الحداثة وطريق النهضةسنبدأ في هذا المقال بالتعريف بالحداثة لغةً واصطلاحًا، ونشأتها ومراحلها في الغرب، وأسباب انتقالها إلى البيئة الثقافية العربية، ثم نعرض لتصور الحداثة للإنسان والدين والتاريخ، وفي النهاية سنستنتج مدى صلاحيتِها لتحقيق النهضة المرتقبة.
التعريف اللغوي للحداثة:
يُعرِّف الدكتور إبراهيم الخولي الحداثةَ – لغةً – بأنها مشتقَّة من مادة “ح د ث”، وفي اللغة يُقال: “حدث حدوثًا وحَداثَةً فهو حديث”، ويُقال: (حَدَثَ) في مقابل (قَدُمَ)، ويَستَطْرِد قائلاً: “والمفترض – لغةً – أن الحداثة مقولة إضافية، أي: بالإضافة إلى قديمٍ سبقه، وبعد الزمن داخل في المفهوم، إذن كل حديث سيعود قديمًا، وكل قديم كان حديثًا بالقياس إلى ما كان قبله”[1].
وفي ضوء هذا التعريف تصبح الحداثة في مأزق لغوي عَصِيٍّ على الاستيعاب والفهم؛ لأن ما هو حديث اليوم سيصير قديمًا غدًا، وقد قيل: كُلُّ غدٍ صائِرٌ أمْسًا.
وهناك مأزق آخر واقعي؛ ففي ظل نظام “العولمة”: كيف تتحقق استقلالية الإنسان التي يهدف إليها الحداثيُّون؟
يصف هذا المأزق الدكتور مصطفى الشريف بقوله: “إذا كان هدف الحداثة الأصلية هو تحقيقَ استقلالية الإنسان والعقل من كل التأثيرات الأخرى، من عاطفةٍ وذاتيةٍ وتقاليدَ، وكل ما يمكن أن يفرض سلطة قاهرة أو استعمارًا، فإن ما يُسمى بالنظام الدولي الجديد وعالم السوق أو العولمة – يُعَدُّ أمرًا مناقضًا لتحقيق هذا الهدف، رغم أن الغرب يحاول أن يفرض علينا هذا باسم الحداثة[2]، ويتسم المصطلح بالغموض باتفاق الباحثين، مما دفع بأحد المتهمين بالحداثة – وهو “إيهاب حسن” الذي ارتبط اسمه بالمصطلح منذ ثلاثين عامًا – إلى التعبير عن ذلك في سخرية؛ لإذاعة أن المصطلح – ناهيك عن المفهوم – يمكن بهذا الشكل أن ينتمي إلى ما يسميه الفلاسفة بـ(الفئة الخلافية) من الدرجة الأولى، وهكذا، وبِلُغَةٍ أبسَط، إذا وضعت – في حجرة واحدة – المناقشين الأساسيين للمفهوم، ولزيادة الإرباك، أنا، ثم أغلَقْت الحجرة وألقيتَ بالمفتاح بعيدًا، فلن يحدث إجماع بين المشتركين في الجدل بعد أسبوع، وأن خطًا رفيعًا من الدماء سوف يظهر من تحت الباب”[3].
وسنناقش تفصيلاً فلسفةَ الحداثة؛ لتصحيح مفاهيمِها عن التاريخ مستندين إلى رأي المؤرخين المعاصرين، وعن الدين لاختلاف الإسلام عن الملل والنِّحل الأخرى، من حيث العقائدُ وطرقُ الاستدلال العقلية، التي تبرهن على يقينية قضاياه الإيمانية، وعن السلف بالمفهوم الإسلامي كجيل مثالي كان أساس الحضارة الإسلامية، والمنهج السلفي بدقته الفائقة، التي حافظت على التصوُّر الإسلامي، وربطت الأجيال بعضها ببعض، وصدَّت الغزوات الثقافيَّة المتلاحقة، فأبقت على هُوِيَّة الأمة طيلة خمسة عشر قرنًا من الزمان، بالرغم من ضراوة هذه الغزوات وشدَّتها، وأخيرًا سيتضح لنا – بعد العرض والمناقشة – إلى أي طريق ستقودنا إليه الحداثة، فيما لو تابعناها في الفلسفة والسلوك.
وللتغلب على غموض المصطلح، سنحاول الإلمام بأهداف الحداثة، وتعريفها للإنسان، ورأيها في مشروع النهضة وفق رؤيتها للزمن والتاريخ، ونظرتها للدين بعامة والسلفية بخاصة، وسندمج في هذه الدراسة منهجي العرض والنقد معًا.
أما رؤية الحداثة للإنسان، فإنه عند “جاك دريدا”، فيلسوف العصر في دائرة التفكيك، والتشطير، والبعثرة، والهجلة؛ ليصبح لقيطًا، غريبًا عن آبائه من اليونانيين، الذين مجَّدوا مركزية العقل، “فجاك دريدا” إذًا استلهم تفكيك “أينشتاين” للذرة ونواتها، سحَب الفيزياءَ وما لَها من سطوة علميَّة، على تهدُّم الإنسان، وتبعثره في شظايا يَستَحيل التئامها، ويستمِد الفيلسوف رؤيته من واقع الإنسان الغربي وحده؛ إذ يرى أن هذا الإنسان يصرعُه قَلَقُ الأنظمة الاقتصادية، والصناعات النووية، والبطالة، وغزو المرِّيخ والزهرة، هو إنسان مخلوع من انتمائه[4].
واندفع الحداثيُّون العرب – في تصورهم لتحقيق الحداثة – إلى:
1 – تحقيق قطيعة معرفيَّة مع الماضي واحتقار التراث، ثم الوصول بالتبعية الثقافية للغرب إلى أبعد نقطة[5].
2 – وتوصف الحداثة “بأنها حركة إلى الأمام، تبحَث عن شرعيَّة المستقبل، في محاولة لاجتياز التكسُّر الثقافي، الذي تَرتَّب على فقدان الماضي لشرعية التاريخ”[6]؛ لذلك وصفوا التاريخ بالسِّجن؛ إذ قال حداثي أمريكي: “مشكلتكم أنكم تنظرون إلى الوراء، وبهذا أصبحتم سُجناءَ الماضي”[7].
