تمهيــد:
يعد إيديمون ( Aedemon) من أهم أبطال المقاومة الأمازيغية في شمال إفريقيا إبان الاحتلال الروماني لمنطقة تامازغا. فقد ثار على الحكومة الرومانية بعد مقتل سيده الملك بطليموس في موريطانيا الطنجية. وقاد ثورة محلية مورية للوقوف في وجه الاستبداد اللاتيني في عهد الإمبراطور الروماني كاليگولا. وقد استمرت مقاومة إيديمون أربع سنوات من 40 إلى 44 م أثرت سلبا على التواجد الروماني في موريطانيا الطنجية بصفة خاصة وشمال إفريقيا بصفة عامة. ولكن الرومان سيعدّون قوة عسكرية هائلة استطاعت بفضلها القضاء على ثورة إيديمون قبل أن تتوسع أكثر فأكثر في الولايات الأمازيغية الأخرى. إذا من هو الثائر إيديمون؟ وما أسباب ثورته ضد الرومان؟ وماهي المراحل التي مرت منها هذه الثورة الإيدمونية؟ وماهي نتائج هذه الثورة الأمازيغية؟
من هو إيديمون؟
عاش إيديمون في موريطانيا الطنجية في القرن الأول الميلادي، وكان قائدا عسكريا أمازيغيا شابا في جيش بطليموس ابن يوبا الثاني، ثم عين بعد ذلك وزيرا للمملكة . وقد قيل إنه كان من عتقاء الملك بطليموس حاكم الموريين الموريطانيين. لذلك لم يرض إيديمون المخلص لصاحبه الملك المقدس أن يقتل بطليموس مكرا وخديعة من قبل كاليگولا المحتال أثناء نزول الملك بعاصمة روما ضيفا لدى الرومان. وهذا ما سيجعله مقاوما قاسيا وثائرا شرسا ضد كاليگولا الذي مات في 40م قبل أن يقضي على مقاومة عدوه الأمازيغي الثائر. ولم تخمد ثورة إيديمون إلا على يد الإمبراطور كلوديوس Claudius .
أسباب ثورة إيديمون الأمازيغية؟
لما توفي يوبا الأول حاكم موريطانيا الطنجية تولى الحكم ابنه يوبا الثاني، وكان هذا الأخير ملكا شابا مثقفا يتقن اللاتينية واليونانية والبونيقية على غرار أبيه يوبا الأول الذي كان يعرف في عهده بمثقف زمانه بين ملوك تامازغا وأباطرة اللاتين. فقد بنى يوبا الثاني شرشال عاصمة لحكمه ضمن مملكته التي كانت تسمى بموريطانيا القيصرية، وكان هذا الملك تابعا للحاكم القيصري وحليفا للرومان. وعرف عصره بالازدهار الاقتصادي في مجالي الفلاحة والصناعة، وشجعت الثقافة في فترة حكمه الزاهي أيما تشجيع.
وبعد وفاته، تولى زمام الحكم ابنه بطليموس ( Ptolémée ) الذي سار على نفس منهج أبيه، فحاول توحيد القبائل الأمازيغية و توسيع مملكته خارج النطاق المرسوم له من قبل الحكومة الرومانية. بيد أن الإمبراطور الروماني كاليگولا ( Caligula 37-40 م) كان يراقب هذا التوسع بنوع من التوجس والحذر والخوف، وأمر أتباعه باغتياله للحد من طموحاته التوسعية في شمال إفريقيا والسيطرة على ممتلكاته وأمواله.
لذلك لم تقم ثورة إيديمون في إفريقيا الشمالية بموريطانيا الطنجية إلا بعد مقتل الملك بطليموس (23م-40م) للثأر من المتغطرسين الرومان والانتقام من ساستهم المتبجحين بالقوة والعظمة ناهيك عن سخط الأمازيغيين والموريين على الأوضاع المتردية في إفريقيا الشمالية بسبب سيطرة الجيش الروماني على ثروات الأمازيغيين وأراضيهم الخصبة وممتلكاتهم الأصلية، دون أن ننسى سياسة الاستغلال الفاحش والرومنة الإجبارية والتمييز العنصري والظلم الاجتماعي والطبقي والاستنزاف البشع لكل موارد بلاد تامازغا. و يعني هذا أن مقتل القائد بطليموس من قبل المستبد الروماني كاليگولا كان سببا مباشرا في اندلاع ثورة القائد إيديمون الذي كان وزيرا وفيا للملك المقاوم بطليموس. وفي هذا الصدد يقول الأستاذ محمد بوكبوط:" كان رد الفعل الأمازيغي عن اغتيال بطليموس من طرف كاليگولا هو اندلاع ثورة إيديمون، التي وجد الرومان عناء في إخمادها ،إذ تحصن الثوار بجبال الأطلس وظلوا يهددون وليلي ومنطقة النفوذ الروماني، وإذ كان هؤلاء قد استطاعوا إبعاد الثوار الأمازيغ، فإنهم لم يقضوا على الثورة التي استمرت طيلة التواجد الروماني."
