بعض الملامح السندبادية في الخطاب الشعري العربي المعاصر
الحلقة الأولى التوظيف غير المباشر
محمد عبد الرحمن يونس
تعمل الأسطورة على إعطاء تفسير شبه منطقي لتجارب الإنسان في حياته
اليومية (1). و لذا فهي تنمو عبر الزمن مع امتداد تجارب هذا الإنسان داخل فضاء هذا الزمن، و هي ترافق تاريخه ماضياً و حاضراً، و استخدامها في كثير من الأحيان يكون ذا قيمة تاريخية، لأنه يشير إلى المواقف التاريخية و معادلها في الحياة الإنسانيّة المعاصرة.
و يعتقد كلود ليفي شتراوس(2) بأن » التاريخ في مجتمعاتنا )...) قد حلّ محل الميثولوجيا
و هو يؤدي نفس الوظيفة «، و توظيفها في الخطاب الشعري العربي المعاصر يعمل على تعرية التاريخ، و يشير إلى الممارسات اللاّإنسانية ضدّ الإنسان في تاريخه الطويل، و لذا نجد كثيراً من الشعراء يستخدمونها كأداة معرفية لإدانة الهزائم المتلاحقة التي رافقت تاريخ الإنسان ماضياً و حاضراً، و لا يخلو هذا التوظيف من رؤية إيديولوجية تظهر في بنية خطابهم الشعري. وعلى الرغم من رفض كثير من الشعراء المعاصرين لخطاب الإيديولوجيا و بنيته المعرفية أثناء تنظيرهم لحركة الشعر العربي المعاصر و قضاياه و فضاءاته اللغوية
و المعرفية المتعددة فإن هذا الخطاب كان يظهر في أعمالهم الشعرية و بشكل واضح أحياناً و مرمّز أحياناً أخرى، و لم يستطيعوا التخلص من قسمات هذا الخطاب ، حتى يمكن القول إنّ قدر القصيدة العربية المعاصرة في صراعها مع الواقع، و بنيات هذا الواقع الفاسدة سياسياً و اجتماعياً، أن يرتبط بالإيديولوجيا و لو مرحلياً، و لا أقصد الإيديولوجيا التقريرية الخطابية، ذات الصراعات الحزبية و السياسية، بل أقصد الإيديولوجيا كبنية معرفية
و ثقافية. و عندما يصبح الواقع المعاصر أكثر نقاء، و الانسان فيه أكثر حرية و كرامة عندئذ قد تتخلى هذه القصيدة عن اتكائها على الإيديولوجيا كمرجع، و كفضاء ثقافي و معرفي تنهل منه. و يرى رولان بارت أنّ النص بحاجة إلى الإيديولوجيا التي هي ظلّ له، يقول(3): » بعضهم يريد نصّاً (فنّاً، لوحة) لا ظلّ له، مقطوع الصلة بـ
» الإيديولوجيا السائدة« ، و لكنّ ذلك يعني أنّهم يريدون نصّاً لا خصوبة فيه و لا انتاجية، نصاً عقيماً (...) إنّ النص في حاجة إلى ظلّه: و هذا الظل هو قليل من الإيديولوجيا، قليلٌ من الذات: أشباحٌ، جيوب، نُثار، غيوم ضرورية «.
و من الشعراء الذين يستخدمون فكرة الأسطورة لإدانة تاريخ الإنسانية المعاصر، الشاعر المغربي بن سالم حميش.
يقول في قصيدة بعنوان » ميتاً في شواطئكم «:
» حيث لا ينفع الغيث لا ينفع
لم يعد في وسعي سوى اجترار محراثي
في الطرق المعبّدة و الصّحارى.
و أصقاع هذا البلد الضّنين
و بين الكبوة - و الكبوة
أحكي الجسم الجائع
أكتب بالصوت بالصوت تاريخ السلب و الفجيعة
أكتب الكوارث الكوارث
و أحدّث
أحدثكم عن مطافي في الأرض الجدباء
(بعد ما فُصلت عن التربة الخصبة و الماء)
و أحدّث عن نهاية مطافي
ستجدون ميتاً في شواطئكم
بين محراث و مبخرةٍ و غراب «(4).
