البعكوكة الأسوانجيّةمحمد يوسف عدس
لكي يهزأ برئيس الجمهورية، ويسخر من جماعة الإخوان المسلمين، ومن مرشدها العام، ويشوّه صورة الجميع، وينسب إليهم جرائم لم يرتكبوها -دون أن يقع هو تحت طائلة القانون- لجأ علاء االإسواني إلى صياغة آرائه فى شكل قصة قصيرة بعنوان "فى الملجأ السِّرِّيّ".. من ناحية القيمة الفنية تعتبر هذه القصة عملًا هابطًا، لا يمكن أن يرقى إلى مستوى الفن الأدبيّ.. فتلميذ ثانوي مجتهد يملك ناصية التعبير اللغوي يستطيع أن يكتب قصةً أفضل منها.. لذلك استحقّت عنوان "البعكوكة الأسوانجية" نسبة إلى اسم صاحبها لا إلى مدينة أسوان الجميلة، التى استمعت فيها بعبق التاريخ وكرم أهلها وأريحيّتهم، وأمانتهم الملفتة للنظر، وهى مسقط رأس عباس محمود العقاد أحد عمالقة الفكر والأدب فى العالم العربي..
أي ناقد أدبي سوف يكتشف أن هذا العمل يفتقر تمامًا للعناصر الدرامية اللازمة لبناء قصة قصيرة ذات قيمة؛ فليس فيها مشكلة ولا عقدة ولا حدثًا إنسانيًا مثيرًا للدهشة أو الاستغراب، علاوة على أنك تستطيع أن تستنتج هدفها من أول سطر، فلست بحاجة للانتظار إلى لحظة التنوير التى عادة ما تأتى فى نهاية القصّة لتلقى الضوء على المشكلة وتفض لك أسرارها.. وأسلوب الكتابة -بين السرد المملّ والحوار المفتعل- لايرسم صورًا أدبية ولا ينتمى فى شيء للإبداع الفنّي..
تبدأ القصة باجتماع في فيلّلا مرشد الإخوان، حضره الرئيس مرسي والمهندس خيرت الشاطر مبكرًا قبل أذان الفجر.. كانا متوضئين فأمّهم المرشد فى الصلاة، وجلسوا بعدها يرددون التسابيح والأدعية، ثم دعاهما إلى مائدة الإفطار... حتى نصل إلى بداية الحوار إذْ يسأل المرشد: "أريد أن أستمع الى تقييمكما للموقف. وهنا يدير الأسواني حوارًا طويلًا أشبه ما يكون بالاستجوابات التى تدور عادة فى أقسام الشرطة بين ضابط متعجرف واثنين من مساعديه لا يملكان فكرًا ولا إرادة مستقلّة إلا السمع والطاعة.. وستدرك من هذا الحوار أن الأسواني يريد أن يثبت الآتى:
أولًا- أن قيادة الإخوان والإدارة الأمريكية على اتفاق كامل فيما يتعلق بمجريات السياسة الداخلية.. والقرارات اليومية..
ثانيًا- أن اهتمام القيادة بشباب الإخوان يقتصر على استخدامهم فى ضرب خصومهم السياسيين.. يقول الشاطر: "إنهم وحوش الواحد منهم يضرب عشرين عيّل من العلمانيين.."
ثالثًا- أن المرشد العام هو الذى يرسم السياسات والخطط أما الرئيس مرسى فليس أكثر من منفذ مطيع..
رابعًا- يلخِّص الأسواني هدف الإخوان فى كلام أجراه على لسان المرشد هكذا:
"لقد مكّنّا الله من حكم مصر أخيرًا.. و لن نسمح للعلمانيين كارهي الدين بتولي السلطة أبدًا.. مصر الآن تدخل عصر الخلافة المباركة...!!"
خامسًا- ربما تتصوّر أن الإخوان -بناءً على هذا- سيفرضون دكتاتورية ويقذفون بصندوق الانتخابات بعيدًا حتى لا يصعد عليه الآخرون.. لا.. فالأسواني قد اكتشف بعبقريته سرًّا جديدًا وهو أن الإخوان سيلتزمون بحكم صندوق الانتخابات.. ولكن هذا فى نظره لا يحقق ديمقراطية مادام الصندوق سيأتى بالإخوان دائمًا.. لماذا لأن الشعب متديّن.. ولذلك أطلق على لسان المرشد العام هذه العبارة: "إحنا حنكسب أى انتخابات وأى استفتاء مهما عملوا.. الناس في مصر عاوزة الدين.. والدين معنا مهما كان موضوع الاستفتاء...!".
