) انكسرنا لما تكاسل العلماء عن أداء واجبهم في نصح الأمة ، والاهتمام بقضاياها ، والأخذ على يد الظالم ، وانطوى كثير منهم على نفسه ، ونسي الميثاق العظيم الذي أخذه الله على أهل العلم ، ورضي بعرض من الدنيا قليل .
قال الله تعالى : (فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ، وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ، ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ألا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه ، والدار الآخرة خير للذين يتقون ، أفلا تعقلون).
6) انكسرنا عندما غفلنا عن أعدائنا ومخططاتهم ، وانخدعنا بشعاراتهم الزائفة ، وتشدقهم بدعاوى الأمان والسلام ، فكان التتار يعطون أهل البلاد الأمان اليوم ويغدرون بهم في الغد ، ثم يسيرون إلى البلاد الأخرى فيصدقونهم ، فيفعل التتار بهم مثل ما فعلوا بإخوانهم .
7) انكسرنا بالخيانة ، عندما قام بعض بني جلدتنا بخيانة الأمة ، وفي بعض الأحداث كانت الأمة قاب قوسين أو أدنى من الانتصار ، فإذا بمسلسل الخيانات يقلب الموازين ، ويحطم ما بقي من قوة المسلمين .
لقد قام بعض الخونة بإرشاد التتار إلى العورات ومواطن الضعف في بغداد ، وقام آخرون بتسليم البلاد لأمراء التتار ، وقام آخرون بالتجسس لصالحهم ، وقام آخرون بمراسلة التتار وتحريضهم على إخوانهم ، وقام آخرون بتسليم إخوانهم المجاهدين إلى التتار ، خوفاً على أنفسهم من قاعدة (من لم يكن معنا فهو ضدنا) ، وتاجر بعض ملوك بني أيوب بقضية القدس وسلم بيت المقدس للصليبيين في مقابل الإبقاء على ملكه والقضاء على أخيه ، وقدم حاكم الموصل للتتار المدد والدعم اللوجستي كما يقال ، ثم وقف هو وجيشه مع التتار ضد إخوانه المسلمين .
انكسرنا عسكرياً بعد أن انكسرنا نفسياً ، فكان للحرب الإعلامية دور كبير في فشل المسلمين وهزيمتهم النفسية وأصبح المجتمع يردد ما يبثه الإعلام التتري من العبارات مثل : جيش التتار لا يهزم ، ليس هناك خيار سوى الاستسلام ... وكان لهذه الحرب النفسية أثر كبير في الإحباط المعنوي والانهيار الميداني .
ولهذا تقول بعض الدراسات الحديثة إن الحرب النفسية تفقد الجندي 90% من قوته .
9) انكسرنا عندما أُهمل الجيش المسلم ، ووُلِّـي عليه الخونة أمثالُ الوزير الرافضي ابنِ العلقمي ، الذي سرح الجيش وأهدر قوة الأمة التي أمر الله أن تعدها لأعدائها ، فلما هجم التتار وحل البلاء بالمؤمنين ، انكشفت هذه القوة الهزيلة ، ولم تغن عنهم شيئاً ، وصدق الله (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)
وأما الانتصار فأقول وبالله التوفيق :
1) انتصرنا لما نصرنا الله بالجهاد ذروة سنام الإسلام ، الجهاد في سبيل الله وحده بعيداً عن شعارات القومية والوطنية والعرقية ، لقد سمع الله صحية المظفر قطز وهو يصرخ ( وا إسلاماه ) ، فلما علم الله صدق النية أنجز وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده .
مضى الإسلام فابك دماً عليه وما ينفي الجوى الدمع الغزير
ولا تركن إلى سلم وجـاهد عسى أن يجبر العظم الكسير
لقد كان التتار في عين جالوت يمتلكون تفوقاً ساحقاً في العدد ، والعدة ، والتجربة العملية ، والمعنويات العالية ، واختيار الأرض ، وسرعة الحركة ، وغيرها .
لكن الله قلب الموازين ، ونصر المؤمنين ، لما نصروا الله ، وصدقوا ما عاهدوا .
