الدكتور رفعت سيد أحمد يكتب: غاندى والقضية الفلسطينية قراءة جديدة فى وثيقة قديمة
فى الوقت الذى يتبارى فيه بعض الحكام العرب فى تقديم مبادرات سلام وإذعان للكيان الصهيونى العنصرى، على حساب الحقوق العربية الفلسطينية، يذكرنا التاريخ برؤى ووثائق، لقادة ومفكرين غير عرب، كانوا أكثر احتراماً وتقديراً لهذه الحقوق العربية، من العرب أنفسهم، وربما هذه ليست مفاجأة، فهناك بالفعل كثيرون من قادة الفكر والسياسة انحازوا لحقوق الشعب الفلسطينى، لأنها حقوق عادلة وإنسانية ولكن المفاجأة تأتى من أن أحد أبرز رموز المقاومة العالمية كان يقف وبإنسانية فريدة مع هذه الحقوق، وكان يرفض الاحتلال الصهيونى لفلسطين ومبكراً جداً تحديداً مع بدايات إنشاء هذا الكيان العدوانى فى ثلاثينيات القرن الماضى، المفاجأة هنا هى وثيقة للزعيم الهندى الكبير غاندى، عبارة عن مقال مطول، يدلى فيه برأيه فى الاحتلال الصهيونى لفلسطين، ويرفض هذا الاحتلال ويعتبره ظلماً إنسانيا كبيراً لأنه يقتلع شعباً صاحب أرض ويزرع مكانه شعباً آخر هو هنا هذه العصابات الصهيونية، إن هذه الرؤية إذا ما استحضرناها اليوم فى أجواء التخاذل الرسمى العربى والتواطؤ الدولى تجاه الحقوق العادلة للشعب الفلسطينى، وتسابق نفر من النخبة «الاستراتيجية» العربية ناحية التطبيع وتأليههم لكامب ديفيد رغم مصائبها على أمننا القومى، تعد فى تقديرنا، وثيقة مهمة، لا تموت، وثيقة تستحق الاحتفاء والتكريم، وقبل أن نعرض لأبرز محتويات هذا المقال «الوثيقة» لغاندى يهمنا الإشارة والإشادة بالترجمة الرائعة له التى أعدها له المثقف السورى البارز د. محمود المقداد الأستاذ بجامعة دمشق.
إن غاندى فى مقالته الرائعة كان يتنبأ بمسار هذا الظلم، وخطره وأنه سيولد صراعاً لن ينتهى بين «حق عربى» أصيل و«ظلم يهودى» مجرم ومستمر، إن غاندى الذى ولد فى 2 أكتوبر 1869 ومات مقتولاً فى 25 يناير 1948 على أيدى هندوسى متعصب كان يرفض دعوات غاندى السلمية للتعايش الهندوسى الإسلامى، يعد الأب الروحى الحقيقى لاستقلال الهند عن الاحتلال البريطانى عبر المقاومة السلمية غير العنيفة والتى سماها غاندى «ساتيا جراها: Satyagraha»، وهذه الرؤية العادلة للحقوق الفلسطينية الرافضة للاحتلال الذى يرادف عند غاندى معنى الظلم تتبدى واضحة فى ثنايا مقاله التاريخى الذى نبلوره فى نقاط محددة علها تفيد فى إيقاظ نوم الهاجعين من حكام نخب الصدفة فى بلادنا العربية بوجه عام وفى فلسطين الحبيبة على نحو خاص:
إن عنوان مقال غاندى هو «نظرة غير عنفية للنزاع والعنف»
وهو منشور فى 20/11/1938 فى صحيفة «هاريجان الأسبوعية» التى كان يصدرها غاندى بثلاث لغات: الإنجليزية - الهندية - الجوجاراتية، وهذه ترجمة لأبرز ما احتواه المقال - الوثيقة:
1 - كنت قد تلقيت رسائل كثيرة تسألنى أن أعلن وجهات نظرى فى المسألة اليهودية - العربية بفلسطين، وفى اضطهاد اليهود بألمانيا، ولم تكن مغامرتى فى إعلان وجهات نظرى فى هذه المسألة الصعبة جداً من غير تردد.
2 - إن تعاطفى مع اليهود تعاطف تام، فأنا أعرفهم معرفة حميمة من جنوب أفريقيا، وقد أصبح بعضهم أصحاباً لى مدى الحياة، وقد قرأت من خلالهم كثيراً عن اضطهادهم الطويل، وقد كانوا منبوذين من المسيحية، وكان التشابه بين معاملة المسيحيين لهم ومعاملة الهندوس لطبقة المنبوذين قريباً جداً، وكانت مقاطعتهم تستند إلى حجج دينية تسوغ المعاملة غير الإنسانية التى لحقت بهم.
3 - ولذا وبعيداً عن الصداقات، كانت هذه المعاملة هى السبب الأعم والأشمل لتعاطفى مع اليهود.