كلما كانت الأسطورة ذات صلة حميمية بالمتلقي صارت أقرب إلى مكنونات نفسه،
و أسطورة السندباد من أكثر الأساطير الإنسانية حميمية و قرباً إلى النفس البشرية، باعتبارها معروفة عند معظم البشر من القرّاء و المثقفين، و باعتبارها أقرب إلى الحكاية الشعبية،
و جموح خيالها العفوي، » فالحكايات الشعبية ببساطة هي أنماط مجردة و غير معقدة،
و يسيرة التّذكّر، و لاتقف في طريق فهمها عقبات اللغة و الثقافة كما لا يتوقف تدفق الطيور المهاجرة عند اجراءات ضبّاط الجوازات في الموانئ و المطارات، و تتكون من موضوعات دالّة Motifs ذات تداخل متباين و متمايز بحيث يمكن حصرها و توظيفها «(5).
قد يقول قائل إن القصيدة السابقة من النثر البارد، بالإضافة إلى بعض العبارات التقريرية و الألفاظ المكرورة التي لا تحمل سمة الشعر، و إن صاحبها غير معروف على الساحة المغربية و العربية كشاعر مبدع، و بالتالي لا تصلح نموذجاً للدراسة.
تلك أمور لا أنوي الخوض فيها لأنها تتعلق بقضايا الشكل الشعري. إن ما يهمني في هذه الدراسة قضايا المضمون بالدرجة الأولى و تحديداً الملمح الأسطوري و امتداده و تشعّبه داخل فضاء الرؤية الشعرية، لا باعتبار النص الشعري بنية شكلية و موسيقية إيقاعية، بل باعتباره بنية مضمونية. و السؤال الذي يمكن أن يطرح نفسه، و هو ما يهمني هنا: هل استفاد الشاعر بن سالم حميش في قصيدته » ميتاً في شواطئكم «من الموروث الأسطوري و وظّف أسطورة أو حكاية السندباد ؟.
إنّ الاستعمال النصّي المباشر للأسطورة لا يظهر في القصيدة، لكنّ اختفاءه لا يعني عدم وجوده، فثمّة مؤشر قوي يشير إلى أنّه استفاد من أسطورة السندباد في ترحاله و تطوافه، و يطلق نورثروب فراي على هذا الاستخدام الأسطوري غير المباشر اسم
الاستبدال Displacement. (6).
إنّ تطواف الشاعر في الأرض البعيدة الجدباء يشير إلى الرحلة السندبادية إلى بلدان نائية في أطراف الأرض، و رحلة السندباد الشاعر هي رحلة كشف إلى أعماق التاريخ الانساني و رصد للهزائم و المآسي الفاجعة التي أصابت و لا تزال تصيب الإنسان عبر سيرورته، فالإنسان في عالمنا مقموع أنّى وجّه طرفه، فشلٌ و إخفاقات على شتّى أصعدة حياته، حزن أسود يسِمُ حياته المعاصرة برمّتها، و تتجسد الرؤية السندبادية المعاصرة للتاريخ المعاصر بأبعاد ثلاثة: الجدب - الموت - الكوارث، و ما يرافقها من دلالات لغوية مقاربة لها، فتاريخ السلب و الفجيعة في الرؤية الشعرية يفقد الغيث قدراته سواء على مستوى الخصب و العطاء أو على مستوى التبشير بمستقبل يحمل إرهاصات التحوّل و الولادة الجديدة.
إنّ الرؤية السندبادية المعاصرة تكشف مدى بؤس الإنسان المعاصر و معاناته القاسية داخل التركيبة الإجتماعية بقيَمها و رؤاها حيث يعايش هذا الإنسان حالة استلاب قاسية تصل حدّ الفجيعة، و مهمة الصوت السندبادي إدانة هذه الحالة الفاجعة: » أكتب بالصوت بالصوت تاريخ السلب و الفجيعة «. و لماذا يُستلب الإنسان داخل هذه التركيبة الاجتماعية ؟. إنّه التفاوت الطبقي و الاجتماعي في مجتمع يقوم أساساً في تركيبته، على تكريس هذا التباين، حيث استغلال الإنسان للإنسان و تزايد ظاهرة الشرّ و الجوع و الفقر. هذا التفاوت الحاد يفرض الاستغلال الذي بدوره يولّد مرارة، و إحساساً بالظلم و الفجيعة، فالّذين يبنون الحياة بشرف ينزوون مرميين على هامشها لا يكسبون إلاّ اليأس و الفتات في » بلد ضنّين « على حدّ تعبير الشاعر. لا يقرر النص الشعري ذلك علناً، و ليس من مهمته أن يقرّر الرؤى السابقة، لكنّه يقتبس منها و يحيل إليها بشكل رمزي، فالنص » هو نسيج من الاقتباسات
و الإحالات و الأصداء، و أعني من اللغات الثقافية السابقة أو المعاصرة التي تخترقه بكامله (…) أمّا الاقتباسات التي يتكوّن منها النص فهي مجهولة الإسم و لا يمكن ردّها إلى أصولها. و مع ذلك فقد سبقت قراءتها. إنّها اقتباسات لا تقدّم نفسها كذلك
و لا توضع بين أقواس« (7).