وحيثما قلنا الجهاد ، فإنما نعني به الجهاد المشروع ، المنضبط بالشروط والضوابط الشرعية ، المبني على تحقيق المصلحة العامة للأمة ، بعيداً عن الأفكار المنحرفة كالغلو في التكفير ، أو الاجتهادات الخاطئة التي تنقل المواجهة داخل بلاد المسلمين .
2) انتصرنا لما خَلُصت المقاصد ، وصحت العقائد ، وتعلقت قلوب المسلمين بالله وحده ، فلم يلوذوا بالحسين ، ولم يلتجؤوا إلى البدوي ، ولم يطوفوا بالقبور والمشاهد .
أما اليوم ، فيحق لعين الموحد أن تدمع ، حينما يرى الملايين من أبناء الأمة يسيرون على خطى أبي لهب ؟
فالتوحيد التوحيد يا أمة الإسلام ، علماً وعملاً وتصحيحاً ودعوة .
3) انتصرنا لما صنعنا الرجال ، وربينا الأمة والشباب تربيةً إيمانيةً علميةً جهادية ، فآتت هذه التربيةُ أكلَها بإذن ربها ، وأخرجت للأمة أبطال الميدان ، وفرسان الإيمان . قلوبهم واعية ، وعقولهم زاكية ، وهمتهم عالية ، وسيوفهم ماضية ، كنور الدين محمود وقطز وبيبرس وغيرِهم من الأبطال .
ولنا أن نتساءل .. من أين تخرج هؤلاء الأبطال ؟
دعونا نقف قليلاً مع هذه التربية التي كانت بحق مصنعاً للأبطال .
من محاسن الأيوبيين أنهم كانوا يجلبون الرقيق الترك من بلاد ماوراء النهر وأواسط آسيا فيعلمونهم ويدربونهم على القتال حتى يصبح الواحد منهم بطلاً لايشق له غبار .
دعونا نقف قليلاً مع شيء من هذه التربية التي يصنع من خلالها الأبطال .
يذكر المقريزي أن المملوك إذا أتي به إلى السوق اشتراه السلطان ، ثم يجعل هؤلاء المماليك في مجموعات ، وتسلم المجموعة إلى المختص بالكتابة فيتعلمون الكتابة ، ثم يعلمهم القرآن والأذكار والآداب ، فإذا شب المملوك أخذ شيئاً من الفقه ، فإذا بلغ بدأ في تعلم فنون الحرب من ركوب الخيل ، ورمي السهام ، واللعب بالرمح وغيرها
وكان المملوك إذا اقترف ذنباً أو أساء أدباً عاقبه المعلم أو المدرب بالعقوبة الشديدة .
ثم يتخرج المملوك بعد هذه الدورة التدريبية الطويلة بطلاً مهاباً متأدباً بآداب الإسلام لا يجسر أحد أن يدنو منه ، ثم يعين على رتبة ، ويترقى بعدها إلى رتب أعلى حتى يصير أميراً من الأمراء .
يقول المقريزي : " فلذلك كانوا سادةً يدبرون الممالك ، وقادةً يجاهدون في سبيل الله ، وأهلَ سياسة يبالغون في إظهار الجميل ويردعون من جار أو تعدى " .
هكذا كان الأيوبيين وبعدهم المماليك يربون الأبطال ، ويصنعون الرجال ، لم يكونوا يربونهم على الأغاني والتمثليات ، ولا على المباريات ، ولا على البلوت والملهيات .. نعم .
لا بد من صـنع الرجال ومثله صنع السلاح
وصنـاعة الأبطال علمٌ قد دراه أولو الصلاح
لا يصنـع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح
في روضة القـرآن في ظل الأحاديث الصحاح
من خان على الصلاة يخون حي على الكفاح
4) انتصرنا لما اتفق المسلمون ، واجتمع شملهم ، وتناسوا الخلافات فيما بينهم ، وتحرروا من مخلفات النزاع الشخصي ، فيعفو قطز عن بقية المماليك ، ويكرم بيبرس ويدفن الخلافات الشخصية في سبيل مصلحة الأمة ، ويستعطف السلطان قلاوون عدوه أميرَ الشام سنقر الأشقر للاتحاد ضد الأعداء ، فاشتد عُودهم ، وقويت شوكتهم ، وكانوا يداً واحدة ضد أعداء الله .