هذه الرؤية الأسوانجية تفسر لنا بوضوح كامل موقف مبدئي للأسوانى من الشعب المصري ومن الإسلام معًا؛ فقد صرّح من قبل: بأنه لا بد من منع 40% من الشعب من التصويت بسبب الأمية والفقر، وأن الإسلام لا يحل أيّ مشكلة، بل هو كارثة تاريخية.. ونحن نعرف افتراءاته على عثمان رضي الله عنه ونعرف أكاذيبه على الشريعة وعلى التاريخ الإسلامي.. والمهم أنه قد أصبح واضحًا لنا أن الأسواني لا يؤمن بالديمقراطية كما يدّعى، ولا يؤمن بجدارة الشعب المصري، ولا يؤمن بقيمة الشريعة للمجتمع المسلم، ولا للعالم..
وفى نقْلَةٍ مفاجئة أخرى نرى المرشد غاضبًا من مرسى بسبب تهاون وزارة الداخلية فى حرق مقرات الجماعة.. ومن ثم شرع يتحدث عن خططه الخاصة لحماية هذه المقرات...
ثم ينتقل إلى حدثٍ جديد بدون تمهيد درامى؛ إذ يلاحظ المرشد -فجأة- بقعة دم على كف الرئيس اليُمْنَى فيسأله: "أنت انجرحت يا مرسي..؟" لكن مرسى لا يتذكر أنه قد جرح... وبدأ القلق ينتابه لفشل كل محاولاته فى إزالة بقعة الدم.. ويفشل الطبيب المتخصص نفسه فى معالجتها... والمهم فى الحكاية كلها أن الأسوانى يريد أن يؤكد لقرائه أن قلق الرئيس الحقيقي يكمن فى خوفه أن يرى الآخرون هذه البقعة الغريبة فى كفه اليمنى فيحاول إخفاءها عن أعينهم .. ويخاف من انتشار الخبر، فيتخذه خصومه فرصة للهجوم عليه وتجريحه..
كل هذا الّلفِّ والدَّوَران من الأسواني لكي يثبِّتَ صورة فى ذهن القارئ أن الرئيس مرسى هو المسئول عن دماء القتلى والضحايا الذين سقطوا أمام قصر الاتحادية، وفى ميدان التحرير وكل ميادين مصر، ليبرِّئَ المعارضة والبلطجية الذين جاءوا فى ركابها، مسلحين -بنية مسبّقة- للقتل والحرق وإشاعة الفوضى.. وهكذا يتفنَّنُ الأسواني فى تعصيب عيون قرائه حتى لا يروا الحقيقة التى تنطق: بأن الضحايا والشهداء كانوا من الإخوان المسلمين، وأن الحرق والتدمير على أوسع نطاق كان من نصيب مقراتهم فى كل مكان..
قصة الإسواني مسخرة دعائية، وقد تبيّن لى أنه هو نفسه فقاعة كبيرة، انطلت على جمهور غفير من الناس، بتأثير زفّة إعلامية ضخمة تقدِّمُهُ للناس باعتباره الأديب العالمي، الذى تحتفى به المؤسسات العالمية، وتترجم أعماله إلى اللغات الأجنبية وتغدق عليه الجوائز، اعترافًا بمكانته الأدبية، ودفاعه عن الديمقراطية وحقوق الإنسان.. بينما حقيقة الأسواني أنه لا يؤمن بالديمقراطية، وأنه يستخدم أعماله الأدبية لترويج دعايات سياسية وأفكار اجتماعية مفرَّغةٍ من القيم الأخلاقية.
أحب أن أُأَكد هنا أن هذه المؤسسات لم تنخدع بقيمة الأسواني فهي تعلم حقيقته، ولكنها تنفخ فيه وتروّجُ له، لتستخدمه أداةً ضد وطنه وضد الإسلام وضد الديمقراطية، التى تخشى أن تتحول بها مصر إلى قوة عالمية مؤثِّرة..
أعرف أن هذه المؤسسات تغذِّيها وتنفق عليها قوى صهيونية إمبريالية، متمرّسة باصطياد أمثال الأسواني وغسل رؤوسهم، وتصعيدهم بالشهرة، وإعدادهم لمراكز مستقبلية فى حكم بلادهم.. والكلام فى هذا يطول.. ولكننى أكتفى الآن بدليل واحد هو قصة الأسواني التى لا تتمتع بأي سمة من سمات الإبداع الفنِّي للقصة القصيرة.. ففيم إذَنْ الحفاوة بها وترجمتها إلى الألمانية.. ونشرها فى صحفهم..؟!