وينادي الحداثيُّون العرب بالقطعية مع الماضي، ويَرفَعون شِعار المعاصرة[8]، أما عن نشأتها فقد كانت في الغرب، وتغيَّرت في مراحلها المختلفة ومتابعة مسيرتها هناك، ويتَّضح انتقالها من مرحلة كانت حضارة الغرب فيها إنسانية متماسكة اجتماعيًّا وأسريًّا، وحينئذ كان دعاة الإصلاح عندنا ينادون باللَّحَاق بالغرب، “أي: تبنِّي منظومة الحداثة الغربية”؛ إذ لم يروا في العواصم الغربيَّة سوى النور والاستنارَة، في الوقت الذي كانت المدافع الغربية تَدُك بلادنا دكًّا، ولكن سرعان ما تكشف الوجه الدَّارْوِينيُّ للحداثة الغربية، عندما “أرسلت لنا جيوشها الاستعمارية؛ لتُهلِك الأخضر واليابس، وتحوِّلَ بلادَنا إلى مادة استعماليَّة كمصدر للمواد الخام الرخيصة، وسوقٍ مفتوحةٍ بشكل دائم للسلع الغربية”[9].
وعند تطبيق الحداثة الداروينية اتضَح أن ثمنَها المادي والمعنوي مرتفعٌ للغاية، ويَستَحيل تنفيذه إلا في العالم الغربي، وبعضِ أعضاء النُّخَب الحاكمَة في العالم الثالث؛ لأنه يَضَع للتَّقدُّم غايةً وحيدةً هي تسخير العالم لصالح الشعوب الغربية، التي تزداد شراهة في استهلاك الموارد الطبيعية، وإذا أصرَّت على المضيِّ قدمًا وَفْق هذا التصوُّر، فستحتاج إلى ستِّ كرات أرضية؛ لتستَخلص منها الموادَّ الخام، وكرتين ليُلقَى فيها بنفاياته[10]، ويُعلِّل الدكتور عبدالعزيز حمُّودة انتقالَها إلينا بسبب هزيمة الإنسان العربي، ونتيجة الاستيقاظ من الحلم الزائف عام 1967م.
وتتضح نظرة الحداثيِّين للدين من ثلاثة مواقف:
1 – “أنسَنَة الدِّين”، أي: إرجاء الدين إلى الإنسَان، وإحلال الأساطير محلَّ الدِّين[11].
2 – تطبِيق المبادئ النَّقدية الوَافِدة على النصوص المقدَّسة[12].
3 – وضع العمليَّة “أو العقلانيَّة” والدين على طرفَي نقِيض، على أساس أن: الدِّين فِكر غيبِيٌّ، يتعارض مع التفكير العلمِي والعقلاني[13].
وفيما يتصل بالفكر الإسلامي يطالب “محمد أركون” بقراءةِ الفكر الإسلامي – حسَب زعمه – قراءةً علمية، وإخضاعِ القرآن الكريم لمحكِّ النقدِ التاريخيِّ المقارن[14].
وتؤيِّدُه الدكتورة “عطيات أبو السعود”، وتصف السلفية العربيَّة بالتَّزمُّت، وتَشكُو من الحياة “في ظل تيار سلفي مُتزمِّت، يَضع ثوابتَ فكريةً، يَحذُر الاقترابُ منها”، وتطالب بتحرير العقل والفكر من رُكام اللاَّمعقول، الذي يُثقِل كاهل الثقافة العربيَّة[15].
ولكنَّ الجدير بأيِّ باحث في الأديان أن يميِّز – من حَيث المصادرُ والعقائد والشرائع – بين الإسلام وغيرِه من الملَل والنِّحَل، ولا نخلط بين التصوُّر الديني في الغرب وبين التصوُّر الإسلامي؛ فإنَّهم هناك يَعنُون بـ(أنسَنَة الدين) أن: “تُفهَم العقيدة المسيحية حول صلب المسيح – عليه السلام – وقيامته فَهمًا أسطوريًّا، على أنها تَرمُز إلى تجديد الحياة، أو اقتران الموت بالحياة”[16]، ويَجدُر أيضًا بالمشتغلين بالدِّراسات الإسلاميَّة – الاطلاعُ الكافي على التُّراث، واستيعابه بنفس القدر من العناية بالثقافة الغربية، التي يتعصبون لها، ويَخضَعون لتصوُّراتها، فأصبحوا أسرى لها.
وتَذخَر المكتبة العربيَّة الإسلاميَّة بمؤلفات علماءِ أصول الفقه وغيرها من المتكلِّمين، التي تحتَوي على طرق الاستدلال بطريقة علميَّة في القضايا الدينيَّة لا تَتَقَبَّل الرَّد؛ لأن الإسلام موثَّق علميًّا، ونقتطع بضعة أسطر مِن “الباقلاَّني” في كتابه “تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل”، حيث يقول تحت عنوان “باب آخَر في معنى الدليل والاستدلال”: “فإن قال قائل: فما معنى الدليل عندكم؟ قيل له: هو المرشد إلى معرفة الغائب مِن الحواسِّ، وما لا يُعرف باضطراد، وهو الذي ينصب من الأمارات ويورَد من الإيماء والإشارات، مما يمكن التوصُّل به إلى معرفة ما غاب عن الضرورة والحس، وهذا الدليل الذي وصفنا حالَه هو الدلالة، وهو المستدَّل به، وهو الحُجَّة”[17]، وفي موضع آخر يقول: “وقد يُستدَل بالمعجزة على صدق من ظهرت على يده؛ لأنها تجري مجرى الشهادة له، ويُستَدَل على صدق المُخبر الذي أخبر عنه النبِي – صلى الله عليه وسلم – أنه لا يكذب، وكذلك يستدل بخبَر من أخبر عن صدقه صاحبُ المعجزة على صدق من أخبر عنه أنه لا يكذب”[18].
