صبحي سليمان
عاش فلاح فقير مع ابنته الصغيرة "إيمان" يزرع قطعة أرض صغيرة على تل مُرتفع في أطراف أحد الأودية، وكانت إيمان كُل صباح تحمل دلواً كبيراً وتتجه به نحو البقرة العجوز كي تحلب لبنها الصافي اللذيذ، الذي يعيشون عليه هو وما تُنتجه الأرض ... وكانت إيمان كُلما تعبت من شدة العمل في الحقل تجلس تحت شجرة عجوز أعلى التلة وهي تنظر إلى الطرف الآخر من الوادي، فترى الكثير من التلال البعيدة ... وقد بُنيت عليها بيوت كبيرة لها نوافذ من ذهب تبرق بشدة، وكأنها قصور مُشيدة ... وكم كانت إيمان تتعجب وتقول : ـ
ـ سُبحان الله ... من يا تُرى يعيش وسط هذا الجمال ... ؟! لابد أنه أغنى أغنياء الأرض حتى يجعل نوافذه كُلها من الذهب ... ومن المُؤكد أن أصحاب هذا البيت الذهبي البعيد لا يستيقظون مُبكراً مثلنا للقيام بأعمال المزرعة، ولابد أن لديهم الكثير من العُمال والخدم الذين يُنظفون الأرضيات ويلمعون النوافذ، ولا شك أن كُل وجبة من وجباتهم مأدبة كبيرة يُرص عليها أشهى أنواع الطعام ... وليست مُجرد وجبة بسيطة كالتي أتناولها أنا وأبى ... وبالطبع يقضي الناس هُناك أوقاتهم في فرح ومرح، ولا يتعبون في حرث الأرض وزراعتها مثلما نفعل نحن ...
وذات يوم لاحظ والد الصغيرة إيمان ما بها من حُزن؛ فجلس بجوارها وهو يقول : ـ
ـ ماذا بك يا ابنتي الحبيبة ... ؟! أراكِ حزينة دائماً؛ وتنظرين كُل يوم لهذا التل البعيد ...
تسللت دمعة حائرة منها وهي تقول : ـ أتمنى يا أبى أن نكون أغنياء مثل أصحاب تلك القصور البعيدة ... فلماذا يمتلك بعض الناس الكثير؛ ونمتلك نحن القليل ... ؟!
قال الأب وهو يضم إيمان إلى صدره : ـ ما دًمتٍ لي وأنا لكِ يا ابنتي الحبيبة فنحن أغنياء ..تنهدت إيمان بحزن وهي تقول : ـ هل سبق لك يا أبى أن ذهبت يوماً إلى الناحية الأخرى من هذا الوادي ... ؟!
قال الأب وهو يُربت على كتفها : ـ لا يا ابنتي الغالية ... أنا لا أريد ذلك ... إنني سعيد هُنا.
ترجت إيمان والدها قائلة : ـ ولكنني أُريد رؤية القصر الذي هُناك بنوافذه الذهبية ... أريد أن أعرف من الذين يعيشون هُناك؛ وكيف يعيشون؛ أرجوك يا أبى ...
فكر الأب عدة لحظات ثُم قال : لا مانع ... ولكن عليكِ أن تعديني بأن تقنعي بما أنتِ فيه ...ابتسمت إيمان وهي تحتضن والدها بسعادة : ـ بالطبع يا أبي سأفعل ذلك ...
في صباح اليوم التالي انطلق الأب مع صغيرته نحو الجانب الآخر للوادي، وطوال الطريق ظلت أعينهما مُعلقة بالناحية الأخرى حيث القصور الضخمة والنوافذ الذهبية؛ وفى الظهيرة وصلا لمجموعة من المنازل الطينية المُتلاصقة؛ والتي تشترك جميعها بأن سقفها من القش، وجدرانها من الطين مثل منزلهما تماماً، وكانت الحقول المحيطة بالمنازل مثل مزرعتهما تماماً ...
هُنا رأت إيمان فتاة صغيرة في مثل سنها تسحب بقرة خارجة بها من الحظيرة، فحيتها إيمان ثُم قالت لها : السلام عليكم؛ إننا نبحث عن القصر ذو النوافذ الذهبية؛ هل يبعد كثيراً من هنا؟!
نظرت الفتاة نحوهما بدهشة وقالت : قصر قريب من هُنا ... عن أي شيء تتحدثين ... ؟!
قالت إيمان مُؤكدة : نتحدث عن القصر ذو النوافذ الذهبية الموجود بالقُرب من هُنا ... أعرف أنه قريب من هُنا فنحن نسكن في الطرف الآخر من الوادي وكُل صباح أرى نوافذه الذهبية من أمام بيتنا ...
وضعت الفتاة يدها على فمها من شدة الدهشة وقالت : ـ هل أتيتم من هُناك ... ؟! إنني كثيراً ما تساءلت عن حياتك هُناك، وكل ظهيرة أقف هُنا وأنظر إلى نوافذ بيتكم الذهبية ...
ضحكت إيمان وهي تقول : ـ ليس عندنا نوافذ ذهبية ...
ردت الفتاة : ـ بلى ... لديكم ... انظري ... !!
وأشارت الفتاة إلى الجانب الآخر من الوادي نحو منزل إيمان، فاستدارت هي ووالدها فوجدت نوافذ بيتهما الصغير تبدوا كأنها من الذهب تحت أشعة شمس الظهيرة التي تنعكس عليها.
فتعجبت إيمان وقالت : سُبحان الله ... أشعة الشمس هي التي تجعلني أرى كُل هذا الجمال ... وأتخيل كل هذه الأشياء الجميلة ...
هُنا ضحكت الفتاة الريفية وهي تقول : أتمنى أن تتناولا معي الغداء؛ فغداءنا عبارة عن وجبة بسيطة ولكننا نسعد بها ..
ضغطت إيمان على يد والدها ليعلم أنها سعيدة بما عرفت وقالت للفتاة : شُكراً جزيلاً لكِ ...
ورجعت إيمان مع والدها إلي بيتها الصغير الذي أحبته كثيراً؛ ومن يومها تعلمت أن تقنع وترضي بما هي فيه ...