الجواب ببساطة أنها تنقل إليهم أبشع ما يمكن أن يوصف به الإسلام ودُعاتِه، لتخويف شعوبهم منه، وإبعاد الناس عن اعتناقه.. علاوة على أنها تنطوى على دعوة ضاغطة على السلطات الحاكمة أن تنسحب من وعودها لدعم الاقتصاد المصري، وألّا تعبأ برد الأمول المصرية المنهوبة، والمختفية فى بنوكها..
تعزيزًا لهذه الرؤية أسوق إليك هذا السيناريو: فقد عرضتُ الترجمة الألمانية لقصة الأسواني على اثنين من المثقفين الألمان.. من أقرب الأصدقاء فى أستراليا: أحدهما هو الدكتور فتحى فارس أستاذ الجامعة والأديب الذى قدّمتُ واحدة من رواياته الإنجليزية فى مقالة لى نشرت بمجلة "وجهات نظر".. (كان زعيمًا لاتحاد طلاب جامعة عين شمس فى خمسينات القرن الماضى، ثم زعيمًا لاتحاد الطلاب العرب فى ألمانيا)، وزوجته الألمانية كاتيا، عاشقة الحضارة المصرية، زارت مصر وعاشت فيها شهورًا طويلة.. كانت لنا جلسة طويلة لمناقشة قصة الأسواني.. وقد بدا على وجهيهما الاندهاش؛ فهما لم يكونا يتصوران أن تنحدر الصحافة الألمانية إلى هذا المستوى لتنشر قصة مفكّكة عديمة القيمة، خالية تمامًا من الإبداع الفني.. وتفتقر إلى الترابط الدرامي وتنطوى لغتها التعبيرية على مبالغات سوقية لا تصلح إلا للصحف الصفراء..
ثم نأتى للمفاجأة الفاضحة للكاتب وللمترجم على السواء؛ فقد لا حظ الضيفان الألمانيان ملاحظة عجيبة: أن زعيم الإخوان المسلمين وهو الشخصية الرئيسة فى القصة، وقد ورد ذكره فى 21 موقعًا منها، لم يُشرَ إليه فيها باسمه أبدًا ولا بلقبه المشهور: "المرشد العام" ولا حتى "المرشد".. وإنما بأبشع لقب ظهر فى تاريخ ألمانيا الحديثة.. لقب لم يُطلق إلا على شخص واحد، المعروف عنه أن جرَّ ألمانيا إلى حرب عالمية، دمر فيها أوروبا والعالم، وتسبب فى خراب ألمانيا نفسها قبل أن ينتحر.. وقد أصبح موضع كراهية ومقت أجيال من البشر إلى يومنا هذا.. إنه "أدولف هتلر" وكان لقبه المفرد المتميّز الذي اشتهر به دون سائر البشر هو الـ(فورَرْ) Führer.
دلالة اللقب وإلْصَاِقِه بالمرشد العام للإخوان المسلمين فى كل مرة تحدث فيها، أو وُجّه إليه الخطاب فى سائر النص، دلالة لا يمكن أن تخطئها العين، ولا أن تتغاضى عن تأثيرها الخطير فى عقول ومشاعر القُرّاء الألمان: فالكاتب هنا لا يوصّل فكرة إلى قُرَّائه فحسب، وإنما يتعمد -بوعى كامل- أن يقطّر فى وجدانهم مشاعر الكراهية والمقْت لشخصية رجلٍ ينسب الأسوانيُّ إليه فى قصته، أنه الرئيس الحقيقي لمصر، وأنه هو الذى يدير سياستها الداخلية والخارجية بعقلية "الفورَرْ هتلر"، وأنه يمثل جماعة إسلامية وفكرًا إسلاميًا، لا يقتصر خطرهما على رفض الحضارة الغربية فحسب، بل يكنّان لها المقت ويتربصان بها الشر.. وبالتالى فإن تمكينهما بالمساعدات أو مجرد التعاون معهما خطر على الغرب وعلى العالم .. وهذا بالضبط ما تروّج له إسرائيل والمؤسسات الصهيونية فى العالم، ولذلك ينزل كلام الإسواني على أسماعهم كما الموسيقى السيمفونية، لأن هذا ما يحبون أن يسمعوه، وأن يروّجوا له فى أوروبا والعالم تحت مظلّة اسمٍ مسلمٍ .. وهذا ما فعله الأسواني، كما فعله ويفعله عمرو حمزاوى والبرادعى.. وآخرون.. كلهم ينعمون بحظوة خاصة فى الأوساط الغربية.. وتُعلقُ عليهم الآمال العريضة فى هزيمة مصر وهزيمة الثورة وهزيمة الإسلام..