ولا تقتصر هذه الملاحظة على علماء الكلام والفلاسفة، بل إن الواقع التاريخي لتَطوُّر علم البلاغة والبيان للمعاني العربيَّة يقول: إن البلاغ العربي كان يتحرك وينتج على محورين: محور الدين، الذي بدأت البلاغة موظفةً في خدمته، وتبيان إعجاز كتابه السماوي، ومحور التأثير الأجنبي، الذي جدَّ فيما بعد، وخاصة نظرية المحاكاة ومبادئ المنطق، كما قدَّمها أرسطو[19].
وسيتضح زيف فكرة الحداثة عن الزمن أو التاريخ، إذا ما استندنا إلى ما وصل إليه علم التاريخ المعاصر من مناهج في المعرفة التاريخية.
التاريخ:
إن رؤية الحداثيِّين للتاريخ بوصفه الرجوعَ إلى الوراء، وتشبيهِه بالسجن المانع للإنسان من التقدُّم، هذه الرؤية لا تستقيم لا مع واقع الحضارة العربية، ولا مع التنوع الملاحَظ في مناهج دراسة التاريخ، كما تجده عند بريستد.
كذلك يخالف النظرة المعاصرة، التي ترى: أن موضوع التاريخ هو دراسة التجربة الإنسانية.
ومناقشة هذه الرؤية بشكل مفصَّل يقتضي إفراد كل منها بالنقد والتفنيد:
أولاً: فمن طبائع البشر محاكاة الصفوة، واقتفاء آثار السابقين من القادة والزعماء، عرفت الحضارات هذه الظاهرة، ولا تشذ حضارة الغرب عنها، وإن غلب عليها المحاكاة في الإنشاءات والمباني والأزياء؛ إذ اتضح ذلك عندما قام “يوليوس قيصر” – حين تدرج من قنصل جمهوري إلى إمبراطور – “واتخذ من العَصَا الرومانية شعارًا لسلطانه، وتوَّج رأسه بإكليل الغار الروماني، واستلهم الحضارة الإيطالية”، وكما كان “يوليوس قيصر” يستلهم حضارة اليونان، استدعى “نابليون” مشاهير الفن الإيطالي، وأعاد تأسيس كنيسة المادلين على غرار المعابد الرومانية، وكَلَف معمارييه ببناء قوس النصر في قلب باريس، محاكاةً لقوس نصر “سبتيموس سفيروس” في قلب روما[20]، فليست المحاكاة واقتفاء الآثار من لوازم السلفية وحدها، وإن غلبت العقائد والقيم والروائع.
ثانيًا: يستعرض “جيمس بريستد” المناهج التاريخية، فمنها:
- ما يقسم التاريخ البشري إلى عصور، مثل: عهد الملكية، وعهد الإمبراطوريات، وعهد الديمقراطيات.. إلخ، ولكن هذا التقسيم لا يتعمَّق في طبيعة الإنسان السائرة نحوَ الرقي.
- وهناك تقسيم آخر يؤرِّخ لعصر الآلات، وما تبعه من انقلاب صناعي.
- وثالث يتبعه علماء الآثار وعلماء الأحافير النباتية والحيوانية.
ويرى أنه مع ضرورة هذه التقسيمات، إلا أنها أقل فائدة مما يُرجَى عند البحث في مدى التقدم الإنساني.
أما التقسيمات التي تكون أكثر فائدة وأعظم أهمية، وتدل في آن واحد على أطوار التقدم الإنساني، فهي التي تكون على نحو “عصر الضمير والأخلاق”، الذي بدأ منذ نحو خمسة آلاف سنة، وعصر العلوم الذي جاء به “جاليليو”، منذ أكثر من ثلاثمائة سنة[21].
وبعدما وصف مضمون كتابه عن “فجر الضمير”، سجل النتائج التي وصل إليها؛ ليصل إلى مدى ما ينطبق على العصر الحاضر وَفْق هذا المنهج، فيقول متحسرًا: “فيظهر لنا بذلك أننا ما زلنا واقفين في غَبَش عصر الأخلاق”، ويستطرد آملاً في مستقبل أفضل، فيقول: “لا بأس أن يكون ذلك لأحكام ضحى، لا يزال في الواقع بعيدًا جدًّا عنا، ولكنه لا محالة آت وراء ذلك الفجر”[22].
ويقول في موضع آخر: “إن فجر الضمير لا يزال خلفنا بالضبط، لم نكد نبتعد عنه شيئًا، وأننا ما زلنا للآن نقف عند مطلع شمس عصر القيم الخُلقية”[23].
ويستخلص “بريستد” من دراسته الموسعة بكتابه “فجر الضمير”: أن أعظم فائدة إنشائية نجنيها من وراء الاهتداء إلى حقيقة تلك المدنيات الشرقية القديمة المفقودة – هي أنها ردت إلينا تراثًا عرْضُه عرض الأفق، وهو التراث الذي خلفته لنا حياة بني الإنسان أجمعين[24].
وهذا رأي سليم مبني على قاعدة صحيحة؛ إذ يوزن التقدم الإنساني بميزان القيم والمبادئ، وأنه لا يذم تاريخ الأمم السالفة لمجرد أنها مضَت وانقضت، ولا يمدح الحاضر لمجرد أنه معاصر كدأب الحداثة، التي تركض وراء كل ما هو حديث؛ لتصورها بأن التقدم مع الزمن يسير قُدُمًا دائمًا في خط مستقيم؛ إذ لو صح هذا في خط سير التقدم العلمي والتكنولوجي، فلا يصح في التعريف بالإنسان، ومدى التزامه بالقيم والأخلاق، والمحافظة على الهوية جيلاً بعد جيل.
وهكذا يتَّضح مدى الخطأ الجسيم، بإقامة الأحكام على مدى التقدم والتأخُّر بمقياس الزمان، دون النظر للمعيار الموضوعي في هذا التقييم، الذي أصاب به “بريستد” كبد الحقيقة.
