أما دراسة الدلالة في بيان تفاضل بعض المعاني على بعض فقد اهتم بها في اللغة العربية فرع من فروع علم البلاغة، وهو علم المعاني، والذي يعني إيراد المعنى بأكثر من طريقة, والطريقة نقصد بها طريقة التركيب للجملة أو النص عموماً وفق أصول وقواعد بلاغية تحدد ذلك.
"وفي هذا المستوى اللغوي ندرس اللغة وفق تصنيف دلالة ألفاظها أو تقسيمها إلى حقول دلالية، ونعني بالحقول الدلالية أن كل مجموعة من الألفاظ التي تدل على أشياء أو معان متشابهة تشكل حقلاً دلالياً .
مثلاً الكلمات : قرطاس، كتاب، مجلة، صحيفة،... الخ.
تنتمي إلى حقل يجمعها بين حقل المطبوعات .
والكلمات : سفينة، باخرة، زورق، قارب، تنتمي إلى حقل الجاريات البحرية وهكذا.
ومما تدرس اللغة في هذا المستوى ربط اللغة بالفكر الذي هو مصدر الدلالة أو المعنى، كما ندرس في المستوى الدلالي الترادف للألفاظ وعلاقة الألفاظ بعضها ببعض وفق دلالتها، وعلاقة الجمل بعضها ببعض وفق دلالتها، وعلاقة الجمل بعضها ببعض وفق دلالتها، ودلالة النص عموماً"([9]).
وندرس في هذا المستوى أيضاً التضاد في الألفاظ ودلالتها، والاشتمال الذي يعني أن كلمة تشمل معنى كلمة أخرى أو كلمات أخر، وندرس المعنى الأساسي للألفاظ والمعنى المجازي، والألفاظ الخاصة بالشرائح المجتمعية كالأطباء، والمعلمين، وغيرها .
وندرس فيه الاشتراك اللفظي، والكتابي، وتوسيع المعنى وتصنيفه، والمعنى المجرد والمعنى التحليلي، وكل ذلك وغيره يدرس في هذا المستوى حتى كأن المستوى الدلالي يعد هو أوسع المستويات اللغوية من حيث اشتماله على الموضوعات الكثيرة والمرتبطة بالدلالة في اللغة العربية.
المبحث الثاني: التركيب اللغوي وأسس تكوينه.
المطلب الأول: مفهوم التركيب اللغوي :
نعني بالتركيب اللغوي الجملة التي تتركب من عدد من البني اللفظية التي هي مكونات التركيب أو الجملة، وهذه البني اللفظية هي المتكونة من نظام من الأصوات متتال وفق قواعد علم الصرف .
وبصورة أوضح فإن التركيب يعني : الجملة المركبة من عدد من الألفاظ وفق نسق معين, ويلزم أن يؤدي هذا التركيب معنى مفيدا أو مقصوداً، وفي اللغة العربية نسميه الجملة، التي تنقسم إلى جملة اسمية وجملة فعلية، ولها استخدامات عديدة حسب القصد المراد منها مثل الجملة الابتدائية، والجملة الإخبارية، والجملة البسيطة، والجملة المركبة، وجملة الحال، وجملة الصلة، وغيرها.
والتركيب اللغوي لا يستقيم أمره إلا وفق قواعد وأسس خاصة, هي التي نطلق عليها القواعد النحوية ,التي تضبط تكوين الجملة في اللغة العربية وغيرها من اللغات ,وسوف نبين خصائص التركيب اللغوي عند عرضنا في هذا البحث لخصائص التراكيب اللغوية في اللغة العربية.
وإذا كان تعريف اللغة يوضح :"أنها نظام من العلامات المتواضع عليها اتفاقا تتسم بقبولها للتجزئة, وينفذها الفرد وسيلة للتعبير عن أغراضه"([10])، فإن التركيب اللغوي هو الصورة المجسدة للغة حيث أن الفرد أو المتكلم لا يعبر عن حاجاته بكلمات متفرقة بل بتراكيب لغوية وجمل متعاقبة مترابطة ترابطاً منطقياً متسقة في ألفاظها ودلالتها .
إذاً فالتركيب اللغوي هو ما نعني به المستوى التركيبي في اللغة, وهو اللغة في وضعها المتكامل المنسق في بناء أصواتها وألفاظها .
ويعد التركيب اللغوي من أعلى مستويات التكوين اللغوي، ومن أهم مستويات التحليل في اللسانية الحديثة.وفي التركيب اللغوي ندرس العلاقات التركيبية داخل الجمل لتصبح هذه الجمل ذات دلالة واضحة.
المطلب الثاني : أسس تكوين التركيب اللغوي في اللغة العربية.
التراكيب اللغوية بالمفهوم السابق لا يأتي تكوينها بصور اعتباطية؛ إذ لابد في ذلك من أسس وقواعد يعتمد عليها في تكوينها, تتمثل في اختيار الألفاظ التي تعبر عن هذه الحاجة بحيث تركب في جملة ذات دلالة واضحة معبرة عن ما هو مكتن في النفس، بشرط وضوحها بالنسبة للمخاطب، وفي لغتنا العربية يتفاوت التركيب الجملي في الوضوح حسب حالة المخاطب، في الفهم والتقبل " فينبغي على صاحب الخبر (المتكلم ) أن يأخذ في اعتباره حالة المخاطب عند إلغاء الخبر، وذلك بأن ينقله إليه في صورة من الكلام تلائم هذه الحالة بغير زيادة أو نقصان، والمخاطب بالنسبة لحكم الخبر (أي مضمونه)، له ثلاث حالات هي :
1- أن يكون المخاطب خالي الذهن من الحكم، وفي هذه الحالة يلقي إليه الخبر خالياً من أدوات التوكيد، ويسمى هذا الضرب من الخبر ( ابتدائيا ) .