إنّ قصيدة الشاعر بن سالم حميش بالرغم من بنيتها المشحونة بالسوداوية و اليأس
و الفجيعة فإنها ذات رؤية إنسانية، لأنّ الصوت السندبادي فيها يقف شاجباً و معرّياً تاريخ السلب و الفجيعة. إنّه العين التي رأت و كشفت، و من ثمّ أدانت الزمن المستلب الغارق بالكبوات و الكوارث. إنّ الرحلة السندبادية هنا ترفع شراع الإنسان و رايته باعتباره هدفاً أسمى، فيلتزم الصوت السندبادي بالكتابة لأجل الإنسان المفجوع، و يقدّم رؤيته للأرض القاحلة الجدباء. هو صوت ثائر يقف رافضاً الزمن الغارق بالبؤس، لكنّه في نهاية المطاف جزء من الثورة العربية المُجْهَضَة في جميع أحلامها و توجهاتها، و لذا فهو في نهاية الرحلة يموت على رمال الشاطئ قبل أن يوقظ المدينة الغافية. و في القصيدة يُفجع التاريخ المعاصر بأبنائه المنتقلين من كارثة إلى أخرى، التائهين في الأرض الجدباء. هذا التاريخ الأسود لأمّة متراجعة على جميع الأصعدة: في الحرب، و الفكر، و الاقتصاد، و السياسة و ما يرافق هذا التاريخ من هزائم و خيبة تحاصران الذّات العربية في كل الأزمنة و الأمكنة المعاصرة. و مهمة الصوت السندبادي أن يعيد للحياة توهجها و إشراقها، و أن يدخل بها إلى زمن الولادات الصحيحة، زمان الخصب، إنّه يعرّي الأشياء، يسمّيها، دون لجوء إلى زيف أو مراوغة أو تضليل، فـ »في التسمية قد تنتصر على الأشياء، لأنّك بذلك تفهمها، تقيّمها. و بذلك تفعل، كأنّك تدعو إلى تجاوزها بخلق أشياء جديدة أخرى «(
.
إنّ رؤية الشاعر تنبثق من تلك الهوّة الفاصلة بين ما هو قائم، و بين ما هو مرجوّ حصوله في المستقبل، إنّها تحمل همّ إعادة تشكيل الحياة، و العلاقات، و صياغتها وفق بنى سليمة. و التوظيف الأسطوري غير المباشر هنا، يساير حركة التاريخ ليدلّ عليها من حيث الرؤية المأساوية المتجسّدة في فشل طموح السندباد المعاصر على التواصل في الزمان الأسود، زمان التاريخ المخطوط بالفاجع و السواد.
و نأخذ نموذجاً آخر من النماذج الشعرية المعاصرة، التي استفادت من الرحلة السندبادية، وهو للشاعر سليمان العيسى. يكتب الشاعر العيسى قصيدة بعنوان » السندباد يروي حكايته الثامنة «. و هو لايعني فيها إلاّ ذاته الشعرية المستكشفة ً لبنيات الخطأ و الصواب في العالم العربي من خلال أعماله الشعرية الكثيرة، باعتبارها تشكّل عنده ذاتاً متعالية عالمة عارفة بمجتمعها و بنياته، و تاريخه التراثي و الثقافي. هذه الذّات التي تسافر إلى أعماق التراث الشعري العربي عبر رحلة مضنية يحفظ فيها الشاعر سليمان العيسى آلاف الأبيات الشعرية، ثم يبدع آلاف الأبيات الأخرى من خياله الإبداعي الجامح. و رحلة هذه الذات هي رحلة لبناء الوطن الكبير كما يؤكّد الشاعر. يقول في القصيدة:
» سافرت تحت التين و الرمّان و الزيتون
على جواد عنترة
و الملك الظّاهر و الكتائب المظفّرة
مررت بالمعلّقات العشر،
بالنّفائس المدّخرة
حَفِظْتُ من أبياتها الآلاف
أضفْتُ من خيالي الآلاف
أحسست أن رأسي الصغير
يخترق الغيوم
يدق بالنجوم
يبني بجذع التينة الصفراء،
يبني الوطن الكبير « (9).
