عبد الجواد خفاجى
يُسَمَّيه النَّاسُ " حَمْدان الهَيْمان " , وكانوا يُردَّدون قصَّتَه وهم يروْنَهُ مربُوطاً إلى جِذع نخلةٍ فى الخَلاء.
وقصةُ حمْدانَ عجيبةٌ , ومثيرة , وبدايتها منِذ أعوامٍ عشرة , عندما تُوفىَّ والد حمدان , وأصبح حمدان وارثاً لكرْمٍ كبيرٍ من أشجار النخيل.
وكان أهالى القريةِ ينتظرونَ مَوْسِم البلح بشوقٍ غزيرٍ ؛ ليأكلوا من بَلح حمدان . هكذا اُشْتُهِرَ حمدان فى القَريةِ , والقرى المجاورة , كصَاحبِ أحْلَى وأطعَم بلح . والفضلُ يعودُ لجَدَّه الذى يُقال إنه أحضر شتلات هذا النخل الكثير من الواحات , حيث ينتشرُ هناك نوعٌ من النخيل يطرح فى فترةٍ مبكرةٍ من عمره بلحاً أطرى , وأكثر حلاوة من غيره , وله طعمٌ مميزٌ , ولذيذٌ , ولونٌ عَسَلِىٌّ لامعٌ.
كان حمدان ما أن يجمع بلحَ نخلِه حتى يُفرَّشه على سَطح منزله تحت أشعةُ الشمسِ والهواءِ الطلقِ ؛ حتى لايتخمرَّ , ويفسدَ طعمُه , وكان كلَّ يومٍ يُعَبَّئُ قُفَّتينِ , ويَجْلِسُ أمامَ منزله , واضعًا أمامه الميزان , ومِن ثَمَّ كان الأهالى يْبتَاعون منه ما يريدون. وحمدانُ الذى يَعرفُ مدَى رغبةِ الأهالى فى تناولِ بلحِه كان يرفعُ سعرَه عاماً بعد عام , حتى أضْحَى سِعْره مرتفعًا , ولم يَعُد يَقِْدرُ على شِرائه الفقراءُ من الناسِ , بينما الأغنياءُ وحدُهم كانوا يشترون بلحَ حمدان , ويقدمونَه لضيوفِهم على موائدِ الطعامِ , وفى الحفلاتِ والمناسباتِ . ولقد أصابَ حمدانُ من بيع بلحه المالَ الكثير , وأصبح من الأثرياء فقد شاهده الناس يرتدى ثياباً فاخرة , ويركب بغلةً عفيَّة , بعدما كان لا يركب غيرَ حمارةٍ هزيلةٍ . كما شاهد الناس زوجَه ترتدى الحرير المزيَّن بالعقيق والياقوت , وتتحلى بالذهب والفضة , وعقود اللؤلؤ.
الجديد فى أمر حمدان أنه امتنع عن مجالسة الفقراء من الناس , وقال قولته المشهورةَ : " الفقراء خائبون ، فاشلون ، أغبياء ؛ لأنهم فشلوا فى القضاء على
فقرهم " ومن ثَمَّ امتنع عن مجالستهم , وقال : " أنا لا أجالس الأغبياء " والجديد ـ
أيضاً ـ فى أمر حمدان أنه جدَّد بيته , وبنى له طابقاً ثانياً , ودهنه من الخارج باللون الأبيض , وشاهد الناسُ بيتَ حمدان الجديدَ , ذا اللون الأبيض والبابَ البنىَّ الكبير , كما لاحظوا أن هذا الباب كان مغلقاً بصفةٍ دائمة , وكان يقف أمامه عبدٌ زنجىٌّ ضخمٌ
مخيف , ينْهَرُ المارةَ عن الاقتراب من البيت , ويزجُرُ كل من يسأل عن حمدان من الفقراء.
هذا العام قرر حمدان بعد التشاور مع زوجِه ألاَّ يبيع محصول البلح لا للفقراء ولا للأغنياء , وعلَّقَ على بابِ بيتهِ لافتةً كبيرةً كَتَبَ عليها : " لا يوجد عندنا بلح هذا العام ".
تعجب الناس من فعل حمدان , وراحوا يتساءلون :ـ تُرى ماذا سيفعل حمدان بالبلح , ولماذا امتنع عن بيعه ؟
بعض السذَّج قالوا : إن حمدان سيحمل المحصول إلى بلاد بعيدة تدفع له أكثر مما ندفع له .. وبعضهم فسَّر الأمر تفسيراً صحيحًا , عندما قالوا : حمدان بعدما أصيبَ بالثراء أصبحَ أكثرَ حبًا للمال , وأكثر حرصاً على جَمْعِهِ , وأنه قرر أن يحرمنا هذا العام من البلح ليضاعف سعره فى العام القادم.
وبالفعل كان هذا هو ما فى نيَّة حمدان , فقد اتفق مع زوجه على تخزين محصول هذا العام , وحرمان الناس من البلح حتى يزدادوا تشوُّقاً إليه , وفى العام القادم سيضاعف سعره , ليبيع المحصولين معاً , وبذلك يضمن تضاعف ثروته , وقال : "أنا حُرٌّ فى بلحى , أبيعه وقتما أريد , بالسعر الذى أريد " .
وهكذا ترك حمدان بلحه على سطح منزله أكواماً أكواماً , وكان كل أسبوع يضطر إلى تقليب أكوام البلح ؛ حتى يصبح عاليُها سافلَها.