2- أن يكون المخاطب متردداً في الحكم شاكاً فيه، وينبغي الوصول إلى اليقين في معرفته، وفي هذه الحال يحسن توكيده له ليتمكن من نفسه، ويحل فيها محل الشك، ويسمى هذا الضرب من الخبر (طلبياً) .
3- أن يكون المخاطب منكراً لحكم الخبر، وفي هذا الحال يجب أن يؤكد له الخبر بمؤكد أو أكثر، على حسب درجة إنكاره من جهة القوة والضعف، ويسمى هذا الخبر (إنكارياً ) "([11]).
فقبل التكوين للتركيب اللغوي، علينا مراعاة الدلالة حسب حال المخاطب الذي هو معني بالكلام أو الخبر كما يسميه علماء البلاغة .
ثم يراعي أيضاً القواعد التركيبية في تكوين التركيب أو الجملة بحيث يستقيم بناؤه في ضوء ما وصفه علماء النحو من أسس لتكوين الجملة بنوعيها الاسمية والفعلية فمثلاً يقول الشاعر :
سبقنا إلى الدنيا فلو عاش أهلها
منعنا بها من جيئةٍ وذهاب([12])
فإذا قلنا: ( إلى عاش الدنيا فلو أهلها ) وغيرنا في مواقع ألفاظ هذا الشطر من البيت الشعري، وبهذه الطريقة لم يستقم المعنى، واحتاج هذا التركيب للضغط القواعدي النحوي، وكذلك التصور البلاغي السليم لدى المتكلم، حتى يؤدي المعنى الذي في النفس، كما أراد هنا الشاعر المتنبي في بيته الشعري المذكور .
بالإضافة إلى اشتراط سلامة التكوين القواعدي للتركيب اللغوي في اللغة العربية لا بد أن يستقيم معه المعنى المعقول والمتقبل لدى المخاطب .
فلا يكفى التركيب أن يكون سليماً من الناحية النحوية أو الضبط القاعدي، بل يلزمه أن يصبح في المعنى كذلك، فالتركيب القائل : ( شربت البحر ) هو من الناحية القاعدية سليم؛ إذ يتكون من فعل وفاعل، ومفعول، وسليم من الناحية الترتيبية، حيث تقدم الفعل ثم الفاعل ثم المفعول وفق الترتيب المتفق عليه عند جمهور النحاة .
غير أن المعنى مستحيل، وهو ما يسميه ابن هشام رحمه الله في المغني (بالكلام المستقيم المستحيل)، فهو مستحيل من حيث الدلالة، مستقيم من حيث النحو، غير أن التركيب في العربية إذا التبس فيه المعنى على السامع أو القارئ فليزم تأويله وفق المعقول من القواعد النحوية, وقد أكد على ذلك ابن هشام أيضاً بقوله :" كذلك في (علم أقصد عمرو)، وذلك لا بد من تقديره وفقاً للتناقض؛ إذ ظهور الشيء والعلم به منافيان للاستفهام المقتضى للجهل به، فإن قلت ليس هذا مما تصح فيه الإضافة إلى الجهل، قلت قد مضى عن قريب أن الجملة التي براد بها اللفظ يحكم لها بحكم المفردات "([13] ).
وهو بذلك يرفض التناقض في معنى الجملة، ويحل الإشكال في تقدير بعض الألفاظ فيها ليستقيم المعنى المراد منها، فإذا أصبحت كذلك فيتم التأويل على ضوء مفرداتها، فيستنتج المعنى من خلال المفردات الموجودة في التركيب الجملي .
وعليه يتضح لنا أن التركيب اللغوي في اللغة العربية يتكون وفق الأسس الآتية :
1- الحاجة المراد من التركيب أن يعبر عنها حتى يتم تكوينه على أساسها .
2- صحة الألفاظ الموجودة في التركيب اللغوي .
3- صحة التركيب من حيث القواعد النحوية .
4- صحة التركيب من حيث القواعد الدلالية .
5- مناسبة التركيب للمخاطب حتى يؤدي الهدف من تكوينه .
6- إذا وجد في التركيب لبس في فهم دلالته فإن علينا تقدير بعض الألفاظ فيه حتى يستقيم المعنى والنحو معاً .
7- إذا صعب التقدير، فإن علينا استنتاج الدلالة في ضوء دلالة الألفاظ المفردة المتكون منها ويكون ذلك في أضيق الأحوال .