هذه الذّات المتعالية تسهر و تبدع و تشكّل القصائد الجميلة، و تقرأ
- باجتهاد و تعب - التراث الشعري العربي من المعلّقات العشر إلى المتنبي فأبي تمّام، لكنها تستكشف كيف أنّ الشعراء العرب يبيعون قصائدهم، و تنحني شفاههم لتقبيل أحذية الحكّام تملّقاً و رياءً، إنّهم يسألون العطاء بذلٍّ و مهانة، و بلا حياء. ثم تعود هذه الذّات باكية هذه النماذج الشعرية الرائعة الّتي تفقد روعتها و جمالها لأنّها مكتوبة لأجل خليفة، أوحاكم.
يقول الشاعر في نفس القصيدة:
» سهرت حتى تعب السّهر
على جفوني و اشتكى القمر
سهرت في مناجم العظام
في المتنبي، في أبي تمّام
رأيت كيف تنحني الشفاه
و تسجد الجباه
على حذاء » صنم «
على خيال درهم
تسأل، تستعطي بلا حياء
تمرِّغ السماء
في العتبات، السّود و البيض على السّواء
و عدّت أبكي روعة النّغم
يذوب في » صنم «
يُعملق القزم
و في يديه أبداً سؤال
و مِدحةٌ .. تستمطر النوال «(10).
و بعد رحلته الجّادة و الصعبة في مناجم العظام، و التي تشير إلى موقفه باعتباره شاعراً ملتزماً وهب نفسه للعلم و المعرفة و الشعر و حبّ الوطن - كما تفصح ذاته الشعرية من خلال القصيدة - يكتشف و بدهشة بناءً يغيب في الفضاء، و يطاول السماء. هي الدهشة السندبادية التي كانت تصيب السندباد عندما كان يصل إلى المدن البعيدة، و يكتشف عظمتها و بنيانها الرائع. » و لم يزل الفلك منحدراً مع الماء الجاري (...) إلى أن رسا بي إلى جانب مدينة عظيمة المنظر مليحة البناء فيها خلق كثيرون .« .«(11).
و يشير الشاعر سليمان العيسى بهذا البناء الفذّ الذي يكتشفه، إلى الشاعر أبي العلاء المعرّي، الذي يجد العزاء عنده، باعتباره صاحب رؤية شاعرية شامخة، و لأنّه لم ينحنِ لطاغية أو متسلّط، فهو منارة الشعر العربي المضيئة ومدينته التي يستمد من نورها الإبداعي و المعرفي، كل من جاء بعدها، ومن يجيء.
يقول الشاعر في نفس القصيدة:
» و ذات يوم راعني بناء
يغيب في الفضاء
يطاول السماء
كان بلا رفاق حسان
بلا نقوش تزحم الجدران
كان البناء الفذّ من حصير
و ظامئين ازدحموا
و في العيون نهم
يصغون في صمت إلى ضرير
يشمخ كالتاريخ، كالمنار
يوزّع الأبصار
و أبداً يضيء
لكلّ من جاء، و من يجيء ..
ينداح في الزمان و المكان
ينداح من معرّة النعمان « (12).
و إذا كان السندباد البحري في الأسطورة يعود سالماً غانماً، يعيده الشوق الجارف إلى بغداد و فضائها الجمالي بخلاّنه و جواريه، و قصوره. فإنّ الشاعر سليمان العيسى يعود من رحلة الخلود و البحث و المعرفة إلى بلده شريداً طريداً، هذا البلد الذي يشير به إلى فضاءات العالم العربي بمدنه و بلدانه، ليجد في هذا العالم الأسوار و العوائق، عندئذ يشتعل الشاعر ثورة و نقمة على هذا الحاضر الذليل، الحاضر الجثّة الميتة بتسميات الشاعر. يقول:
» و عدت من مناجم الخلود
مشرَّداً عن بيتي القرميد
في بلدي طريد ..
كيف يكون المرء في منزله طريد ؟
كيف تدقّ رأسه الأسوار و الحدود
أنّى مشى .. الأسوار و الحدود.
في وطن الآباء و الجدود ؟
كيف ؟ سؤال لم يزل يرود
أعماق أعماقي بلا جواب
و إنني لأعرف الجواب
أعرفه .. لأنّه أوضح من نهار
أعرفه ما دقّت الأسوار
رأسي الذي يرفعه إعصار
من ألمٍ، من نقمةٍ، من نار
لكي أقول: لا،
لهذا الحاضر الذليل
لكي أهزّ الجثّة القتيل ««(13).
