ميدل ايست أونلاين
بقلم: أحمد طوسون
يعيش كثيرون وبداخلهم أسوار عالية تحجب عنهم نور الشمس ودفئها، وهواء البحر ونسيمه وتحرمهم من الاستمتاع بألوان قوس قزح المبهجة والتحليق عاليا كطائر وملامسة نتف القطن الندية ناصعة البياض.
كان بمقدورهم الإمساك بسعادات صغيرة لولا تلك الأسوار التي كبرت معهم بينما كان من الممكن التخلص منها لو اكتشفناها في الصغر وقمنا بمواجهتها وعلاجها.
تلك الأسوار تلمستها المبدعة أميمة عز الدين في كتابها "الأسوار البيضاء" الموجه للأطفال ووضعت يديها على بعض هذه الأسوار التي تمثلت في عدد من المخاوف التي تطارد الأطفال، "كالخوف من الكلب" عند خالد، "والخوف من الظلام" عند سارة، "والخجل وعدم التكيف" عند كريم، وأسمتها بالأسوار البيضاء لأنها أسوار غير مرئية من ناحية، وفي استخدام دلالي من ناحية أخرى يرتبط بتوظيف صفحات الكتاب فنيا داخل النص وجعلها أحد هذه الأسوار التي تعيق أبطال حكاياتها للتخلص من مخاوفهم والانطلاق إلى الحياة بشجاعة ودون مخاوف.
"الصفحات تبدو كأسوار عالية ناعمة من البلاط الأبيض (هكذا قالت سارة التي ضحكت) وسرعان ما انتقلت عدوى الضحك إليهم جميعا وهم يتسلقون الأسوار البيضاء في إصرار وثقة".
كما تم توظيف الغلاف الخلفي في وصف العلاج الناجع للتخلص من تلك المخاوف بمقولة تتصدر الغلاف الخلفي: "أمممم... الخوف....!!!! ذلك الوحش الخيالي الأسطوري وحدها الشجاعة الحقيقية تستطيع أن تهزمه وتقضي عليه" التي تبدو كمقولة كبرى للنص تحاول أن ترسخ في ذهن الطفل ما سيتولد عن قراءة الكتاب من قيم ومعانٍ.
فكلمة "الشجاعة" يسهل ترديدها طيلة الوقت، لكن العمل بها صعب على الكبار قبل الصغار إذا لم يتم إعداد نفسية الطفل لمواجهة مخاوفه، لذا كان حرص الكاتبة منذ البداية على أن تقرر بسلاسة من خلال سياق السرد القصصي وإمكاناته الفنية التي تتكفل باستجابة جمالية لدى الطفل أن تلك المخاوف التي ربما كان يشعر بها الطفل المتلقي مخاوف طبيعية يشاركونه فيها الكثيرون ومعهم أبطال الحكاية، حتى وإن اختلفت مظاهر المخاوف وتعددت كالخوف من الحيوان، (الكلب) عند خالد، أو الخوف من الظلام (سارة)، أو الخجل وصعوبة التكيف مع الغرباء (كريم).
وقد يعمق هذه المخاوف عدم الاعتراف بها كما في حالة خالد الذي يخجل من الاعتراف بأنه يخاف من الكلب.. " يتعمد إخفاء تلك الحقيقة عن نفسه وعن الآخرين..! ولا يريد أن يبدو جبانا أمام نفسه والآخرين" هكذا وصف الكاتب حالة خالد، فالاعتراف بالمخاوف أولى خطوات العلاج والمواجهة، وتحرص الكاتبة أن تعدد الأمثلة داخل الحكاية (الحكايات داخل الحكاية الأصلية) ليصل إلى ذهن المتلقي من الأطفال أنه يشارك الكثيرين تلك المخاوف فلا يخجل كحالة خالد من الاعتراف بمخاوفه والتصريح بها ليبدأ في مواجهتها.
ولترسيخ هذا النهج حرصت الكاتبة أن تمرر إلى ذهن المتلقي أن الكبار أيضا يعانون من المخاوف (حتى ولو كان الكاتب الذي يكتب لهم الحكايات بما فيها من نصح وإرشاد وربما كان هنا يرمز بصورة أو بأخرى إلى المعلم ولكن في نمطه غير التقليدي الذي لا يرتكز على التلقين المباشر وإنما يعتمد على مشاركة الطفل في البحث عن الحلول).