ثالثًا: يقول الدكتور حسين مؤنس: “ويتفق المؤرخون اليوم – على اختلاف مدارسهم – على أن موضوع التاريخ هو دراسة التجربة الإنسانية على وجه الأرض”[25]، كذلك يقرر أن “مؤرخ اليوم يدرس التاريخ كله دون أن يفرق بين ماض وحاضر ومستقبل، والماضي لا يمضي بانقضاء زمنه، بل هو يبقى حيًّا وفعَّالاً في حياتنا؛ فكما يحصل الفرد ماضيه خلال سنوات عمره منذ طفولته إلى آخر عمره، فكذلك الإنسانية تحمل معها ماضيها إلى حاضرها ومستقبلها، فلا شيء من تجاربها يموت ويتلاشى، بل تظل التجارب حية في كيان الأمة”[26]، ونضيف بأن كتابة التاريخ تعني تسجيل التجربة الإنسانية، وأن الماضي كمَفهُوم قائم بذاته قد انتهى، وأصبَح الزمان كله لهذا بلا فواصل؛ لذلك، فإن رؤيتنا لعصور ازدهار الحضارة الإسلاميَّة هي رؤية لمثل أعلى، ويمكن تحقيقه في دائرة العقائد والقيم الثابتة، لا لأحداث مضت تاريخيًّا وانقضى عصرها “مع التمييز بين مجال العقائد والشرائع والمُثُل العليا، وبين مجال الواقع الذي يتشكل وَفْق أساليب العصر المتغيرة، أي: التحديث التقني، بشرط المحافظة على الهوية”[27].
ومن شأن اتباع المنهج السلفي في النظم الاجتماعية والسياسية، والتعليمية والتربوية، أن ترسخ في نفوس الأجيال عقائد الإسلام وشرائعه وقيمه، بحيث يستحيل اقتلاعها منها مهما بذلت العولمة من محاولات، وربما كان هذا هو سبب الخصومة الشديدة للسلفية، في دوائر الاستشراق والتبشير وتلاميذهم من بني جلدتنا.
إن المنهج الاستقرائي يحتم بيان النهضة التي تحققت بصورة نموذجية في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – وصحابته، ثم قياسًا على هذه النهضة يتَّضِح بصورة جلية مراحل التقدم أو الانحسار عن النموذج المتحقق آنذاك.
“إن خير وسيلة لمعرفة أسباب هذا الضعف – أي: ضعف المسلمين – الرجوع إلى التاريخ، فهو الذي يُبَيِّن لنا ما حدث مما سبَّب ضعفه؛ وبذلك نضع أيديَنا على الأسباب الحقيقية، حتى يمكن مَنْ يريد الإصلاح أن يعرف كيف يصلح[28].
وقد خلص “لاووست” من دراسته لعصر الصحابة: أن الرأي اسْتَقَرَّ عند أهل السنة والجماعة “على أن هذا العهد يُعَدُّ امتدادًا لعهد النبي – صلى الله عليه وسلم – كما أن الآراء التي سادت هذا العصر قد تحقَّقت صحَّتها، وتأكدت قيمتها الإنسانية بنظام الحكومة الإلهيَّة للخلفاء الأربعة الراشدين، ونشأ من نجاح هذه التجربة الأولى هذا النجاح العظيم، والثقة في خلود هذه الآراء، وأخيرًا فإن في توقير الصحابة ضمانًا للاستمرار الثقافي، وإجلالاً للماضي، وتعبيرًا عن التضامن الذي يربط الأجيال بعد النبي – صلى الله عليه وسلم – في معرفة دينهم، وأصبحوا القدوة للأجيال تلو الأجيال[29].
ولنا تحفُّظ على وصفه لحكومة الخلفاء الراشدين بالحكومة الإلهية – ثيوقراطية – إذ لم تكن كذلك بالمصطلح الكَنَسِيِّ كما يظن لاووست، ولكنها قامت على تطبيق التشريع الإسلامي نصًّا وروحًا، واحتفظت بالطابع الفريد لها كخلافة نبوة، وظلت نموذجًا معبِّرا عن تجسيد تعاليم الإسلام، ومن ثَمَّ تركت لدى المسلمين اقتناعًا بإمكان تحقيق النظام الإسلامي بصورة شاملة.
وفي موضع آخر يقول: “كما أن العقل يؤكد الطابع الإلزامي في هذه الخلافة؛ لأن الخلفاء الأربعة الأوائل كانوا خير المسلمين، وأن النتائج شبه المعجزة التي تحققت بفضل سياستهم قد أكدت تفوقهم المبين، لقد كانوا وحدويين، وكانت دولتهم عالمية؛ إذ كانت الأمة الإسلاميَّة المثالية تتألف من مدينة واحدة”[30]، ويؤكد الدكتور جمال حمدان صبغة العالمية للدولة الإسلاميَّة العربيَّة منذ نشأتها؛ فقد خرج عرب الإسلام من قلب الجزيرة؛ ليبنوا دولة لم تسبقها من قبل دولة في الامتداد والرقعة، ولم تلحقها مِن بعد إلا إمبراطورات العصر الحديث وحدَها، بل هي – في نظر “ماكيندر” – الإمبراطورية العالمية الأولَى في التاريخ، تقليد لإسكندر، وتستَبِق نابليون”[31].
مكانة السلف العلميَّة والتشريعية والحضارية:
عندما خط الإمام الشاطبي طريق التعلم جعله من مصدرين: أحدهما: المشافهة، والثاني: تحرِّي كتب المتقدمين – أي: السلف الصالح – في كل علم عملي أو نظري، وحجته في ذلك أعمال المتقدمين في إصلاح دنياهم ودينهم على خلاف أعمال المتأخرين – وعلومهم في التحقيق أقعد – “فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين، والتابعون ليسوا كتابعيهم، وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيَرَهم وأقوالهم وحكايتهم، أبصَر العَجَب في هذا المعنى”[32]:
إحداها: ثناء الله عليهم من غير مثنوية، ومدحهم بالعدالة؛ كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110]، وقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]؛ ففي الأولى إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقضي باستقامتهم على حال، وفي الثانية إثبات العدالة مطلقًا.
الثاني: ما جاء في الحديث من الأمر باتباعهم، وأن سنَّتهم في طلب الاتباع كسُنة النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((عليكم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تَمسَّكوا بها وعضُّوا عليها بالنواجذ)).
الثالث: أن جمهور العلماء قَدَّموا الصحابة عند ترجيح الأقاويل.
الرابع: ما جاء في الأحاديث من إيجاب محبتهم وذم مَن أبغضهم[33].