8- أما ما يتعلق بتكوين التركيب من حيث الإيجاز أو الطول فإن ذلك يرجع إلى ما يسميه علماء اللغة (بالقدرة ) وهي الإمكانات الكامنة لدى متكلم أو كاتب اللغة من استخدام الألفاظ وتكوين تراكيب لغوية منها , بداية بالتكوين الصوتي، ثم الصرفي، ثم الجملي أو النحوي، ثم الدلالي (فالأصوات تتجمع وفقاً لنظام صوتي محدد في اللغة، والمقاطع تتجمع وفقاً لنظام مقطعي محدد، وكذلك الحال في المورفيمات تتجمع وفقاً لنظام صرفي محدد، ثم الكلمات تتجمع وفقاً لنظام نحوي محدد ([14]) والجمل تؤدي دلالات واضحة محددة .
وتلك تعد أهم أسس تكوين التركيب اللغوي في أية لغة لاسيما في لغتنا العربية .
المبحث الثالث :خصائص تراكيب اللغة العربية.
المطلب الأول :الخصائص الدلالية:
1-ذات دلالة واضحة :
إن أهم خاصية تلتزم بها التراكيب اللغوية العربية هي خاصية الوضوح في دلالتها إذ لا قيمة لتركيب لغوي لا يؤدي دلالة بينة يفهما المخاطب إذا كانت إلقاءً ويفهمها القارئ إذا كانت مكتوبة، ولقد جاء في تعريف الكلام عند علماء النحو بأنه: اللفظ المركب المفيد فائدة بحسن السكوت عليها([15])كما جاء في تعريفه أيضاً الكلام بأنه :قول يتركب من كلمتين أو أكثر ويفيد معنى ([16])وذلك يعني أنه لا قيمة للتركيب اللفظي في اللغة العربية إلا إذا أفاد معنى، ولا يفيد المعنى إلا إذا كان واضحاً عند من يقرأ أو يسمع تلك التراكيب اللغوية العربية ,ونعني بالوضوح هنا أن يكون واضحاً للمخاطب، إذ أن بعض التراكيب لا يفهمها إلا ذوي الاختصاص في المجال الذي تتحدث عنه هذه التراكيب، فإذا قلت (جاء البحر) وهو تركيب فيه كناية (بالبحر) عن أحد الناس حيث شبهته بالبحر لسعة علمه فلا يفهمها الإنسان العامي، بل قد يفهم منها فقط المعنى الظاهري، بأن البحر جاء يمشي، وهذا بالنسبة له ضرب من المستحيل، مع أن هناك تراكيب صحيحة في التركيب لكنها غير مستحيلة في الدلالة وقد أشار إلى ذلك سيبويه رحمه الله حيث بين أن "بعض التراكيب اللغوية تكون صحيحة في التركيب القاعدي غير أنها مستحيلة في الحدوث كأن أقول : أني أملك النجوم، وأمشي في الهواء .
وهي في تركيبها القاعدي سليمة، غير أنها في المعنى والدلالة الواقعية مستحيلة، وهي التي نسميها ( الجملة الصحيحة المستحيلة ) "
إذاً فالتركيب اللغوي في اللغة العربية، والذي يسميه النحويون الجملة لا يعد تركيباً أو جملة أو كلاماً إلا إذا كانت له دلالة واضحة مفهومة.
2-ذات دلالة مستقلة مع ارتباط بدلالة النص:
التركيب اللغوي في اللغة العربية سواء كان اسمياً أم فعلياً له دلالة مستقلة تفيد المخاطب معنىً معينا، وهذه الخاصية لا تخرجها عن دلالتها المرتبطة بالنص عموماً، أو بالتراكيب اللغوية التي قبلها أو بعدها في النص فإذا قلنا مثلاً : دخل محمد الفصل , وهو تركيب فعلي يدل على معنى مستقل حيث يفيد الإخبار عن دخول محمد الفصل ,وهذه الفائدة الخبرية لا شك أنها جاءت من خلال المعنى المراد من قبل المتكلم، الذي يريد إخبار المخاطب بهذه الفائدة ,وواضح من الجملة السابقة أن دلالتها غير مرتبطة بما قبلها أو بما بعدها من التراكيب ولا يشترط أن يكون قبلها تركيب أو بعدها تركيب، إذ أنها تؤدي معنىً يتصف بالاستقلالية مع أنه لا يمنع وجودها في إطار تركيب نص متكامل كأن نقول وأنت تحكي عن محمد : رأيت محمدا منتظراً لمجيء المعلم، واستفاد من ذلك الوقت بمراجعة دروسه السابقة، ولما حضر المعلم دخل محمد الفصل .
فهذه الجملة جعلتها مرتبطة بالجمل التي قبلها، فلا ضير في أن تأتي مستقلة الدلالة أو مرتبطة بغيرها من التراكيب غير أننا نذكرها هنا كميزة وخاصية للتراكيب اللغوية العربية.
