بنية القصيدة العربية الجاهلية
ثامر إبراهيم المصاروة
يشكل بناء القصيدة دعامة أساسية من دعائم العمل الشعري بفنيته ودقته، ولعله يعكس لنا رؤية الشاعر وطريقة معالجته للقضية المطروحة أمامه، كما أنه يدل في بعض جوانبه على الحياة العقلية والاجتماعية للعصر، ومن المعروف أن نقادنا القدامى تحدثوا عن نظام القصيدة العربية القديمة، وقد عرفت القصيدة الجاهلية عندهم ببناء محدد التزم به الشعراء الجاهليون ونظموا فيه جلّ أشعارهم، ويبدو أنه أصبح سنة من الصعب الخروج عليها، ومن غير المألوف مخالفتها.
تلتقي أغلب النظريات النقدية على تحديد مصطلح "البنا" أو "البنية" أو الهيكل في العمل الشعري، على أنه تطور ونمو وحدة العمل الفني في هذا العمل الشعري أو ذلك، وقد يتخذ مصطلح البناء ودلالات مختلفة من أجل إثبات وجود "الوحدة الداخلية" في النص الشعري توكيدًا لتحديد سماته وخصائصه الفنية، ولعلّ أقرب الدلالات الأدبية إلى تحديد مصطلح البناء هو "الجانب الشكلي" في القصيدة ومن خلال هذا "الشكل" الفني في القصيدة يتميز "البناء" عن "النسيج" وإن كان كلاهما من مظاهر الشكل العام للقصيدة أو النص الشعري ويتجلى الشكل في ضوء ذلك، من خلال الترابط المنطقي بين أجزاء النص ومن داخله يكون للغة الانفعالية أو "الرمزية" المتمثلة بالأسلوب الشعري دورها الفاعل في فَهم البناء الفني داخل القصيدة من مقدمتها حتى نهايتها أي من بدء التعبير عن التجربة الشعورية إلى انتهائها وحدة مترابطة في نسق منطقي يحقق ما يمكن تسميته بالوحدة الموضوعية في القصيدة أو أي نص شعري متكامل البناء، فالوحدة الشكلية في القصيدة الجاهلية لا تعني الوحدة العروضية بل هي البحث عن أجزائها ذات السمات الفنية والأسلوبية والصور الشعرية، التي تتوحد في كل فني ذي وحدة ترابطية وانسيابية منطقية تحقق المتعة في نفس المتلقي هو ينتقل من جزء فني إلى آخر ضمن إطار وحدة "الكل" وهذا ما نلمسه في القصيدة العربية الجاهلية
إن دراسة موضوع "بنية القصيدة" يكشف عن التباين القائم بين مدلول هذا المصطلح في النقد القديم، ومدلوله في النقد الحديث، فقد كان هذا المصطلح في النقد القديم أقرب ما يكون إلى معنى البناء وضم الأجزاء إلى الأجزاء بغية الوصول إلى القصيدة الناجزة، ويشير هذا الفَهم إلى الجهد الصناعي الذي يترتب على الشاعر مزاولته قبل وأثناء بناء القصيدة، وقد بدا هذا واضحًا لدى ابن طباطبا وغيره من النقاد القدامى الذين تحدّثوا عن بناء القصيدة وعما ينبغي أن تكون عليه، وبدا حديثهم وكأنه حديث عن وجود مفترض وسابق لقصيدة نمطية قائمة في أذهان هؤلاء النقاد، ولم ير ابن قتيبه مسوغًا لمتأخر الشعراء في أن يخرجوا عن مذهب المتقدمين، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى آراء الحاتمي حول القصيدة والتي يمكن عدّها إشارات مبكرة إلى وحدة القصيدة العضوية، هذه القصيدة التي تشبه جسم الإنسان الذي يلحقه الضر وتتعفى معالمه إذا طرأ خلل على أحد مكوناته وأجهزته.