ونعود إلى وصف “لاووست” لنشأة الدولة الإسلاميَّة بما يشبه المعجزة، ونرى أنه لم يَتَجاوز التعليل السليم؛ إذْ يسجل التاريخ لأهل العصور الأولى إنجازاتٍ ضخمة: سياسيةً، واجتماعيةً، وعلميَّةً، وأخلاقيةً بطريقة الطفرة، وبشكل غير مسبوق، كما بيَّن الدكتور جمال حمدان.
وسنتناول هذه الإنجازات كلاًّ على حدة:
فمن الناحية السياسية والتنظيم الاجتماعي يقول الدكتور جمال حمدان: “لا شك أن مما يدعو إلى الحيرة والتساؤل حقًّا أن تستطيع قوى الصحراء الطاردة – قاعدة أرضية شبه خاوية، وموارد طبيعية شحيحة، وإنتاج اقتصادي متواضع، وكثافة سكانية هزيلة شفَّافة – أن تقهر وتخضع قوى البر والبحر التقليدية العتيدة، فارسَ شرقًا، وروما غربًا، ومدى زمني يُحسَب بالسنين أكثر ما يُحسَب بالعقود، مُعادلةٌ صعبةٌ”.
ويكمن حَلُّ هذه المعادلة بالحوافز والقوى الميتافيزيقية – أي: الدينيَّة لأن المسلمين حينذاك أيقنوا أنهم حملة رسالة – فيستطرد: “ولا شك أن جذوة الحماس الديني المستقرة هي التي ألهبت خيال المؤمنين، حتى تحولت بهم إلى شعلة ملتهبة، وتحولوا إلى مشعل مضيء”[34].
وعندما كبرت الدولة الإسلاميَّة ظلت تحافظ على هذا المشعل المتلقى من السلف، فلم تتحول إلى “إمبراطورية استعمارية”، بل كانت “إمبراطورية تحريرية” بكل معنى الكلمة، لقد حررت الشعوب من رِبقَة الاستعمار الروماني أو الفارسي واضطهاده الوثني، وابتزازه المادي، أحلت أخوَّةَ الدين بدلَ أخوة الأقاليم، وسواسية الناس كانت تترجم سياسيًّا إلى سواسية الولايات والمقاطعات”[35].
ومن الناحية العلميَّة نرى أن التجربة الواقعية الناجحة، التي نفذها المسلمون الأوائل في العصور الأولى – أمدَّت منهج السلف برؤية كاشفة مستديمة على مدى العصور التالية، كلما مرت بالأمة أزمات، وأصبحت هذه التجربة ماثلة أمام الأعيُن، وحاضرة في الأذهان، وأمدَّت علماء المسلمين بمعين لا ينضب كمصدر للاجتهاد، فيما يَسْتَجِدُّ من معضلات، باستخدام منهج أصول الفقه، وتاريخ هذا المنهج نلتمَّسُه في رأي أستاذنا الدكتور النشار – رحمه الله – في عصر الصحابة أنفسهم، ولدى الكثيرين من فقهائهم؛ فابن عباس وضع فكرة (الخاص والعام)، وذُكِر عن بعض الصحابة الآخرين فكرة (المفهوم)، “بل إن فكرة (القياس) – وهي غاية الأصولي – لم تُوضَعْ في عصر النبي – صلى الله عليه وسلم – وفي عصر صحابته – كقياس الأشباه بالنظائر والأمثال فحَسْب – بل ووضع أيضًا في العصر الأول والعصر الثاني قواعد للقياس وشرائط للعِلَّة”[36].
وعندما وصل المنهج القياسي إلى الإمام الشافعي، قام بتحليله وعرضه في صورة منظمة بكتابه “الرسالة”، وأضاف إليه أبحاثًا كثيرةً، أهمها المباحث البيانية التي لم يكن الصدر الأول في حاجة إليها، حين كان الكلام ملكةَ العرب، وتوسع في جميع المباحث الأصولية التي عرفت من قبل، وأكمل بعضها، وأقام فروع المذهب على الأصول، مما أدَّى بالشيخ مصطفى عبدالرازق إلى جعله في الدراسات الإسلاميَّة “مقابلاً لأرسطو في الدراسات اليونانية”[37].
ويقول الأستاذ طارق البشري: “يكفي القول بأن الأهمية القصوى لتلك الفترة لا تَرِد من كونها مجرَّد “تجربة تاريخية”، ولكن ترد من قيمتها التشريعية الأصولية، وأن مقتضى النظرة الإيمانية يتمثل فيما نستخلصه من أصول من هذه الفترة، وإنما يتعلق بما يعتبر لدى المسلم نصوصًا وأحكامًا غير تاريخية، أي: أنها ذات صفة دوام، وتعلو على نطاق الزمان والمكان، شأنها شأن سوابق التشريع، قد تستخلص من واقعه، ولكنها تعلو من بعد على ملابسات الواقعة، وتصير في وضعٍ حاكمٍ لكل ما يتلوه من وقائع، وأن ما يستخلص من هذه الفترة من أحكام الإسلام إنما يصير في وضع الحاكم للمجتمع وللجماعة ولتجارب التاريخ، ولا يكون محكومًا بهؤلاء، وهذا القول بأن الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وأنها ذات وضع إلهي”[38].
السلفية قرينة التجديد لا الجمود:
لم يتوقف التاريخ الإسلامي عن تقديم العلماء المجددين عصرًا بعد عصر، وكان مهمتهم الرئيسة إزالة الركام الحادث على عقيدة التوحيد، وإجلائها وإظهار رونقها الأصيل، وهم يؤدون بهذا الدور نوعًا من الثورات، ليست على نمط الثورات بالمفهوم الغربي، ولكن بمفهوم آخر يُزِيل من طريق العقائد – وفي قمتها التوحيد – ما يعترضها من جهالات وألوان الشرك والوثنية؛ لتحرير المسلمين من عبادة غير الله إلى عبادة الله وحده، فيتحرر الفرد تحرُّرًا كاملاً من أي سلطان آخر غير العبودية لله تعالى، فالسلفيون بالمفهوم الصحيح، كانوا دائمًا الأكثرَ ثوريَّةً، ويكفي أن نسترجع اسمين من علماء السلف:
ابن حنبل، كان هو الثوري التقدمي، هو المدافع عن حرية الفكر وليس المعتزلة، كما يَدَّعِي كلُّ الذين يصنفون أنصار السنة كرجعيِّين، وكل من خرج على الجماعة كثوريٍّ.