فالكاتب داخل النص يتململ من كتابة حكاية ويتركها قبل أن تكتمل إلى حكاية أخرى لا تعجبه فينتقل إلى حكاية جديدة وتطل المخاوف برأسها حين يعجز الكاتب عن وضع نهايات لحكاياته وينتظر أبطال حكاياته ليزورونه في أحلامه ليساعدونه في وضع النهايات للحكايات التي لم تكتمل.
فرمز الكبار في الكتاب لا يتعالون على الأطفال ويتعاملون معهم بمنطق الناصح الأمين الذي يعرف كل شيء وإنما يتعاملون وفق نهج تربوي قائم على فكرة احتياجنا جميعا إلى المشاركة والتعاون لإنجاح العمل.. "وذهب للنوم وهو يحلم بهم ويتمنى لو زاروه في أحلامه وتحدثوا إليه حتى يستطيع إنهاء ما كتبه".
كما كان علاج أبطال حكاياته في خروجهم من عزلة الصفحات البيضاء ومشاركتهم تجارب الآخرين واكتشافهم أن مخاوفهم ربما تكون أقل خطرا من مخاوف الآخرين ويمكنهم مواجهتها والتغلب عليها.. "هبت نسمات عابرة ألقت بالأوراق على الأرض اختلطت بعضها ببعض".
وحين تبادل أبطال الحكايات أماكنهم وصفحاتهم اكتشف خالد: "أن الجري من الكلب يجعله يطارده وأنه من الممكن أن يصادقه ويحضر له بعض عظام الدجاج المتبقي من الغداء وهو أهون من الخوف من الظلام الذي تخشى سارة منه"، واكتشفت سارة حين خرجت من صفحتها وتركت أخاها وأسرتها أنها برغم إضاءة المكان وتبدد الظلمة شعرت بوحشة أكبر.. "المكان موحش بدون أصدقاء وأنه لا يقل ظلاما عن الذي تخشاه".
أما كريم الذي رفض محاولات سمير لمصادقته والاقتراب منه، حين صار وحيدا اكتشف أن الخوف الحقيقي عندما نعيش بلا أصدقاء.. "أما كريم فلقد ذهب يبحث بنفسه عن سمير كي يأخذ هديته".
الصداقة.. أنها السر الكبير الذي احتفظت به أميمة عز الدين لأبطال حكايتها لتنتشلهم من مخاوفهم وتعينهم على مواجهتها بشجاعة.. "كانت الصفحات شاهقة البياض وأسوارها عالية حاول أن يتسلقها بشجاعة مرددا بصوت مرتفع: الأصدقاء... الأصدقاء".
"العجيب أن خالد وكريم وسارة اعتبروه نداءً عليهم ففرحوا كثيرا به وفعلوا مثله...."
إن قيمة الصداقة التي تساعدنا على مواجهة مخاوفنا والتعاون على حلها قيمة أساسية داخل النص لا تقل عن حرص الكاتبة على التأكيد أن كثيرا من المخاوف لا أصل لها إلا من صنع مخيلتنا كما هو الحال مع سارة حين أفزعها انقطاع النور فأخذت تصرخ في هيستيريا وتوقظ كل من في البيت حتى يكتشف القارئ الصغير أن سارة وقعت ضحية مخاوفها وأن الكهرباء لم تنقطع وإنما مخاوف سارة هي التي صورت لها ذلك، "ذهب أحمد ليرى أخته سارة التي سكت حسها فجأة والخجل يعتريها من فوقها لتحتها وأخذت تعتذر بشدة عما بدر منها وقد نبهتها أمها إلى عصابة العين السوداء التي نزعتها برفق".
رسوم الكتاب للفنانة هيام صفوت التي برعت في تجسيد النص من خلال رسوم بسيطة دالة ومعبرة تتداخل أحيانا مع النص بتقنية السيناريو المرسوم لتساعد الطفل في التفاعل مع الحدث.