ويؤكد على الدلالة المستقلة للتركيب اللغوي، مع عدم تنافي قيام الجملة أو التركيب في سياق النص ما جاء في تعريف الكلام
إنه توخي معاني النحو)([17])
وتوخي معاني النحو يأتي في سياق بيانه للتركيب الكلامي المفيد الجامع بين الضبط القواعدي، والدلالة المفيدة من خلال التركيب مع وجود استقلالية للجملة أو التركيب قد تكون جزئية في إطار السياق، وقد تكون كلية في إطار المعنى الخاص بالجملة, و عبد القاهر الجرجاني يؤكد على فائدة المعنى للجملة العربية ,استقلالاً وسياقاً من خلال حديثه عن سر إعجاز القرآن الكريم؛ إذ يرى أن العرب ( أعجزتهم مزايا ظهرت في نظمه وخصائص صادقوها في سياق لفظه، وبدائع راعتهم من مبادئ آيه ومقاطعها ومجاري ألفاظها ومواقعها، وفي مضرب كل مثل، وسياق كل خبر، وصورة كل عظة وعبرة) . [18]
فسياق اللفظ يريد به موقع اللفظ في المقطع التركيبي القرآني ومبادئ ومقاطع الآيات ومجاري ألفاظها ومواقعها إشارة إلى المعنى الجملي للآية أو التركيب القرآني، والذي لا شك أن له مع استقلالية معناه الإجمالي له ارتباط بالمعنى العام للمقطع القرآني المتكون من عدد من التراكيب اللغوية القرآنية وهذا يعني أن فهم التركيب من خلال سياق النص له معناه الكلي المفهوم من خلاله، وقد كان العلماء العرب على وعي كامل بمفهوم السياق وقد قدموا أفكارا وممارسات سياقية متميزة أكثرها البحث اللغوي وأثبت جدواها في التحليل والتفسير([19])
3- تقبل الحذف مع الاحتفاظ بالدلالة الأصلية لها:
إذا ما تأملنا في الجملة العربية فإننا ننتجها كمتكلمين أحياناً موجزة وأحياناً فيها متعلقات عديدة فتكون مطولة .
فإذا قلنا : إن محمد أحرز نجاحاً باهراً . فهو تركيب يتكون من خمس كلمات، وجاء هذا التركيب على حسب الحاجة التي يريدها المتكلم وهي بيان طبيعة نجاح محمد، وهذا التركيب أو هذه الجملة، إذا ما أردنا الحذف منها سيكون ذلك كالآتي :
الجملة كما وردت سابقا ً: إن محمداً أحرز نجاحاً باهراً .
الجملة بعد الحذف منها محمد أحرز نجاحا ًباهراً، والجملة بعد الحذف أيضاً : محمد أحرز نجاحاً، والجملة بعد الحذف كذلك : محمدٌ نجح .
وهذه الخاصية مرتبطة بدلالة الخبر في الجملة الذي جاء حسب طبيعة المخاطب، كما يقول البلاغيون، الذين استفادوا من قواعد الحذف في الجملة العربية، وجعلوا لكل تركيب في الجملة دلالة المعني بها بعد الحذف .
وعند النظر في الجمل السابقة نجد أنها تجتمع كلها في الخبر بنجاح محمد، وأن الدلالة الجامعة بينها هي دلالة الإخبار بهذا النجاح، غير أن الفارق في بعضها هو في قوة هذه الدلالة أو ضعفها، ففي الجملة الأولى لا شك أن دخول (إن ) على الجملة الاسمية جعل دلالتها أقوى، ووجود الوصف لنجاح محمد جعل دلالتها أكبر تأكيداً، وهكذا نرى أن كل زيادة في المبنى التركيبي أضاف تأكيدا ًوزيادة في المعنى، غير أن المعنى الأساس مشترك بينهما، ولا نأتي بهذا التأكيد إلا إذا رأينا حال المخاطب يحتاج إليه، وبذلك يصبح الحذف غير مخل بالمعنى الأساسي للتركيب، وهو مع تكراره في هذا التركيب احتفظ بالمعنى الأصل للجملة أو التركيب، ولأن اللغة أصلها تواضع واصطلاح فإن الاتفاق بين متكلمي العربية أن الفائدة من التركيب هي الدلالة أو الخبر، وخصوصا ًفي الجملة الخبرية التي جاء في تعريفها بأنها التي تحتمل الصدق أو الكذب، كما أكد على ذلك ابن جني رحمه الله بقوله : " وذلك أنهم ذهبوا إلى أن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة "[20] وبهذا يكون الاتفاق بين أهل اللغة أن الهدف من التركيب هو فائدة خبره، وليس كثرة ألفاظه، مع الاحتفاظ بفائدة كل لفظ تمت إضافته، أو بقي ولم يحذف من بناء لجملة .
4- لا تقبل اللا دلالة أو ليست معدومة الدلالة :
يسمى النحاة العرب التركيب اللغوي الذي ليس مفيداً بالكلم، وأما الكلام "فهو اللفظ المركب المفيد فائدة يحسن السكوت عليها"([21]))فالفارق بين التركيب المفيد وغير المفيد هو حصول الفائدة في المعنى لدى السامع، أو القارئ في التراكيب المكتوبة وبذلك إذا تأملنا في التركيب
البستان جميل) وجدناه مركبا من كلمتين فإذا أخذنا الكلمة الأولى وحدها ( البستان ) لم نفهم إلا معنى مفردا لا يكفي للتخاطب وكذلك الحال إذا أخذنا الكلمة الثانية ,غير أنا إذا ضممنا إحدى الكلمتين إلى الأخرى كما هو سابقاً وقلنا ( البستان جميل ) فهمنا معنىً كاملاً واستفدنا استفادة تامة )([22]لعل هذا الشرح المبسط يوصلنا إلى نتيجة مفادها أن التركيب اللغوي العربي من أهم شروطه حتى يصبح تركيباً أن يكون مفيداً , ولذلك فإن النحو يوفر الفائدة التي تعد شرطاً في سلامة التركيب أو الجملة وإلا فهي من قبيل اللغو الذي لا فائدة منه، ولا يعتد به، ولا و لا يجرون عليه القواعد النحوية، ولا يعتمدون عليه في الإنباء بالخبر، ولذلك ظهر لديهم مصطلح الجملة المفيدة التي قالوا في تعريفها
هي التي تتركب من كلمتين فأكثر وتفيد فائدة تامة، وكل كلمة فيها تعد جزء منها )([23])
فإذا قلنا : ( إذا حضر الأستاذ ) وسكتنا فإن هذا التركيب لا يفيد فائدة تامة مع أنه متكون من ثلاث كلمات، ولكي يكون مفيداً فإن علينا إكمال الكلام حتى يسمى كلاماً أو تركيباً فنقول : نسأله عن الامتحان، وهذه الخاصية تعد من ألصق الخصائص بالتراكيب اللغوية بنوعيها في اللغة العربي التركيب الاسمي، والتركيب الفعلي .