ابن حنبل، رفض تدخل السلطة لفرض عقيدة “خلق القرآن”، وتَحَدَّى السلطة، ودخل السجن، وعُذِّبَ مستمسكًا بحقه، بل عارض أمير المؤمنين حتى النهاية، بينما استعان المعتزلة بشرطة أمير المؤمنين وسيفه وسجونه؛ لفرض وجهة نظرهم.
وكان ابن تيمية بطلَ مقاومة الغزو التتري، واستعان خصومه عليه بأعوان السلطان، فدخل السجن أربع مرات، ومات فيه.
ويقول الأستاذ محمد جلال كشك: “وإذا استرجعنا تاريخ المقاومة الوطنية ضد الاستعمار الأجنبي، فسنجد أبرَز الوجوه بين القيادات الوطنية، قيادات إسلامية “سلفية” من لجنة الأزهر الثورية، التي قاوَمَت نابليون، ثم الأمير عبدالقادر، إلى الملاَّ محمد، مرورًا بعمر المختار، وأحمد السنوسي، والمهدي في السودان، كل هذا الزخم السياسي هو مجرد نتيجة من نتائج التوحيد”[39].
وتأتي المناسبة هنا لتصحيح المفهوم الخاطئ عن دور نابليون، الذي يتردَّد بأنه أتى برسالة حضارية، فالحق – كما أثبت الباحث الأمريكي بيتر جران في كتاب “الجذور الإسلاميَّة للرأسمالية” – أن الحملة الفرنسية كانت بمثابة تعطيل الدينامية الداخلية لمصر وتحويلها إلى يد غريبة عنها، وكانت قبل تلك النكسة منصبَّة على علوم الطبيعة والمنطق العلمي”[40].
ونأتي إلى إحدى ظواهر الخصومة للسلفية بدعوة البعض إلى: “إعمال العقل في النصوص الدينية”، وغاب عنهم أن هذه النصوص قد كانت موضع فَهْمٍ وتدبُّر وفقه طَوَالَ خَمسَة عشَر قرنًا من الزمان، وبذلك يتجاهلون اجتهادات آلاف العلماء طوال هذه القرون، وكأنهم يفترضون أن الوحي لم ينزل إلاَّ وربما تتجلَّى الحقيقة، أو يتضح أحد جوانبها إذا استقصينا بعض خلفيات الحداثة، واسترشاد الحداثيين؛ إذ عقدوا له بأمريكا أخيرًا المؤتمرات والندوات لإحياء فلسفته لمرور مائة عام على وفاته ولإعادة الاعتبار له، ونرى أن هذا السلوك يترجم العقائد المضمرة في الحداثة في عصرنا، وكم هو خيالي هذا الافتراض، وكم هو مكلِّف وقتًا وجهدًا إذا ما بدأنا الآن نُعمِل العقل وأهملنا نتائج “إعمال العقول” الذي كَلَّف أجيالَنا – منذ عصور الإسلام الأولى – أعمارَهم كاملةً؛ ليتركوا لنا هذا التراث العظيم، الذي يحمل نَتَاج عقل الأمة وقلبَها، ويملأ مكتبات العالم.
وليقرؤوا إن شاؤوا بعض المؤلفات التي تحمل هذا الإنتاج الضخم؛ ليتأكدوا أن ما يطلبونه موجود كاملاً في بطون الكتب والموسوعات، والرسائل وغيرها من الذخائر، وهي موضع فخر أمتنا ودورها الرائد في الحضارة الإنسانية؛ ليعلموا أن ما يطلبونه قد أنجز على أفضل وجه.
ونترك للقارئ استخلاص المغزى بعد تحليل فلسفة “نيتشه”، وأثرها المدمِّر في العقيدة الدينيَّة في الغرب، أي: مناقشة ونقد بعض دعائم الحداثة ومصادرها والبيئة التي فرَّخَتْها، وبخاصة فلسفة “نيتشه”؛ فقد كان رائدًا لتيارات عديدة جاءت بعده، فأخذت على عاتقها مراجعة التراث الغربي، وزعزعة الثقة في الميراث الحضاري، واستمرت هذه التيارات في فلسفات هيدجر، وخلاصتها عن الإنسان والحياة والموت أنه “لا معنى لمجيئه، ولا لموته”، وامتدت في تيار ما يُسمى الآن بفلسفة “ما بعد الحداثة”[41].
وكان هدفُ نيتشه تحطيمَ الميتافيزيقيا الغربية وتدميرها، وإعلان موتها وزلزلة الأسس التي يستند إليها التراث الحضاري الغربي، وما زالت تتوالى التيارات والرؤى النقدية من أجل إعادة التقييم.
وقد سخَّر “نيتشه” من الفلسفة الرواقية، التي تطالبنا أن نعيش وفقًا للطبيعة أو المبدأ الكلي والحكمة الكلية، بينما الطبيعة عنده في حد ذاتها دورة صماء وتَتَّسِم بلا مبالاة، فهي في نفسها عبث تدور دورتها بلا هدف، وبدون عدل ولا رحمة.
وكان هدمه للتاريخ وللحضارة من أجل بنائهما من جديد، وهاجم إنسان العصر الحديث من أجل ظهور إنسان آخر سماه “السوبرمان”، المستند إلى منطق القوة؛ إذ ليس في الحياة شيء ذو قيمة إلاَّ بالقوة، وهذا الإنسان الأعلى بالنسبة للإنسان، كالإنسان القرد[42].
وأدان العصرَ الحديث؛ لأنه خضع – في رأيه – للديانة المسيحية التي روضت الإنسان، كما لم تَسْلم القيم الأخلاقية من مِعوَل هدمِهِ أيضًا، وكان يفاخر بأن موهبته الخاصَّة هي قلب المنظورات رأسًا على عقِب وبالإجماع، اجتذب نيتشه النموذج المعهود للإلحاد، كما وضعه فيورباخ وماركس[43].