لكن أهم ما يستوقفك في كتاب "الأسوار البيضاء" للكاتبة أميمة عز الدين (الإصدار الأول للكاتبة الموجه للأطفال والصادر عن دار الكلمة للنشر والتوزيع 2011) اللعبة الفنية التي جعلت من كاتب القصة أحد شخوصها لكنه في الوقت ذاته ليس بديلا عن السارد أو الراوي العليم الذي يروي حكايات الكتاب ويروي عن الكاتب نفسه وقلقه أثناء الكتابة، كما فعل في نهاية الحكاية الأولى.. "تململ الكاتب في جلسته وهو يتأمل ما كتبه زفر بقوة وهو يضع القلم جانبا بعد أن شعر أنه لا يطاوعه وقرر أن يكتب حكاية جديدة"، أو في نهاية الحكاية الثانية.."، لم تعجبه حكاية سارة وقرر أن يجرب قلمه في حكاية أخرى.."، أو في نهاية الحكاية الثالثة.. "كان الكاتب مشغولا بأبطاله الصغار الذين يحبهم كثيرا ويظل ليالي طويلة يكتب لهم القصص الرائعة حتى شعر بالتعب والإرهاق الشديد وتناثرت الحكايات على مكتبه وذهب للنوم وهو يحلم بهم ويتمنى لو زاروه في أحلامه وتحدثوا إليه حتى يستطيع إنهاء ما كتبه...".
ورغم وعينا كقراء بأننا لسنا بصدد لعبة كسر الإيهام التي تستخدم كثيرا وبخاصة في المسرح أو لعبة الكتابة عن الكتابة التي تستخدم في أدب الكبار إلا أنه سيظل لهما صداهما داخل وعي الطفل في تنبيهه إلى أننا أمام قصة متخيلة من صنع كاتب يتجسد بوضوح داخل الحكايات ويوقف بإرادته تدفق ألحكي لينتقل من حكاية لأخرى دون أن يضع نهاية لحكايته التي كتبها قبل أن ينتقل لحكاية أخرى.
ذلك الاستخدام يبدو هاما في الحفاظ على التشويق لدى الطفل لمعرفة الحكاية التي لم تكتمل.
لكن تتبدى أهمية أكبر - في ظني - في توظيف اللعبة الفنية للانتقال ما بين هو واقعي في الحكايات إلى ماهو عجائبي بشكل سلس غير صادم لوعي الطفل ولا تجعله يتساءل عن النهاية العجائبية للقصة رغم واقعية الحكايات الثلاثة التي يرويها السارد.
لأن اللعبة الفنية جعلتنا أمام لعبة ثلاثية الأبعاد (إيهام/ واقعية/ إيهام).. ثلاثة محاور رئيسية أولها حكايات ثلاثة يكتبها كاتب هو أحد أبطال القصة " الإيهام" (فيكتشف الطفل أننا أمام قصة متخيلة من صنع كاتب حاضر بالنص)، والثانية أننا أمام حكايات واقعية يرويها الكاتب داخل القصة عن أطفال يستشعر القارئ الطفل أن الكاتب يكتب عنه هو أو عن أحد أصدقائه وعما يشعر به من مخاوف، لكن الكاتب لا يضع نهاية لتلك الحكايات "الواقعي" (تلك النهايات التي ينتظرها الطفل وتمثل إجابات عن أسئلة ستتبادر في ذهنه عن الحل الذي سيقدمه الكاتب لتلك المخاوف التي يتشارك فيها الطفل المتلقي مع أطفال الحكايات)، ثم أخيرا أمام نهاية عجائبية تناسب خيال الطفل يصنعها الأطفال أبطال الحكايات أنفسهم في غيبة الكاتب الذي كتب الحكايات وعجز عن أن يضع لها النهايات وانتظر أن يأتيه أبطال الحكايات في الحلم ليساعدوه في وضع نهاية للقصص التي كتبها، لكن أبطال الحكايات لا يملكون تلك الرفاهية التي يملكها الكاتب فكان عليهم أن يواجهوا مشاكلهم بأنفسهم دون أن ينتظروا حلا سحريا من الكاتب ويخرجوا من الصفحات البيضاء لمواجهة ما يظنونه من أخطار ومخاوف تتهددهم.
وتبدو القيمة الهامة التي تتعمق لدى الطفل المتلقي بأنه قادر وحده على التخلص من مخاوفه كما فعل أبطال الحكايات.