4 - غير أن تعاطفى هذا لا يعمينى عن متطلبات العدالة، لأن بكاءهم من أجل الوطن القومى لليهود لا يروق لى كثيراً، إن الإذن بهذا الوطن متجذر فى الكتاب المقدس، وفى الإصرار الذى يتوق به اليهود إلى العودة إلى فلسطين: فلماذا لا يتخذون، كغيرهم من شعوب الأرض، وطناً لهم من البلدان التى ولدوا فيها والتى يكسبون فيها عيشهم؟
5 - إن فلسطين تخص العرب بالمعنى نفسه الذى تخص فيه إنجلترا الإنجليز أو تخص فيه فرنسا الفرنسيين، وأنه لمن الخطأ وغير الإنسانى أن يفرض اليهود على العرب. إن ما يجرى اليوم فى فلسطين لا يمكن تسويغه بأى قانون أخلاقى فى السلوك، فالانتداب غير جائز، لأنه نتيجة الحرب الأخيرة «يقصد الحرب العالمية الأولى»، ومن المؤكد أن تحويل أرض العرب الأباة الذين تمتلئ بهم فلسطين إلى اليهود جزئياً أو كليا، على أنها وطنهم القومى، إنما هو جريمة ضد الإنسانية.
6 - إن أنبل إجراء يمكن أن يتخذ هو الإلحاح على معاملة عادلة لليهود حيثما ولدوا وتربوا: فاليهود المولودون فى فرنسا إنما هم فرنسيون، تماماً كما يعد المسيحيون المولودون فيها فرنسيين، فإذا لم يكن لليهود وطن إلا فلسطين: فهل سيتلهفون على فكرة مغادرة الأنحاء الأخرى من العالم الذى يقيمون فيه؟ أم أنهم يريدون الحفاظ على وطن مزدوج ليبقوا فيه عند الرغبة؟ إن هذا البكاء من أجل وطن قومى يقدم تسويغاً متلوناً ليقوم الألمان بطرد اليهود وهو إجمالاً عمل ضد الإنسانية.
7 - غير أن اضطهاد الألمان لليهود يبدو لا نظير له فى التاريخ، فطغاة العصر القديم لم يكونوا قط معتوهين كهتلر فى القدر الذى ذهب إليه وفعله بحماسة دينية، فقد كان يقدم ديناً جديداً لقومية نخبوية وقتالية.
8 - وإذا لم تكن هنالك حرب ضد ألمانيا، حتى بسبب الجريمة التى ترتكب بحق اليهود، فمن المؤكد أنه لن يكون هنالك تحالف مع ألمانيا: وكيف يكون هنالك تحالف بين أمة تدعى قيامها على العدالة والديمقراطية وأمة هى عدو معلن لكلتيهما؟ وهل تنجرف إنجلترا نحو ديكتاتورية عسكرية؟
9 - فهل بإمكان اليهود أن يقاوموا هذا الاضطهاد المخزى؟ وهل من سبيل للحفاظ على احترامهم للذات وعدم شعورهم بالعجز، والإهمال أو البؤس؟
10 - ومن الضرورى أن أشير إلى أنه من السهل على اليهود أكثر من التشكيكيين أن يتبعوا وصفتى هذه، ولهم فى حملة «الساتياجراها» satyagraha الهندية فى جنوب أفريقيا نظير دقيق، فقد كان الهنود هناك يحتلون بدقة المكانة التى يحتلها اليهود فى ألمانيا، وكان لاضطهادهم مسحة دينية أيضاً ومن ثم بإمكانهم المقاومة السلمية غير العنيفة «طبعاً هذا لم يحدث وتحولوا إلى فلسطين ليمارسوا على شعبها ما ادعوا أن هتلر مارسه عليهم من اضطهاد وظلم «الكاتب».
11 - إن بإمكان يهود ألمانيا أن يقوموا بـ«ساتياجراها» برعاية أفضل من هنود جنوب أفريقيا، وقد حشدوا الرأى العالمى وراءهم «وأيضاً هذا لم يحدث لقد ابتزوا العالم وألمانيا فى مقدمته والتى دفعت لهم فى أقل من 60 عاماً قرابة المائة مليار دولار، تعويضاً عن أوهام الهولوكست» «الكاتب».
12 - والآن كلمة لليهود فى فلسطين: ليس من شك عندى فى أنهم يسيرون هناك فى الطريق الخطأ، وأن فلسطين فى تصور الكتاب المقدس ليست رقعة جغرافية، وإنما هى مفهوم قلبى، وإذا كان عليهم أن ينظروا إلى فلسطين الجغرافية على أنها وطنهم القومى، فمن الخطأ دخولها فى ظل المدافع البريطانية، وهنالك مئات من السبل للتفاهم مع العرب، بشرط أن ينبذ اليهود مساعدة حربة البندقية البريطانية فقط، فإن هم لم يفعلوا ذلك فسيكونون شركاء مع البريطانيين فى سلب شعب لم يرتكب فى حقهم أى خطيئة.