وتقليدًا للتطورات الفلسفيَّة في الغرب، هناك مَن يتحمَّس بيننا لمواقف مشابهة لنيتشه، يَرَونَ حاجة العرب إلى جسارته وشجاعته في الهدم والتدمير، حتى نستعيد القدرة على البناء والإبداع من جديد، متذرِّعِين بحجة إمداد المشتغلين بالثقافة العربيَّة بأدوات ومناهج العصر، بعد تطويعها لمتطلبات مجتمعاتهم[44].
إن قطار ثقافة الحداثة الذي انطلق من هدم الميتافيزيقي “نيتشه”، وتخريبِ النسيج العقائدي الأخلاقي للإنسان – سيسير حتمًا إلى نهايته المتوقعة، حتى يصل إلى مَحطَّة “عبادة الشيطان”.
وهناك من يرى أن ذلك تحقق بالفعل، فقرأنا عن “عَبَدَة الشيطان”، الذين يدعون إلى طريق الشيطان بدل الدعوة إلى طريق إله ديانات التوحيد، ويَعبُد الدعاةُ شياطِينَهم بواسطة موسيقى صاخبة، وَرَقَصَات تؤدي إلى تلاشي الوعي، وبلوغ ذِرْوة اللذة والمتعة الجنسية، وعن طريق تناول الحبوب المخدرة والحقن بالإبر”[45].
ونسجِّل أخيرًا الرأي الذي انتهى إليه الدكتور عبدالعزيز حمودة من دراسته للحداثة العربيَّة، التي انبهرت بالعقل الغربي واحتقرت العقل العربي، ودعت إلى القطيعة مع الماضي، وتعمَّدَت الغموض والإبهام والمراوغة، ثم قال في النهاية: “فبالإضافة إلى تأكيد الحداثة العربيَّة للتبعية الثقافية، التي أفرغت الثورة أو التمرد الحداثي المبدئي من مضمونه، بعد أن حولتنا إلى قطع من الشطرنج تُحرِّكها مصالح الإمبريالية الجديدة، تحت عباءة الكونية والعولمة، وإلى راقصين يتواثَبُون في فوضى مع أنغام عازف دفعَت أجرَه مبكرًا ومقدمًا المخابراتُ الأجنبية، الغربية والشرقية على السواء، يُضِيف الحداثيُّون وما بعد الحداثيِّين العرب إلى خطاياهم، خطيئةً جديدةً، وهي العبث بالعقل العربي[46].
خلاصة العرض التحليلي لفلسفة الحداثة أنه يجعلنا نحس بالدوار؛ لأنه يهدم كل ما هو مُقَدَّس، ويطالبنا ببناء آخر مقام على رمال هشَّة تغوص بنا إلى المجهول، ولا تأخذ بيدنا إلى النهضة التي يراها صانعو الحداثة.
وإن كان بعض الحداثيِّين ينكرون أن أساس حضارة أمتنا وحي من السماء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإننا لن نتخلى عنه، لا لأننا نؤمن بعصمته، ويعرفنا بالحقائق المطلقة في المسائل الإيمانية فحَسْب؛ بل لأن الدراسة النزيهة للتطورات المتلاحقة لأمتنا تُبَرْهِن – بما لا يدع مجالاتٍ للشك – أنه كان أساس الشموخ الحضاري في القرون المفضلة الأولى، وكانت الهزائم والنكبات تتوالى كلما بعدت الأمة عن الوحي المعصوم، وواقعنا المعاصر خير شاهد على ذلك، وليراجع الحداثيُّون أنفسهم بدراسة هذه القضية المنطقية، أي: التلازم بين نهضتنا وبين تطبيق هذا الوحي في جوانب حياتنا العقدية والثقافية، والاجتماعية والاقتصادية والدولية.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
أ. د. مصطفى حلمي
[1] ندوة ثقافية بعنوان (سقطة الحداثة والخصوصية الغربية)، مجلة البيان الصادرة من المنتدى الإسلامي، ص 47، العدد 110 جمادى الآخرة 1424 هـ، أغسطس سنة 2003م، إعداد: وائل عبدالغني.
[2] ص 21 من كتاب “الإسلام والحداثة”، للدكتور مصطفى الشريف، دار الشروق 1419 هـ – 1999 م.
[3] ”المرايا المقعرة، نحو نظرية نقدية عربية”، للدكتور عبدالعزيز حمودة، ط عالم المعرفة، الكويت، جمادى الأولى سنة 1422 هـ – أغسطس سنة 2001 م، والنص عن بحث ألقاه إيهاب حسن بمؤتمر بجامعة عين شمس سنة 2000م، كما وصف الحداثة بأنها تتحدى التعريف، وكأنها الشبح.
[4] مقال بعنوان: (كتاب جورج قرم “شروق وغروب” الشرخ الأسطوري، الأخوة العالمية المستحيلة)، بقلم أمينة غصن، الوسط، ملحق بجريدة الحياة اللندنية، ص 15 في 4/ 8/ 2003م، وقد تجرأ دريدا هذا في مؤتمر بالقاهرة أوائل عام سنة 2000م في مقر المجلس الأعلى للثقافة بالمطالبة بتفكيك المؤسسات القومية المختلفة كسلطة قمعية (المرايا المقعرة ص 49)، ويصف الدكتور عبدالعزيز حمودة هذه الدعوة بأنها “بالغة الخطورة”.
[5] ”المرايا المقعرة”، ص 37.
[6] ”المرايا المحدبة، من البنوية إلى التفكيكية”، للدكتور عبدالعزيز حمودة، ط عالم المعرفة، الكويت، ذو الحجة سنة 1418 هـ – أبريل سنة 1998م.
[7] ”المرايا المقعرة”، ص 48.
[8] ”المرايا المحدبة”، ص 70/ 71.
[9] مقال بعنوان (الحداثة ورائحة البارود)، بقلم الدكتور عبدالوهاب المسيري، جريدة الأهرام، في 21/ 3/ 2003م.
[10] نفسه.
[11] ”المرايا المحدبة”، ص 35.
[12] نفسه، ص 64.
[13] ”المرايا المقعرة”، ص 90/ 91.