ولسنا نحتاج إلى مزيد من القول لنتبين أن ما جدّ من تشبيه القصيدة بالكائن الحي لدى عدد وفير من النقاد الغربيين، والنقاد العرب المعاصرين، قد سبقهم فيه الحاتمي، بل زاد عليه أن جعل من هذه الحيوية، وهذا التكامل مقياسًا لجودة القصيدة.
والواقع أن النظر فيما ذكره النقاد القدماء والبلاغيون حول وحدة القصيدة يقودنا إلى استنتاجات متناقضة، ففي الوقت الذي يسلمون فيه بأن القصيدة تتألف من موضوعات وفقرات وأبيات، يبحثون عما يغاير هذه الصورة بالحديث عن التدّرج والتساوق والتناسب والتكامل العضوي واستيفاء القطعة من الشعر، ولكنّ نقدهم التطبيقي غفل عن هذا، ولم يدركوا عظم الفرق بين ما يقولونه هنا وما يكثرون من ذكره عند الكلام على شرف المعنى، أو حسن التشبيه، أو جودة البيت، أو براعة الاستهلال، وحسن المطلع، أي أن النظرة التجزيئية إلى القصيدة ظلت قائمة مع وجود هذه الملاحظات.
وبالانتقال إلى الفلاسفة المسلمين، نجد أن حديثهم حول القصيدة ووحدتها وبنائها جاء في معرض الحديث عن الخطبة، وقد كان لذلك دورٌ في إثارة عدة قضايا تتصل بوحدة العمل الفني وقيام هذه الوحدة على أساس وحدة الموضوع، ناهيك عن حديثهم حول القصيدة القصيرة والطويلة ذات الأقسام المتعددة، ومن هؤلاء الفلاسفة الفارابي الذي يرى أن بمقدور الشاعر والخطيب المزج بين لغة الشعر ولغة الخطابة، أما ابن سينا فإنه يجعل الفرق بين ما هو شعري وما هو خطابي أكثر وضوحًا إذا ناورا، أما ابن رشد فقد قسم الخطبة إلى الأقسام التالية: الصدر الغرض، الاختصاص، التصديق والخاتمة، وهذه القسمة تعدّ لصالح وحدة القصيدة وكليتها، كما أن إشاراته إلى ضرورة أن يكون كل واحد من هذه الأقسام وسطًا في المقدار، تؤكد على ضرورة تناسب أجزاء القصيدة
غير أن ما يؤخذ على الفلاسفة المسلمين أنهم لم يستثمروا آراءهم وأفكارهم الفلسفية المتعلقة بوحدة الخالق ووحدة الوجود للوصول إلى وحدة العمل الفني العضوية .
أما مصطلح البنية في النقد الحديث فقد أصبح يعني صفات وخصائص القصيدة الناجزة من خلال مكونات هذه القصيدة وما يربط بين هذه المكونات من علاقات ووشائج، وقد بدأ الاهتمام ببنية القصيدة الجاهلية أول الأمر من خلال الحديث عن وحدة هذه القصيدة، وعن وجود مثل هذه الوحدة أو عدمه، ويعتبر مفهوم الوحدة العضوية صدى لنظرية (كولردج) في الخيال ثم اخذ مصطلح الوحدة العضوية ينتقل ببطء إلى النقد العربي الحديث، إلاّ أن أهم الدراسات التي اهتمت ببنية القصيدة الجاهلية هي دراسة كمال أبو ديب التي درس من خلالها حوالي مئة وخمسين نصًا جاهليًا، وهو يعتقد أن عددًا كبيرًا من القصائد لا يمتلك وحدة خبيئة تبقى لتدرك عبر عمليات تحليل تختلف درجة عمقها، رغم أن ذلك يعتمد على التفسير، وفي هذا السياق ينبغي أن تعاين كل قصيدة معاينة مستقلة متعمقة.
المصد : ديوان العرب