13 - وأنا لا أدافع هنا عن تجاوزات العرب، وأتمنى أن يختاروا طريق اللاعنف فى مقاومة ما يرونه بحق اعتداء غير مسوغ على بلادهم، ولكن - طبقاً لقوانين الحق والباطل المعتمدة - لا يمكن أن يقال شىء ضد العرب بشأن مقاومتهم هذه للعدوان والظلم البريطانى / اليهودى.
14 - لنترك اليهود، الذين يزعمون أنهم شعب مختار، يثبتون قدرتهم على اختيار طريق اللاعنف للدفاع عن مكانتهم على الأرض، إن كل بلد يعد وطناً لهم، بما فى ذلك فلسطين، لا بالعدوان وإنما بفعل المحبة. وقد أرسل لى صديق يهودى كتابًا عنوانه (إسهام اليهود فى الحضارة) Contribution to Civilization jewjsh لمؤلفه (سيسيل روث) Cecil Roth، وهو يعرض سجلاً لما قدمه اليهود لإثراء الأدب العالمى، والفن، والموسيقى، والدراما، والعلم، والطب، والزراعة، إلخ. والوصية التى أقدمها لليهود هى أن يتمكنوا من أن يرفضوا أن يعاملوا على أنهم منبوذون فى الغرب، أو أن يحتقروا أو يعاملوا بتعالٍ. ويمكنهم أن يحظوا بعناية العالم واحترامه بوصفهم كيانًا إنسانيًا، وهو الإبداع الذى اختاره الله، بدلاً من الكيان الإنسانى الذى يغرق سريعًا فى نزعة التوحش ويهمله الله.
(انتهى مقال غاندى)
اليوم نجد أن تحذير غاندى هذا لليهود لم تتم الاستجابة له، فبعد أكثر من ستين عامًا، تحول الكيان الصهيونى بالفعل إلى (نزعة التوحش) كما تنبأ غاندى ومن المؤكد (أن الله قد أهمله)، بل إن الله قد رفضه، وطالب بقتاله ومقاومته لما مارسه - ولايزال - من إرهاب منظم وعدوان دائم على شعب برىء مما يزعم اليهود أنهم تعرضوا له من هتلر، إن هذه الرؤية لغاندى، فى تقديرنا، وثيقة بالغة الدلالة والأهمية، خاصة فى هذا التوقيت الصعب الذى تمر به القضية الفلسطينية، والذى يتكالب فيه (القتلة) على شعبها المناضل الصامد، ويستسلم فيه من كان يزعم وصلا بالمقاومة والجهاد، وتأتى الرؤية لتؤكد وبأثر رجعى (المظلومية) التى تمثلها، وهى مظلومية تنشئ حقًا، لا يسقط بالتقادم، حق شعب يطالب بأرضه التى أخرج منها، وحق شهداء قضوا دفاعًا عنها ومصالح ومقدسات دمرت بأيدى يصغر إلى جوار إثمها فعل هتلر فى الهولوكست.
نحتاج اليوم إلى أن نعيد إحياء مثل هذه الرؤى/ الوثائق، ونزيح الأتربة عنها، تأكيدًا - وتقوية - للبعد الإنسانى لهذه القضية العادلة، والتى لولا عدالتها لما انحاز إليها زعيم عالمى فى قامة غاندى، والاهتمام بمثل هذه الوثائق، لا يعنى الاستغراق فيها بعيدًا عن تطورات الواقع المعاصر، بل تعنى الربط الموضوعى بين تلك الرؤى وهذا الواقع، خاصة مع صعود اليمين الصهيونى بزعامة نتنياهو وليبرمان، وبعد مجازر غزة، والتخلى العربى العام عن القضية، والذى لم يعُد يقدم لها سوى بيانات الشجب والإدانة، بل صار شحيحًا فى تلك البيانات، إن غاندى بوثيقته تلك يقدم من حيث لم يرد ليس فحسب إدانة تاريخية للمشروع الصهيونى، بل نزع عنه أيضًا مشروعيته وحقه فى الوجود، وهو يقدم كذلك من حيث لم يرد وثيقة إدانة شديدة البلاغة لهؤلاء الحكام العرب ومثقفيهم الذين انحنوا وانكسروا أمام هذا المشروع ولم يكتفوا بذلك بل مارسوا القهر على شعوبهم والحصار على الشعب الفلسطينى كى يقبل بالجريمة التى اسمها (إسرائيل)، وأن يقدم نفسه طائعًا على مذبحها، تحية لغاندى فى قبره، تحية لرؤيته التى لا تصدر إلا عن نفس حرة، وضمير يقظ، استحق صاحبه عن جدارة مكانته التى بوأه إياها التاريخ.