[14] الحصار الفلسفي للقرن العشرين، ص 50، للدكتورة عطيات أبو السعود، منشأة المعارف، الإسكندرية، أغسطس سنة 2002م.
[15] نفسه، ص 50، 52، 53.
[16] ”المرايا المحدبة”، ص 35.
[17] ”تمهيد الأوائل وتلخيص الدلائل”، ص 33، للقاضي أبي بكر محمد الطيب الباقلاني، تحقيق الشيخ عماد الدين حيدر، 1407هـ – 1987م، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت.
[18] نفسه، ص 33.
[19] ”المرايا المقعرة”، ص 417.
[20] ”فلسفة الجمال، أعلامها ومذاهبها”، للدكتورة أميرة مطر، ص 185، مكتبة الأسرة 2002م.
[21] ”فجر الضمير”، جيمس هنري بريستد، ترجمة للدكتور سليم حسن، ص 18، مكتبة الأسرة، 2000م.
[22] نفسه، ص 19.
[23] نفسه، ص 413.
[24] نفسه، ص413.
[25] كتاب “الحضارة، دراسة في أصول وعوامل قيامها وتدهورها”، الدكتور حسين مؤنس، ص 70، وص 122، 123، باختصار عالم المعرفة، الكويت، محرم/ صفر سنة 1398هـ يناير سنة 1978م.
[26] كتاب “الحضارة، دراسة في أصول وعوامل قيامها وتدهورها”، الدكتور حسين مؤنس، ص 70، وص 122، 123، باختصار عالم المعرفة، الكويت، محرم/ صفر سنة 1398هـ يناير سنة 1978م.
[27] ”التاريخ والمؤرخون”، للدكتور حسين مؤنس، ص 24، ط دار المعارف بمصر، سنة 1984م.
[28] ”يوم الإسلام”، أحمد أمين، ص 6، دار الكتاب العربي، بيروت، سنة 1952م.
[29] ”نظريات شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة والاجتماع”، للمستشرق الفرنسي هنري لاووست، ترجمة محمد عبدالعظيم، تقديم وتعليقات دكتور مصطفى حلمي، دار الأنصار، بالقاهرة، ص 2، وص 76، سنة 1979 م.
[30] نفسه، ص 199.
[31] ”استراتيجية الاستعمار والتحرير”دكتور جمال حمدان، ص 26، كتاب “الهلال” فبراير سنة 1999م.
[32] ”الموافقات في أصول الشريعة”، للشاطبي، ص 1، ص 68، شرحه وخرَّج أحاديثه الشيخ عبدالله دراز، ووضع تراجمه دكتور محمد عبدالله دراز، دار الكتب العلمية، بيروت، بدون تاريخ.
[33] نفسه، ص 55، 58، باختصار.
[34] ”إستراتيجية الاستعمار والتحرير”، جمال حمدان، ص 30.
[35] نفسه، ص 29.
[36] ”مناهج البحث عند مفكري الإسلام، و”اكتشاف المنهج العلمي في العالم الإسلامي”، للدكتور علي سامي النشار، ص 66، 67، ط دار المعارف، بمصر، سنة 1965م.
[37] نفسه، ص 69، ولكن الدكتور النشار يدقق في هذا الوصف؛ لأن القياس الأصولي كمذهب منطقي متكامل يخالف جوهر منطق أرسطو، فإنه يتكوَّن من مبحث في الحد لا يستند على فكرة الماهية، ومن مبحث في الاستدلالات يقوم على التجربة المؤدية إلى اليقين، وهي عنصر لم يعرفه أرسطو (ص 139).
[38] مقال بعنوان (إشكالية الشريعة الإسلامية والحداثة في المجتمع المعاصر)، منبر الشرق، العدد 30، من ذي القعدة سنة 1412 هـ – يونيو سنة 1992م.
[39] ”السعوديون والحل الإسلامي”، محمد جلال كشك، ص 90، 91، بتصرف يسير، المطبعة الفنية، بالقاهرة، ط 4 – 1404 هـ – 1984م.
[40] ”صراع الحضارات أم حوار الثقافات”، ص 553، تحرير دكتور فخري لبيب، منظمة تضامن الشعوب الإفريقية الأسيوية، المنيل، القاهرة، مطبوعات الأهرام، سنة 1997 م.
[41] نفسه، ص 232.
[42] ”فن فلسفة التاريخ”، الدكتور أحمد صبحي، ص 90، مؤسسة الثقافة الجامعية، إسكندرية، ط 3، سنة 1990م.
[43] ”الله في الفلسفة الحديثة”، تأليف جمعت كولنيز، ص 374، مؤسسة فرانكلين، 367، ومن أوصاف فلسفة (نيتشه) المستقاة من هذا المرجع: ص 361، ومن قلم فردريس نيتشه (1844 – 1900) جاءت دفعة قوية نحو استحسان الإلحاد بوصفه أنبل عقيدة إنسانية ص 363، ويحب نيتشه أن يغرينا باعتناق الإلحاد بدافع من الأمانة والشجاعة على مواجهة حقيقة الوجود، وأن نرى باعتناق الإلحاد بدافع من الأمانة والشجاعة على مواجهة حقيقة الوجود، وأن نرى النتائج القاسية – وإن يكن لا محيد عنها – لضروب التقدم الصحية جميعًا في الحضارة الغربية.
[44] الحصاد الفلسفي للقرن العشرين، ص 51، مرجع سابق، للدكتورة عطيات أبو السعود، وتقول (ص 233): “ما أحوجنا نحن – العرب – إلى أن نكون لدينا جسارة نيتشه وشجاعته في الهدم والتدمير حتى نستعيد القدرة على البناء والإبداع من جديد، ما أحوجنا اليوم إلى نيتشه (عرب) يحطم الأوثان، ويصرخ داعيًا إلى حضارة جديدة”.
[45] مقال بعنوان (نواة الأخبار المزعومة، ثقافة الحداثة التقنية ومشهد خطف سينمائي بائد)، بقلم وضَّاح شرارة، جريدة الحياة اللندنية، بتاريخ 31/ 3/ 2003م، ص 41.
[46] ”المرايا المقعرة”، ص 98، مرجع سابق.
المصدر : almenasa