كيف نكون جميعا أغنياء ؟؟؟ - الجزء الثاني
أساتذتي الأفاضل : إستكمالا للجزء الأول والذي ذكرنا في نهايته أنه وكما وضع الإسلام مبدأ التوازن الاجتماعي وحدد مفهومه، تكفّل أيضاً بتوفير الإمكانات اللازمة للدولة، لكي تمارس تطبيقها للمبدأ في حدود تلك الإمكانات .
وأول هذه الإمكانات هي : ــ
فرض ضرائب ثابتة
وهي ضرائب الزكاة والخمس. فان هاتين الفريضتين الماليتين، لم تشرعا لأجل إشباع الحاجات الأساسية فحسب، وإنما شرعتا أيضاً لمعالجة الفقر، والارتفاع بالفقر إلى مستوى المعيشة الذي يمارسه الأغنياء، تحقيقاً للتوازن الاجتماعي بمفهومه في الإسلام.
والدليل الفقهي على علاقة هذه الضرائب بأغراض التوازن، وإمكان استخدامها في هذا السبيل، ما يلي من النصوص:
أ_ عن إسحاق بن عمار: ((قال: للإمام جعفر بن محمد أعطي الرجل من الزكاة مئة؟ قال: نعم. قلت: مائتين؟. قال: نعم قلت: ثلاثمائة؟ قال: نعم. قلت: أربعمائة؟ قال: نعم. قلت خمسمائة؟ قال:
نعم، حتى تغنيه)) .
ب_ عن عبد الرحمن بن حجاج: ((قال: سألت الإمام موسى بن جعفر (ع): عن الرجل يكون أبوه وعمه أو أخوه يكفيه مؤونته، أيأخذ من الزكاة فيوسع بها، إن كانوا لا يوسعون عليه في كل ما يحتاج إليه؟ فقال: لا بأس) .
جـ_ عن سماعة: ((قال: سألت جعفر بن محمد (ع) عن الزكاة هل تصلح لصاحب الدار والخادم؟ فقال الإمام: نعم)) .
د_ عن أبي بصير: ((أن الإمام جعفر الصادق (ع) تحدث عمن تجب عليه الزكاة، وهو ليس موسراً. فقال: يوسع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم، ويبقي منها شيئاً يناوله غيرهم. وما أخذ من الزكاة فضه على عياله حتى يلحقهم بالناس)) .
هـ_ عن اسحاق بن عمار: ((قال: قلت للصادق (ع) أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهماً؟. قال نعم، وزده. قلت: أعطيه مئة؟. قال نعم( )واغنه. إن قدرت على أن تغنيه)) .
و_ عن معاوية بن وهب: ((قال: قلت للصادق(ع) يروى عن النبي: أن الصدقة لا تحل لغني، ولا لذي مرة سوي. فقال: لا تحل لغني)) .
ز_ عن أبي بصير: ((قال: قلت للإمام جعفر الصادق (ع) أن شيخاً من أصحابنا يقال له عمر، سأل عيسى بن أعين وهو محتاج، فقال له عيسى بن أعين: أما أن عندي من الزكاة، ولكن لا أعطيك منها، لأني رأيتك اشتريت لحماً وتمراً. فقال له عمر: إنما ربحت درهماً فاشتريت
بدانقين لحماً وبدانقين تمراً ثم رجعت بدانقين لحاجة.. (تقول الرواية أن الإمام حينما استمع إلى قصة عمر وعيسى بن أعين، وضع يده على جبهته ساعة، ثم رفع رأسه) وقال: إن الله تعالى نظر في أموال الأغنياء ثم نظر في الفقراء، فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به. ولو لم يكفهم زادهم. بل يعطيه ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوج ويتصدق ويحج)) .
حـ_ عن حماد بن عيسى: ((أن الإمام موسى بن جعفر (ع) قال _ وهو يتحدث عن نصيب، اليتامى والمساكين وابن السبيل من الخمس_: أن الوالي يقسم بينهم على الكتاب والسنة، ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شيء، فهو للوالي. فان عجز أو نقص عن استغنائهم، كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به)) .