5) انتصرنا لما اتحدت كلمة أولي الأمر من الأمراء والعلماء فاشتد تماسك المجتمع ، ورضي الله عن الأمراء الذين كانوا يجلون العلماء ، وينزلونهم منازلهم ، ويصدرون عن رأيهم ، ورضي الله عن العلماء الذين صدعوا بكلمة الحق ، ورغبوا الناس في التضحية والجهاد ، فاجتمع السيف بالقرآن وكان النصر لأهل الإيمان .
6) انتصرنا بالتضحية ، لما ضحينا بدنيانا في سبيل دنيننا ، فلم تلهنا الشهوات والملذات عن الاستجابة لأمر الله ، فها هو قطز وأمراؤه يتمثلون أمر العز بن عبد السلام فيحضرون الحلي والجواهر من قصورهم ، ليجهزوا بها الجيش المسلم .
نعم .. إذا لم نستطع أن نتغلب على شهواتنا ، فلا يمكن أن ننتصر على أعدائنا ، وإذا لم نتحرر من أغلال الشياطين ، فلا يمكن أن نحرر فلسطين .
إن الانتصار على التتار استنزف الدماء والأشلاء والأموال ، ولا بد أن تربى الأمة على دفع ضريبة الانتصار ، كما دفعها سلف الأمة ، الذين وصفهم الله بالتضحية والإيثار فقال ( للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون ، والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )
7) انتصرنا عندما نشرنا الدين والعلم والدعوة ، لما رفعنا راية الدين وأعلينا منزلته في نفوس الناس .
ولو نظرت في تراجم الأمراء الأيوبيين والمماليك - على ما كان فيهم من التقصير - تجد أنهم يتنافسون في نشر العلم وإقامة المدارس والأوقاف العلمية ، بل كان بعضهم يحضر مجالس العلماء ويسمع الحديث ويكرم أهله .
إن روح التدينَ وانتشارَ العلم وإن كان من أعظم أسباب استقرار المجتمع في أوقات الرخاء ، فإنه أيضاً يبقى ذخراً للأمة في الشدائد والأزمات .
انتصرنا بالقدوة الحسنة ، لما رأى الناس علماءهم وأمراءهم يتقدمون أمامهم في التضحية والبذل لهذا الدين .
فلم تكن قدوات المجتمع حفنةً من المغنين أوالممثلين أو اللاعبين واللاهين .
9) انتصرنا.. بالسلاح المعطل .. الذي هو أشد فتكاً من القنابل الذرية ، والصواريخ الجوية .. الدعاء الذي لا تصمد أمامه أيُ قوة على وجه الأرض .
عندما كان الخطباء والمسلمون في عين جالوت ، يبتهلون إلى الله بالدعاء يوم الجمعة .. عندما كان قطز يصيح بين الصفوف : اللهم انصر عبدك قطز على التتار .. عندما كان ابن تيمية يرفع بصره ، ويناجى ربه .. فاستجاب لهم ربهم ، ونصرهم على عدوهم .
وختاماً .. إنه وإن تسلط الأعداء ، واشتد البلاء ، وعظمت اللأواء ، فلله في كل زمان أوس وخزرج ، يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم .
هاهو العملاق النائم يستيقظ .. هاهو الإسلام ينتشر .. هاهي رايات الجهاد ترفرف رغم أنوف المجرمين .. هاهي بشائر النصر تلوح أمام الناظرين .. هاهم أسود الله في فلسطين والشيشان وكشمير وغيرها ينتصرون على حب الدنيا وكراهية الموت ، يجاهدون في سبيل الله ، ويرفعون لا إله إلا الله ، ويثبتون للعالم أن هذه الأمة لا تموت بحال ، ولا يضرها كيد الأنذال ، وأن رحمها ولودٌ بالأبطال .
يا أيها الأسد الكواسر أبشروا النصر لاح مع الصباح فكبروا
والانتصار لا بد له من انتصار .. (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) .. (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض والذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم ، يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصروكم ويثبت أقدامكم) .[/b]
منقول[/