وتتفاضل الفائدة حسب قدرة المتكلم أو المنتج لهذه التراكيب لإيراد المعنى الذي في النفس بوساطة التركيب المناسب الذي ربما لا يقدر عليه غيره " وإنما يقال للقائل بالكلام الموزون المقفى شاعر؛ لأنه يدرك نوعاً من الكلام ويقدر على تركيب كلمات لا يقدر عليها غيره ) ([24])
5- قابلة لتفعيل التنغيم مع إفادة معانٍ جديدة :
التنغيم هو تغيير نغمة الصوت بالرفع أو الخفض، أو المد أو التقصير للصوت حسب الحال التي يعبر عنها المتكلم في التركيب الذي ينتجه وكل ذلك يحدث في التركيب اللفظي الواحد و(تتوقف درجة النغمات على عدد ذبذبات الأوتار الصوتية في ( الحنجرة ) في الثانية ( الواحدة )([25])
والنغمات قسمها علماء اللغة إلى أربعة مستويات هي :
نغمة منخفضة ورمزها /1/0 وتأتي في نهاية الجملة الإخبارية ,الجملة الاستفهامية التي لا تجاب بنعم أو لا.
نغمة عادية، ورمزها / 2/ 0 وهي بداية الكلام عادة .
نغمة عالية ورمزها / 3/ 0 وترافق عادة النبرة الرئيسية، وتأتي عادة قبل نهاية الكلام .
نغمة فوق عالية ورمزها /4/0 وهي أعلى النغمات، وتأتي مع التعجب أو الانفعال وإذا أردنا أن تتضح هذه الخاصية أكثر فسنضرب لذلك المثل الآتي : اختبار اللغة العربية سيكون غداً .
فهذه جملة إخبارية عند إلقائها من قبل المتكلم ستكون عادة ً بنغمة منخفضة لأن الهدف من إلقائها هو الإخبار عن الاختبار لمادة اللغة العربية، كما أن هذا التركيب أو الجملة بإمكانها أن تكون جواباً على الاستفهام من اختبار مادة اللغة العربية، لأن الإجابة عنه لا يمكن أن يكون بنعم أو لا.
وعليه فإن النغمة الصوتية ستكون هادئة ومنخفضة لتناسبها مع المقام الذي جاءت في إطاره.
ونفس التركيب إذا تغيرت نبرة أدائه فوق المنخفضة ستكون نبرة عادية وذات دلالة أكثر وقعاً، وخاصة بداية الجملة فنقول : اختبار مادة اللغة العربية سيكون غداً . بنغمة أعلى من سابقتها لأنها لم تأتِ جواباً عن استفهام ولم تأتِ خبرية فقط، بل جاءت أقرب إلى التنبيه والجزم في الأمر فتكون دلالة الجملة أقوى من أدائها بصوت منخفض يدل على حدوث الاختبار غداً، ولكن ربما لا يحصل ذلك .
أما إذا ارتفع الصوت أكثر لاسيما في نهاية الجملة مع انخفاض في بدايتها ورفع الصوت أكثر في كلمة ( غداً ) فينتقل معنى التركيب إلى معنى ثالث له دلالة التحذير والتشديد فيه، ولا مجال بعد أداء هذه العبارة أو التركيب بهذا التنغيم الصوتي المرتفع في نهاية الجملة للشك إطلاقاً بأن الاختبار سيكون غداً لأن التنغيم منح الجملة دلالة أقوى وهي التحذير والتأكيد.
أما إذا أصدرنا نفس التركيب اللفظي بنغمة فوق عالية، فإنه سيدل دلالة رابعة مختلفة عن الدلالات السابقة فتضل رفع النغمة الصوتية بهذه العبارة : اختبار اللغة العربية سيكون غداً ؟!
فإنك مباشرة تفهم أنها بهذه النغمة الصوتية فوق العالية صدرت من شخص منفعل تفاجأ بالخبر وليس مستعداً لأن يكون الاختبار غداً، فيقول ذلك التركيب متعجباً منفعلاً مستنكراً، مع أنه لم يضيف أي لفظٍ إلى الجملة أو التركيب، غير أن نغمات الصوت تغيرت وارتفعت حتى أبدت معنىً أخر .