وكتب ابن قدامة يقول: (قال الميموني: ذاكرت أبا عبد الله فقلت: قد تكون للرجل الإبل والغنم تجب فيها الزكاة وهو فقير وتكون له أربعون شاة وتكون له الضيعة لا تكفيه فيعطى من الصدقة؟ قال: نعم، وذكر قول عمر أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا. وقال: في رواية محمد بن الحكم إذا كان له عقار يشغله أو ضيعة تساوي عشرة آلاف أو أقل أو أكثر لا تقيمه يأخذ من الزكاة. وهذا قول الشافعي) .
وقد فسر ابن قدامة ذلك بقوله: (لأن الحاجة هي الفقر والغنى ضدها فمن كان محتاجاً فهو فقير يدخل في عموم النص ومن استغنى دخل في عموم النصوص المحرمة) .
فهذه النصوص تأمر باعطاء الزكاة وما إليها، إلى أن يلحق الفرد بالناس، أو إلى أن يصبح غنياً، أو لإشباع حاجاته الأولية والثانوية من طعام وشراب وكسوة وزواج وصدقة وحج، على اختلاف التعابير التي وردت فيها.
وكلها تستهدف غرضاً واحداً، وهو تعميم الغنى بمفهومه الإسلامي، وإيجاد التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة.
وعلى هذا الضوء نستطيع أن نحدد مفهوم الغنى والفقر عند الإسلام بشكل عام. فالفقير هو من لم يظفر بمستوى من المعيشة، يمكنه من إشباع حاجاته الضرورية وحاجاته الكمالية، بالقدر الذي تسمح به حدود الثروة في البلاد. أو هو بتعبير آخر: من يعيش في مستوى تفصله هوة عميقة عن المستوى المعيشي للأثرياء في المجتمع الإسلامي. والغني من لا تفصله في مستواه المعيشي هذه الهوة، ولا يعسر عليه إشباع حاجاته الضرورية والكمالية بالقدر الذي يتناسب مع ثروة البلاد، ودرجة رقيها المادي، سواء كان يملك ثروة كبيرة أم لا.
وبهذا نعرف أن الإسلام لم يعط للفقر مفهوماً مطلقاً، ومضموناً ثابتاً في كل الظروف والأحوال، فلم يقل مثلاً: إن الفقر هو العجز عن الإشباع البسيط للحاجات الأساسية. وإنما جعل الفقر بمعنى عدم الإ لتحاق في المعيشة بمستوى معيشة الناس، كما جاء في النص. وبقدر ما يرتفع
مستوى المعيشة يتسع المدلول الواقعي للفقر لأن التخلّف عن مواكبة هذا الإرتفاع في مستوى
المعيشة يكون فقراً عندئذ. فإذا اعتاد الناس مثلاً على استقلال كل عائلة بدار، نتيجة لاتساع العمران في البلاد، أصبح عدم حصول عائلة على دار مستقلة لوناً من الفقر بينما لم يكن فقراً، حينما لم تكن البلاد قد وصلت إلى هذا المستوى من اليسر والرخاء.
وهذه المرونة في مفهوم الفقر، ترتبط بفكرة التوازن الاجتماعي، إذ ان الإسلام لو كان قد أعطى_ بدلاً عن ذلك_ مفهوماً ثابتاً للفقر، وهو العجز عن الإشباع البسيط الحاجات الأساسية، وجعل من وظيفة الزكاة. وما إليها علاج هذا المفهوم الثابت للفقر، لما أمكن العمل لإيجاد
التوازن الاجتماعي في مستوى المعيشة عن طريقها، ولا تسعت الهوة بين مستوى عوائل الزكاة وما إليها، ومستوى المعيشة العام للأغنياء، الذي يزحف ويرتفع باستمرار، تبعاً للتطورات المدنية في البلاد وزيادة الثروة الكلية. فإعطاء مفاهيم مرنة للفقر والغنى، ووضع نظام الزكاة وغيرها لصالح التوازن الاجتماعي العام .
وإلى اللقاء بمشيئة الله تعالى في الجزء الثالث .