، لكن رغم ذلك لم يبدوا اهتماما حقيقيا بالحيتان التي تواجه خطر الانقراض، وكان همّهم الأكبر الحفاظ على "الرواج الاقتصادي لهذه الصناعة" على حد قول دولين، وأنهم سيفقدوا عملهم إذا تضاءلت أعداد الحيتان.
ربما تكون هذه الكوارث قد عجّلت بإنهاء صيد الحيتان، الذي كان سيحدث عاجلا أو آجلا. وفي ظل تصاعد صناعة الزيوت الحديثة، انخفض الإقبال على زيت الحوت، وبالتالي انخفضت أسعاره في منتصف القرن التاسع عشر، وما لبثت أرباح زيت الحوت أن تضاءلت مقارنة بالمخاطر الجمة التي تكتنف رحلات صيد الحيتان.
ولحسن الحظ، لم تنقرض الحيتان ذات الرأس المقوس بعد، وعاودت أعدادها التزايد، فيما عدا تجمع واحد للحيتان من هذا النوع لا يزال يواجه خطر الانقراض.
لعبت الكارثة التي وقعت في عام 1871، والتي كادت تودي بحياة جميع الركاب، دورا محوريا في وضع حد لقتل المزيد من الحيتان في المحيط المتجمد الشمالي، وهذا ربما لم يدر بخَلد الناجين منها آنذاك.
المصدر bbc