وهكذا تتباين دلالة التراكيب اللغوية وتتعدد وتتجدد من معنى إلى آخر بوساطة تفعيل التنغيم الصوتي فيها، من خبرٍ إلى تنبيه إلى تحذير، إلى انفعال، أو تعجب وإنكار، وربما إلى سخرية وتهكم، وكل ذلك حسب هندسة الصوت انخفاضا وارتفاعا وتوسطاً وتلك من أهم وسائل التأثير على المخاطب أثناء إلقاء الكلام إليه، فهناك نغمة حزينة، وهناك نغمة الفرح والسرور، وهناك نغمة حماسية، وهناك نغمة النصح، ونغمة التهديد، وكلها أو معظمها قد تجتمع في تركيب لفظي واحد ويختلف الأداء الصوتي لها فقط، وتلك من أبرز الخصائص في التراكيب اللغوية العربية وغير العربية غير أنها في تراكيب اللغة العربية أكثر تنوعاً، وأبلغ تأثيراً، وأوضح صورة .
فهناك تباين في اللغات في عملية التأثير على المخاطب ( وقد تكون لغة أو أكثر متعددة التأثير، ولغة أخرى غير مؤثرة, وهناك عوامل عديدة تجعل لغة مؤثرة أكثر منها متأثرة )([26])وإن تراكيب اللغة العربية بتفعيلها لخاصية التنغيم تمنح نفسها وسيلة مهمة في تعدد دلالات تراكيبها مع ثبات ألفاظ هذه التراكيب وعدم الحذف منها أو الإضافة إليها.
6- لديها القابلية لتفعيل النبر لإفادة معانٍ جديدة :
النبر في الألفاظ والجمل أو في البني اللفظية والتراكيب يعد من أبرز الظواهر الصوتية التي تستخدم أثناء الحديث أو أثناء الكلام، والنبر يراد به الضغط أثناء الكلام على جزء من الكلمة أو على حرف منها، أو الضغط على جزء من الجملة أو كلمة منها، بدافع بيان معنى مهم يريد لفت نظر المخاطب أو السامع إليه، فإذا نطقت كلمة (تعلم) وضغطت بالصوت على اللام فإنك تشير إلى تأكيد الأمر للفعل الذي لا تظهر دلالة النطق به إلا في حرف اللام الذي تم النبر عليه، وهكذا في العديد من الألفاظ فالمقطع (الصوتي) قوي النبر يأخذ خانة كلامية أكثر من المقطع ضعيف النبر، ويكون الصوت أشد وأعلى وأطول، فمثلاً كلمة (ذهب ) تتكون من ثلاثة مقاطع (صوتية ) في كل منها صائت: ذَ، هـ، ب، ونعني بالصائت, الحركة التي على الحرف، المقطع الأول هو الأقوى نبراً، والآخران ضعيفاً النبر، ومع النبر القوي يزداد نشاط أعضاء النطق وتقوي حركة الوترين الصوتيين ويزداد نشاط الشفتين , وتصبح حركة اللسان أدق )([27])ونبر الجملة أو التركيب هو أحد أنواع النبر الذي يؤثر على المعنى بهذه الجملة عند نبرها فإذا قلنا
أحرز محمد الفوز ) فإذا نبرت كلمة ( الفوز) فقد غيرت دلالة الجملة الخبرية العادية إلى جملة توكيدية أكد على الفوز الذي أحرزه محمد، وإذا نبرت كلمة ( محمد ) تغيرت دلالة الجملة أو التركيب إلى الإخبار بأن الذي أحرز الفوز من دون الآخرين هو ( محمد ) وإذا نبرت كلمة ( أحرز) أصبحت دلالة الجملة الإخبار بأن الذي فعله محمد هو الإحراز للفوز، وهكذا نجد نبر الجملة أو التركيب تتقبله الجملة العربية لتظهر معانٍ متعددة بوساطة النبر، الذي يضيف خاصية مهمة من خصائص اللغة وهي الخاصية النبرية وفي ذلك يقول الدكتور الخولي إن إذا كان تغيير النبر في لغة ما يؤثر على المعنى فهذا يثبت فونيمية النبر في تلك اللغات وتسمى اللغة في هذه الحالة لغة نبرية، مثل العربية، والإنجليزية، وتكون اللغة حرة النبرة .([28])
7- لديها قابلية زيادة التأثير في نفس المخاطب :
إن المعني بالكلام أو إنتاج الجمل والتراكيب هو المخاطب، إذ لا يمكن أو يعقل أن الإنسان يكلم نفسه، وهذا المخاطب يصنف على مستويات في الفهم والاستيعاب، وفي تقبل الخطاب أو الشك فيه أو إنكاره، وفي ضوء ذلك يكون الكلام على حسب ما يقتضيه حال المخاطب، وهذا يعني أن يراعي المتكلم أو المنتج للتراكيب اللغوية مع من يتحدث ليخاطبه بالتراكيب التي تناسبه، من أجل التأثير فيه وإفهامه ما يريد، ولذلك لما قدم مندوب قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أجل أن يتفاوض معه ليتراجع عن رسالته ودعوته، وقال له إن قريشاً تقول لك: إن كنت تريد مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أوسطنا مالاً، وإن كنت تريد ملكاً، توجناك علينا ملكاً، وإن كنت تريد زواجاً زوجناك بأجمل فتياتنا، وإن كان الذي بك رئي من الجن، جلبنا لك أمهر الأطباء لعلاجك، فحل يا محمد بيننا وبين ما تدعونا إليه.
