أسامة غريب
لم يعد حتى أشد الناس محافظة وتأدبا يستطيعون منع أنفسهم من السؤال: ما الذى يجعل رجال الشرطة يحملون كل هذا الحقد والغل تجاه شعب مصر ممثلا فى شبابها الثائر فى التحرير وميادين الثورة الأخرى؟ ما الذى يدفعهم إلى استنهاض كل الهمم الراقدة داخلهم وإيقاظ كل طاقة الغضب لتوجيهها نحو أبناء مصر، وهم الذين يعيشون منذ عشرة أشهر حالة رقاد متصلة وصلت إلى مرحلة من التفشيخ جعلت أبناء البلد من ثوار الميدان يقولون إن جانبا من رجال الشرطة لا يقوون على أداء الواجب ومطاردة اللصوص، لأنهم بعد 25 يناير أصبحوا يحيضون مثل النساء؟! وهو ما يدفع إلى سؤال حول ما الذى جعلهم ينتفضون رغم الآلام ويندفعون بقوة عند أول طلب لمواجهة التظاهرات السلمية لشباب التحرير. من أين واتتهم كل هذه القوة العفاريتى فجعلتهم يعمرون البنادق ويملؤونها بما لذ وطاب من رصاص حى ومطاطى وخرطوش، ويجهزون قنابل الغاز المسيلة للدموع ثم يستبدلون بها بعد ذلك قنابل غاز الأعصاب المحرم استخدامه فى الحروب؟ لا بد أن هناك سببا قويا حفزهم على ترك حياة الدعة والهدوء وقبض المرتب دون عمل بعد أن زادت الرواتب وأصبحت الأشيا معدن بفضل ثورة 25 يناير، التى قتلوا أبناءها فزادت مرتباتهم! خاض المحللون فى الأسباب والدوافع فقالوا إن الشرطة لم تنس ثأرها عند شعب مصر الذى تجرأ على أن يطلب من رجال الشرطة أن يكونوا بنى آدمين ويعملوا وفقا للقانون دون استخدام العنف والسفالة وقلة الأدب.
بطبيعة الحال رجال الشرطة الشرفاء موجودون وعددهم ليس قليلا كما يظن البعض، لكن المأساة أن صوتهم خفيض وتأثيرهم على صنع القرار فى وزارة الداخلية محدود، ذلك لأن الشرف واحترام الضابط لنفسه وأهله لم يكن من مسوغات الترقية ونيل المكانة خلال السنوات الماضية وحتى الآن. نعود إلى الأسباب التى يتداولها شعب مصر حول الوحشية الملحوظة فى التعامل مع المتظاهرين لدرجة استخدام غازات محرمة دوليا جربتها شخصيا مساء الأربعاء فى ميدان التحرير، واستنشقت منها جرعة أصابتنى بإغماءة وكادت أن تودى بحياتى. يقول البعض إن المجرمين من رجال حبيب العادلى الذين ما زالت لهم الكلمة الفصل يعتبرون الشعب المصرى عدوا يجب عليهم تأديبه وإهانته ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، لأن هذا الشعب تجرأ على أسياده -كما صرح بذلك أحد القتلة من مدراء الأمن- ولم يكتف الشعب بهذا وإنما حاول القضاء على الغطرسة الشرطية والعنجهية والكبرياء الزائف لدى السادة عبيد المأمور، وأصبح يطلب من الشرطة أن تعامله وفقا للقانون.. ويقولون أيضا إن العداء سببه الحقد على الشعب الذى ثار فى وجه الشرطة فى يوم عيدها، الذى اعتادت أن تحتفل به مع مبارك كل عام، ويقولون كذلك إن الشرطة تكره الشعب لأنه أرغمها على تغيير الشعار السخيف الذى وضعوه على الأقسام الذى يقول إن الشرطة والشعب فى خدمة سيادة القانون! وهو شعار يدل على وساخة مخترعه وقلة عقله لأن الشعب لا يخدم سيادة القانون، وإنما القانون يوضع لرعاية مصالح الناس. ويفتى بعض الناس بأن السبب فى كراهية الشرطة للشعب وتقاعسها عن حمايته واستجابتها فقط لقمعه يعود إلى اضطرار كلية الشرطة تحت ضغط الثورة إلى قبول نوعيات من المصريين لا تحترمها وزارة الداخلية ولا تعترف لأبنائها بأى حقوق مثل أبناء سيناء ومرسى مطروح وأسوان والنوبة. هذه هى بعض الأسباب من وجهة نظر الشارع المصرى، لكننى مع شديد احترامى لأصحابها وللمنطق الكامن فيها لا أراها السبب الحقيقى وراء كل هذا الغل والعدوانية، وإنما يعود الأمر كما أوضحه لى أحد أمناء الشرطة إلى سبب آخر أهم من كل ما سبق وهو انقطاع «الإيراد» وهو مصطلح يعنى حصيلة الإتاوات اليومية التى كان يتم فرضها على المصريين، وكان يتكفل الأمناء بجمعها ووضعها فى حجر ضباطهم قبل أن يتم تقسيمها وتوزيعها بأنصبة وأسهم على الفاسدين من رجال الشرطة كلُ حسب رتبته!.. قال لى الأمين الذى يحلم بأن يسترد إنسانيته إن سر الغضب والنقمة على الناس والتقاعس عن أداء العمل أن العمل الشرطى لم يعد يأتى بفلوس كالسابق، وإن المرتب أصبح هو كل ما يتحصلون عليه، وهذا يتم قبضه فى كل الأحوال ودون الاضطرار إلى تحقيق الأمن للناس. وقد دلل الأمين على صحة كلامه بأن ضرب لى مثالا واضحا يتعلق بالكمائن الشرطية التى كانت موضوعة على مداخل المقطم من جميع الجهات.. من صلاح سالم والمعادى ومدينة نصر والهضبة الوسطى.. كلها قد رحلت ولم يعد لها وجود، والسبب أن الأصل فى وجودها كان هو البرطلة وفرض الإتاوات التى تجرأ الناس على عدم دفعها بعد الثورة. قال الأمين كذلك إنه لا يوجد سبب لكراهية الضباط الفاسدين للمصريين أهم من ذلك، لأنهم اعتادوا على حياة الباشوات التى لا يمكن الوفاء بمقتضياتها بالمرتب فقط، أما مسائل القمصة من أجل الكبرياء والهيبة وسائر هذه الأشياء فغير حقيقى بالمرة، لأنه لا كبرياء ولا كرامة عند من وضعوا أنفسهم فى خدمة الأغنياء فقط، وعند من اعتاد على أن يأكل لقمته من البلطجة.
انتهى كلام الأمين ولم ينته ضرب المصريين بالرصاص والأسلحة الكيماوي