واستمر على هذه الحال فترة طويلة لا يقابل أحداً من الفقراء , ولا يبيع البلح للفقير أو الغنىَّ , ولا يجيب على أسئلة أحد يسأله عن محصول البلح هذا العام.
كان يقول لمن يسأله : " دعونى وشأنى .. أنا حُرٌّ فى حياتى . هذه ثروتى , وليس لأحدٍ أن يسألنى عنها "
وأحياناً كان يلتزم الصمت , وينظر إلى سائله نظرة غضبٍ , وامتعاض , حتى كفَّ الناس عن سؤاله , ولم يعد أحد يهتم به إنْ جاءَ أوراح , وإنْ كان البعضُ قد كَرِه سيرة حمدان الذى تكبرَّ عليهم , وغيرَّت أخلاقَه الأموال , وأصبح جشعًا لا يقيم وزنًا إلا للمال .
ولكن تأتى الرياح بما لا يشتهى حمدان , فقد فوجئ الناس فى القرية برياح شديدة تهبُّ , والسماء تُظلم فجأة , وغيوم كثيفة تحوَّم فى سماء القرية .. هنالك أدرك الناس أن السماء ستمطر , وهنالك بدأ حمدان يقلق على بلحه , ورفع يديه إلى السماء , ودعا الله ألا تمطر .
فى الوقتِ ذاته كان أهالى القريةِ جميعًا يرفعون أياديهم إلى السماء طالبين من الله المطر ؛ حتى يتمكنوا من زراعة أراضيهم التى تشققت من قلة المياه ؛ فالمطر كان شحيحًا فى العامين الماضيين , ولم يتمكنِ الأهالى من زراعة أراضيم , ورعى مواشيهم .
وشاء الله سبحانه وتعالى أن يستجيب لمطلب الأهالى الفقراء الطيبين , وأمطرت السماء مطراً غزيراً كان يشتد يومًا بعد يوم , ويقال إنه استمر ثلاثة أسابيع متتالية , كان الناس فيها منهمكون فى بذر البذور , ورمى الحبوب , وتسريب المياه , حتى أنهم تمكنوا من زراعة أرضيهم , وانتظروا من الله الإنبات .
فى تلك الأثناء كان حمدان ينظر إلى زوجه بين الفينة والفينة , دونما كلام , وقد استبد به القلق , يصعد إلى أعلى منزله , ويلقى بنظراته على أكداس البلح , ويعض شفتيه فى ندم , وقال لزوجه أخيراً : هذا ما لم نحسبْ حسابه .. وكانت زوجه تحاول أن تهدَّئ من روعه , وتقول : " ستقلع السماء , وسيغيض الماء , ولكن علينا الآن أن نفتح المزاريب فى السور حول البلح ؛ حتى تتسرب المياه إلى أسفل " . ولكن يبدو أن المزاريب لم تؤتِ نتيجة ما أمام غزارة المطر , وتكدس البلح , فقد لاحظ حمدان أن رائحة غريبة بدأت تفوح على سطح , خاصةً أن الغيوم الكثيفة كانت تحجب أشعة الشمس , مما ساعد ذلك على تعفٌّن البلح . هنالك أدرك حمدان أن بلحه فاسدٌ لا محالة ؛ وهنالك بدأت دموعه تسيل , وبدأت زوجه الصراخ .
كان حمدان يصعد كل صباح إلى السطح ليمارسَ البكاء , فيما كانت زوجه تفتح البابَ وتمارس الصراخ , فى الوقت الذى كان الأهالى منهمكون فيه , فى زراعة أراضيهم , وشق الحياض حول القرية .
مرَّتْ أيام على حمدان و زوجه , وهما على ذى الحال , لم يكفا عن الصراخ والبكاء , ولم يسمع أحدٌ بمصيبتهما , حتى كفَّا أخيراً عن فتح الباب , والصراخ . شاهد الناسُ مؤخراً حمدانَ يمشى فى الأسواق , حافىَّ القدمينِ , مهلهل الثيابَ , وقد طال شعر رأسه ولحيته , وكان ـ فيما بدا للناس ـ متسخ الثياب والبدن , وكانت عيناه غائرتان , وتبرقانِ وسط سواد شعره المنفوش , غير أنه كان يهذى , وهو يتحدث إلى نفسه بكلام غير مفهوم , حتى أدرك الناسُ أن حمدان أصيب بالجنون .
ذات مرَّةٍ رأى الناسُ حمدان على هيئته تلك يهيم تحت نخيله , رافعاً رأسه إلى أعلى , فارداً ذراعيه كطائر خرافىًّ كبير وكان يهذى قائلاً : أنا حمدان الهيمان .. أعزّ النَّاس , وأغنى النَّاس .. بلحى كثير , ومالى كثير , ونخلى كثير , وأنا حمدان الهيمان .. "
هكذا رآه الناسُ يهذى ويجرى تحت النخيل , ثم رأوه يصعد جزع إحدى النخيل إلى أعلى ، ثم يلقى بنفسه إلى الأرض , لكن أحداً من الأهالى لم يسأله , ولم يكن يسأل أحداً , حتى أتت زوجه , حاولت أن تمنعه عن صعود النخل , ورمىَّ نفسه من فوقها .. حاولت ولكن ـ فيما بدت ـ أنها لم تستطع فاضطرتْ أخيراً إلى رَبْطِه فى جذع نخلة.
وهكذا اعتاد الناسُ رؤية حمدان مربوطاً فى جذعِ نخلةٍ كل صباح. ويقال إن نخيل حمدان لم يعد يطرح بلحاً منذ ذلك الحين .