فعرف النبي صلى الله عليه وسلم مراده، فخاطبه خطابا ًمؤثراً بتراكيب تناسب حال المخاطب الذي بين يديه، فقال له : أ فرغت يا أبا الوليد؟ فكان هذا التركيب الجملي الاستفهامي الواضح بمثابة تهيئة للمخاطب ؟ فقال: نعم، فقال له تركيب آخر أو جملة أخرى،( إذاً فأسمع مني)،فما كان منه بعد هذه العبارة المؤثرة التي جاءت بعد سماع النبي صلى الله عليه وسلم السماع الكامل إلا أن استخرج الحكم من المستمع بقوله : أسمع منك .
فأسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، آيات الرحمن وجمل القرآن من بداية سورة فصلت حتى وصل إلى قوله تعالى: ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود )([29]) .
فما كان من الرجل إلا أن وضع يده على فم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في كامل تأثره وقال له : يا محمد والله إني أخشى أن تنزل الصاعقة على قريش الآن، ثم ذهب إلى قومه، وهو في قمة التأثر بعد أن كان قبل سماع الكلام من النبي صلى الله عليه وسلم من أشد المعاندين له، ثم أصدر قولته المشهورة لقريش :
والله إني لأعلم بالشعر ووزنه, وأعلم بالسحر ونفثه وعقده, وأعلم بالكهانة وسجعها, فليس ما يقوله محمد شعر ولا سحر ولا كهانة , والله إن لكلامه لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر , وإن أسفله لمغدق , وإنه ليعلو ولا يعلى عليه.
قالوا: والله لقد سحرك محمد ولقد عدت بغير الوجه الذي ذهبت به ([30])، وهم بهذا الخطاب أو التركيب الجملي ,يقرون ويعترفون بتأثير كلام النبي صلى الله عليه وسلم .
إن التراكيب سابقة الذكر في كلام النبي صلى الله عليه وسلم وما تلاه من آيات قرآنية، وما نطق به مندوب قريش ألم تترك أثراً في النفس ما يزال إلى اليوم ؟ وقد يقول قائل : إنه كلام الله تعالى، وكلام من لا ينطق عن الهوى، فنقول : أليست جملاً عربية وتراكيب عربية فلا مناص من أنها تحمل خاصية التأثير، ثم إن كلام أبي الوليد أيضاً مؤثر والجمل التي قالها في القرآن الكريم، ما نزال نرددها إلى اليوم، تترك أثرا بالغا في كل من يسمعها بل وتزيد ارتباطه بالقرآن الكريم .
وهذا يعني قوة تأثير التراكيب اللغوية العربية وزيادة هذا التأثير على السامع من حين إلى آخر .
8- يعتمد تقييمها على السليقة اللغوية وعلى القاعدة معاً :
التراكيب اللغوية العربية أو الجمل العربية تعتمد على القاعدة النحوية في تركيبها لتصبح دلالتها سليمة أو صحيحة، فإذا قلنا : دخل سعيد الفصل، عرفنا إن هذا التركيب سليم من حيث انه يكون من فعل وفاعل ومفعول، وذلك من خلال المعيار القاعدي؛ فالقاعدة النحوية تقول بأن الجملة الفعلية التي فعلها متعدَ إلى مفعول واحد يكون تركيبها مثل الجملة السابقة الذكر فهي جملة من الناحية القاعدية سليمة، ونحكم على هذه الجملة بوساطة السليقة أيضاً؛ إذ إن السامع أو القارئ لهذه الجملة، من درس أولم يدرس القواعد النحوية ليعرف مدى صحة هذه الجملة، فإنه وبالسليقة التي تكمن فيه كمتكلم ناصح أو كسامع ناضج يفهم أن دلالتها سليمة وصحيحة أما إذا قلنا التركيب : (في محمد الفصل) فإن القاعدة تقول لنا: التركيب غير سليم نحوياً لأن البناء لهذه الجملة لم يعتمد على قاعدة صحيحة لأنه لا يوجد في النحو قاعدة تقول لنا :نبدأ بحرف جر قبل اسم ظاهر لا يدل على الظرفية؛ لأن (في) من اختصاصها الدلالة على الظرفية، وإن السليقة تقول لنا: إن المعنى غير مستقيم، وفي ذلك يقول عبد القاهر الجرجاني : " أتصور أن تكون معتبراً مفكراً في حال اللفظ حتى تضعه بجنبه أو قبله، وأن تقول هذه اللفظة، إنما صلحت لكونها على صفة كذا أم لا يفعل أن يقول : صلحت ههنا لأن معناها كذا .
ولدلالتها على كذا وإن معنى الكلام والغرض منه يوجب كذا ولكن معنى ما قبلها يقتضي معناها "فهناك ترابط بين ألفاظ التراكيب ليستلزم أن يكون منطقياً وهذه المنطقية لا تأتي إلا بصحة التركيب قاعدياً، ودلالياً، حتى أنه يفهم من خلال السياق مباشرة، ودون عناء من السامع، والتراكيب اللغوية العربية لا تقبل إلا الاثنين معاً لأن تكون وفق القواعد النحوية، وموافقة للسليقة اللغوية.