المراحل التي عرفتها ثورة إيديمون ضد الرومان :
شكل إيديمون جيشا أمازيغيا كبيرا من القبائل المورية في المغرب الأقصى وقبائل موريطانيا القيصرية بالجزائر ، و جمع حشودا كبيرة من رجال المقاومة في منطقة الريف وسفوح جبال الأطلس الكبير. وجعل من الجبال مراكز للاحتماء والتدريب والانطلاق والتمركز قصد التحصين والردع والمواجهة ومجابهة الأعداء. واستمرت مقاومة إيديمون أربع سنوات من 40م إلى 44م، وهددت مناطق النفوذ الروماني بالمغرب وخاصة مدينة وليلي عاصمة السلطة الرومانية ، كما هددت هذه الثورة مدينة طنجة باعتبارها منطقة ساحلية إستراتيجية تطل على حوض البحر الأبيض المتوسط.
هذا، وقد التجأ إيديمون إلى سياسة الأرض المحروقة، فأشعل النيران في المدن والمراكز الرومانية في موريطانيا الطنجية، ودمر كثيرا من حصون الحكم الروماني وخطوطهم العسكرية والأمنية وأماكن السلطنة والتواجد العسكري. وفشل الرومان كثيرا في محاصرة هذه الثورة وتطويقها عسكريا بسبب تحصن الثوار بجبال الأطلس التي يصعب على الجيش الروماني التغلغل فيها واقتحامها بسبب صعوبة المسالك ووعورة الجبال. وعندما نتأمل مدة الحرب التي دامت أربع سنوات فإننا نخرج باستنتاج واحد يتمثل في شراسة الثورة واتحاد الأمازيغيين كلهم في الدفاع عن أنفسهم ومواجهة العدو اللدود الذي يريد إذلالهم والتنكيل بهم.
نتائج ثورة إيديمون:
بعد تفاقم ثورة إيديمون واستمرارها في حصد أرواح الرومانيين وتخريب مراكزهم العسكرية ومدن استقرارهم واشتعال نيرانها وتوسعها في البلاد المورية والمناطق المجاورة الأخرى، قررت الحكومة الرومانية أن ترسل إلى شمال إفريقيا مجموعة من الفيالق العسكرية للقضاء على هذه الثورة المحلية ذات الطموحات التوسعية، فعبرت هذه الجيوش العتيدة البحر الأبيض المتوسط ونزلت بشمال إفريقيا وبالضبط في المغرب الأقصى، فتحالفت مع جيوش الولايات الإفريقية الأمازيغية الأخرى استعدادا للقضاء بصفة نهائية على ثورة إيديمون القوية.
وفعلا، تم للرومان ماكان يصبون إليه ألا وهو القضاء النهائي على هذه المقاومة المحلية الشعبية ، وذلك في سنة 44م في عهد الإمبراطور الروماني كلوديوس. وفي هذه الفترة بالذات تم تدمير مدينة طنجة وتحطيمها رأسا على عقب.
وكان من نتائج ثورة إيدمون بعد القضاء عليها أن قسمت مملكة موريطانيا إلى قسمين: موريطانيا الطنجية في الغرب، وموريطانيا القيصرية في الشرق. ومن ثم، أصبح القسم الغربي من إفريقيا الشمالية تحت سيطرة الحكم الروماني مباشرة.
ومن النتائج التي ترتبت عن ثورة إيديمون انتشار فكرة المقاومة بين صفوف الأمازيغيين والنخب المثقفة سواء أكانت مدنية أم عسكرية كظهور ثورة موريطانيا الطنجية سنة 180م معلنة الانفصال عن الحكم الروماني، وثورة إفريقيا الشمالية المشتعلة ما بين235م و284م والتي استغلت ضعف الحكم في روما واشتداد ضغط الأمازيغ على خط الليمس أو ما يسمى عند عبد الله العروي بالسد الأمني لمجابهة الجيش الروماني، وثورة دوناتوس الدينية التي ظهرت لتنادي بطرد كبار الرومان وأصحاب النفوذ من المسيحيين الكاثوليك من بلاد تمازغا.
خاتمـــة:
ونخلص مما سبق ذكره أن ثورة إيديمون لم تكن سوى ثورة أمازيغية شعبية جماهيرية تحالفت فيها جميع القوى العسكرية والمدنية وشاركت فيها القبائل الأمازيغية المتباعدة والمتقاربة للوقوف في وجه الوحش الروماني الذي استهدف رومنة الأمازيغيين وإذلالهم وسرقة خيراتهم وطمس معالم حضارتهم وتزييف هويتهم الحقيقية وقتل كل من يحاول توحيد ساكنة تامازغا وتوعيتهم.
ومن هنا كانت ثورة إيديمون درسا في المقاومة والتحرر والتخلص من سيطرة الرومان والانتقام من الذين يحاولون المس بملوك الأمازيغيين وإهانتهم على مرأى شعوبهم الصاحية ضمائرهم. وبالتالي، فمقاومة إيديمون في الحقيقة درس للأمازيغيين للتشبث بهويتهم وثقافتهم وحضارتهم ووحدتهم والدفاع عن الشرف الأمازيغي والوقوف ضد الذل والعار والاستعمار بكل قسوة وشراسة.