زاخمة هي الفترة التي قضتها مصر في عصر الحملة الفرنسية ، تكشفت فيها حقائق جلية عن معدن الشعب المصري ، وتبلور دور الأزهر وبقوة في مقاومة وصد كل طغيان ، ووضع بذرة أي عصيان في وجه كل مستعمر واحتلال .
وكان من بين رموز الأزهر ورجاله الذين ساعدوا في ذلك ، الشيخ سليمان الجوسقي .
ولد الشيخ سليمان الجوسقي في منطقة ” جوسق ” بمحافظة الشرقية ، نشأ مثل أقرانه وكان أهله طامحون إلى إلحاقه بالأزهر .
تفوق الجوسقي في دراسته بالأزهر برغم أنه كان كفيفا ، ولكنه قهر الظلام ، غير أنه كان على موعد مع القدر وقت أن اندلعت وتيرة أعمال ثورة القاهرة الأولى ضد العسكر الفرنسيين في أكتوبر عام 1798 .
وعندما اشتد وطيس ضرب المدافع لجأ له العامة فطالبهم بالصمود وقال مقولته المشهورة:” إنكم بشر مثلكم مثلهم، فاخرجوا إليهم فإما أن تبيدوهم أو يبيدوكم” .
لم يقف دور الجوسقي إلى حد الخطابة بل قرر أن يُطوّع العميان وطائفتهم التي يترأسها وجَيّشهم في جيش لمواجهة الغزو الفرنسي ، حيث كان العميان هم حلقة الوصل والجاسوسية لصالح مصر ، حيث كانوا ينقلون أخبار المعسكر الفرنسي لرموز المقاومة الشعبية في مصر وقتها ، كما ساهم الجوسقي في إجراء كتيبة من العميان لإجراء عمليات اغتيالات في صفوف العسكر الفرنساوية .
علم نابليون أن “الجوسقي” هو كلمة السر في عمليات الاغتيال فقرر إلقاء القبض عليه وقدم له العديد من العروض التي رفضها وقابلها بالاستهزاء إلى أن قدم له العرض الأكبر، وهو أن يجعله سلطانا على مصر، فأظهر الشيخ قبولا للعرض، ومد نابليون يده إليه متنفسا الصعداء، وكذلك مد الشيخ يده اليمنى مصافحا إياه، وكانت المفاجأة أن رفع يده اليسري، ليصفع الفرنسي العظيم صفعة قوية على وجهه لا ينساها، وسجل الأديب الكبير علي أحمد باكثير هذا الموقف في مسرحيته “الدودة والثعبان” وقال على لسان الجوسقي ” معذرة يا بونابرت هذه ليست يدي .. هذه يد الشعب”، فاشتاط نابليون غضبا وأمر بقتل الرجل وإلقاء جثته في النيل، وتم اقتياده بواسطة العساكر الفرنسيين إلى سجن القلعة لاستجوابه ومحاكمته وإعدامه، ورغم إدانته لم يتم إعدامه مع قادة الثورة الذين أعدمهم الفرنسيون لكونه كفيفاً، وظل في السجن عدة شهور.
وقد نعاه الجبرتي في تاريخه قائلا ” ومات العمدة الشهير الشيخ سليمان الجوسقي شيخ طائفة العميان بزاويتهم المعروفة الآن بالشنواني تولى شيخًا على العميان المذكورين بعد وفاة الشيخ الشبراوي وسار فيهم بشهامة وصرامة وجبروت وجمع بجاههم أموالًا عظيمة وعقارات فكان يشتري غلال المستحقين المعطلة بالأبعاد بدون الطفيف ويخرج كشوفاتها وتحاويلها على الملتزمين ويطالبهم بها كيلًا وعينًا ومن عصى عليه أرسل إليه الجيوش الكثيرة من العميان فلا يجد بدًا من الدفع وإن كانت غلاله معطلة صالحة بما أحب من الثمن وله أعوان يرسلهم الى الملتزمين بالجهة القبلية يأتون إليه بالسفن المشحونة بالغلال والمعاوضات من السمن والعسل والسكر والزيت وغير ذلك ويبيعها في سني الغلوات بالسواحل والرقع بأقصى القيمة ويطحن منها على طواحينه دقيقًا ويبيع خلاصته في البطط بحارة اليهود ويعجن نخالته خبزًا لفقراء العميان يتقوتون به مع ما يجمعونه من الشحاذة في طوافهم آناء الليل وأطراف الهار بالأسواق والأزقة وتغنيهم بالمدائح والخرافات وقراءة القرآن في البيوت ومساطب الشوارع وغير ذلك ومن مات منهم ورثة الشيخ المترجم المذكور وأحرز لنفسه ما جمعه ذلك الميت وفيهم من وجد له الموجود العظيم ولا يجد له معارضًا في ذلك “