ويشير إلى ذلك العالم اللغوي نعو م تشومسكي فيقول : ( إن المقصود باصطلاح جملة هو مجموعة سلاسل المكونات الأساسية وليس السلاسل المتكونة من وحدات صوتية )([31]).
وهو يعني بالمكونات الأساسية الألفاظ المكونة للجملة على ضوء القواعد النحوية التي تضبط بناء الجملة المتكونة من أصولها الأساسية كالمبتدأ والخبر في الجملة الاسمية أو الفعل والفاعل في الجملة الفعلية وما يتعلق بها بشكل منطقي وليس السلاسل المتكونة تباعاً من وحدات صوتية مكونة للكلمات ثم تكون التراكيب فتكون كيفما جاء واتفق، وإنما تؤدي معنى مرتباً وسليمًا يحكم عليه من خلال السليقة التي يسميها الجرجاني(الحدس) ومن خلال الضبط القواعدي.
وفي ذلك أيضاً يقول : " الألفاظ لا تفيد حتى تؤلف ضرباً خاصاً من الـتأليف ويعمد بها إلى وجهٍ من التركيب والترتيب"([32])
فالتركيب والترتيب متلازمان في التركيب اللغوي العربي .
ويؤكد على ذلك أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين بقوله في فصل ( تمييز الكلام ) : "الكلام أيدك الله يحسن بسلاسته وسهولته وفصاحته لفظه وإصابة معناه، وجودة مطالعه وأنس, مقاطعة واستواء تقاسيمه وتعادل أطرافه وتشبيه أعمدته بهواديه مع قلة ضروراته بل عدمها أمثل حتى لا يكون لها في الألفاظ أثر ... فإذا كان الكلام كذلك كان بالقول ضليعا، وبالحفظ خليقاً"([33])
فالسهولة في التركيب وتعادل الأطراف،واتصال أوله بآخره وسلامة منطقه وتركيبه ,ولطف مأخذه, ووضوح دلالته, كل ذلك يؤكد أن التركيب اللغوي العربي يعتمد عند التقييم على المعيار القاعدي أياً كان سواء كان نحوياً أو بلاغياً، وكذلك على الجانب الدلالي الذوقي المعتمد على السليقة اللغوية .
المطلب الثاني : الخصائص التركيبية.
1- تتمتع التراكيب في اللغة العربية بالعديد من الخصائص يمكن إجمالها فيما يأتي:
التركيب العربي اللغوي مع أنه منضبط بالقواعد النحوية التي أعانت على إنتاج تراكيب سليمة إلا أن السعة في توليد جمل أو تراكيب من الجملة الأصلية أو التركيب الأصلي أصبحت صفة أو خاصية لازمة لها، وهي خاصية أعطت التراكيب اللغوية العربية صفة الحيوية التي بوساطتها يتم توليد تغييرات أو جمل تغطي الحاجة التي يحتاجها المتكلم أو الكاتب ,وتزيده قدرة في التعبير عما يجول في خاطره أو يحتاج إليه .
وتستخدم اللغة العربية لتوليد جمل عديدة من التراكيب الأصلية ,قواعد متنوعة أهمها القواعد النحوية، وذلك منذ تأسس النحو العربي ومنذ وضعت قواعده من عهد أبي الأسود الدؤلي كما تقول الروايات ومن عهد الخليل وسيبويه، ومن جاء بعدهم ممن توسع في تقعيد النحو العربي ,ويضاف إلى هذه القواعد النحوية، القواعد البلاغية التي اهتمت بالدلالة والمعاني المتعددة و المتفاضلة بتفاضل للجمل والتراكيب، وذلك وفق ما يتميز به كل تركيب عن الآخر في إيراد المعنى .
وبالاستعانة أيضاً بالقواعد الصرفية التي تساعد على توليد مشتقات عديدة من البنية اللفظية الواحدة في ذات التركيب الواحد فمثلاً قولنا : كتب محمد الدرس، يختلف سياقها إذا ما غيرنا صرفياً بنية الفعل كتب إلى الفعل يكتب، فتصبح الجملة يكتب محمد الدرس، وتعد جملة جديدة تولدت عن الجملة السابقة بواسطة التصريف الذي طرأ عليها، وهكذا إذا غيرنا تصريف الفعل مرة أخرى وقلنا (اكتب ) فعل أمر، سيتغير تركيب الجملة إلى كلمتين في الظاهر، وثلاث في الباطن، إذا راعينا وجود الضمير المستتر الذي تقديره أنت، وأصبح لدينا جملة جديدة أخرى ذات دلالة مختلفة عن التي سبقتها حيث أصبحت تدل على المستقبل، وسنجد كلما غيرنا تصريف لفظ في هذه الجملة ستتولد جملة جديدة، أو تركيباً جديداً يحمل معنى ًمختلفاً عن معنى التركيب السابق، وهكذا.
وفي ذلك يقول عبد القاهر الجرجاني:" إنك لتجد اللفظة الواحدة قد اكتسبت فيها فوائد حتى تراها مكررة في مواضع ولها في كل واحد من تلك المواضع شأن منفرد"([34])
(يتبع)