و عبر رحلته الطويلة في ذاكرة التراث لشعري العربي قديماً، و بعد عودته حديثاً إلى حاضره الذليل، وجد أنّ هذا الحاضر هو الآخر محكوم بالدمى التي تحولت إلى آلهة رفعها »الحواة «، و قصائد المديح المبتذلة فوق عروش هذا الحاضر. هو الشاعر الملتزم الذي رفض أن تثيره أية دمية يعلوها تاج - كما يؤكّد - في هذا الحاضر الذليل، و بالتالي هو يعلو - ضمنياً - على شعراء حاضره و زمنه، و يرفض أن يحوّل شاعريته التي حفظت آلاف الأبيات، و أبدعت آلاف الأبيات الجديدة، إلى سلّم وظيفي تصعد عليه هذه الدمى إلى عروش السلطة و الحكم، و من ثمّ تعبُّ في دمه، و دماء أهل المعرفة، و المبدعين أمثاله. يقول في نفس القصيدة السابقة:
» رأيت ألواناً من » الدُّمى «
يرفعها »الحواة « حتى تنطح السما
يرفعها »الحواة « «فوق الحكم و العروش
ما أكثر الأرباب و العروش
فوق ثرانا الطيّب الحزين !
يسارها المحموم كاليمين
قطيع جائعين
لمقعد أذلّ من وَتِدْ
على حطام الوطن اقتُعِدْ
و لم تثرني »دمية « بتاج
تعبُّ في دمي « (14).
وأعرض نموذجاً آخر من التوظيف الأسطوري غير المباشر لشخصية السندباد الأسطورية، و هو قصيدة بعنوان السفر للشاعر اللبناني يوسف الخال. و فيها يوظّف أسطورة السندباد دليلاً على تأكيده أهمية الحضارة و الفكر الأوروبيين، إذ يؤكّد يوسف الخال ضرورة الانفتاح صوب العالم الأوروبي، و تمثّل ثقافاته و أفكاره، و تبادل التأثير
و التأثّر معه.
من المعروف أنّ لبنان أكثر البلدان العربية تفاعلاً مع حضارة أوروبا و تأثّراً بها سواء على مستوى التجارة أو الثقافة. و علاقات لبنان الثقافية مع أوروبا علاقات وثيقة، إذ أنّ تأثير الثقافة الأوروبية على الفكر و الأدب و الفن في لبنان، أعمق من تأثيرها على بقية بلدان العالم العربي، هذا إذا استثنينا تونس و الجزائر و المغرب بعلاقاتها المتميّزة مع أوروبا، بحكم موقعها الجغرافي من جهة، و بفعل الإستعمار الفرنسي و الإسباني من جهة أخرى، و بفعل حركة الترجمة الناشطة و المزدهرة في هذه البلدان، و بخاصة في العشرين سنة الماضية.
إنّ العلاقات الثقافية بين لبنان و أوروبا هي:
»علاقات ترجع إلى القرن الثاني عشر، حين استولت فرنسا على جزيرتي قبرص و » رودوس «، فازدهرت فيهما الفنون و الآداب الفرنسية، و هبّت رياحها على لبنان بحكم قرب الجزيرتين من الشاطئ اللبناني، ثم بحكم ما في الثقافة الفرنسية ذاتها من قابلية للبحث و الالتقاط. ثم أخذ نفوذ الثقافة الغربية في لبنان يميل إلى الشمول في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، و لم يعد مقصوراً على الثقافة الفرنسية. و يرجع السبب في هذا إلى انتشار الكليّات و الإرساليات و المدارس الدينية التي تنافس المُرسلون من اليسوعيين و الأمريكيين على إقامتها في بيروت و الجبل. و قد كانت هذه المؤسسات التبشيرية بالغة الأثر في النشء اللبناني من حيث عملت على تثقيفه على الطرائق الأوروبية و توكيد الصلة بينه و بين الآداب الغربية، و بعبارة أخرى: خلقت من بعض اللبنانيين نمطاً أوروبي الفكر و الثقافة،
و من ثمّ تعمّقت تلك الهوّة بين الثقافتين العربية و الغربية في لبنان، و وصل الأمر بينهما إلى حدّ الصراع الظّاهر حيناً، الخفيّ أحياناً « (15).
و يعتبر يوسف الخال و سعيد عقل من أكثر الشعراء اللبنانيين، بل العرب،
- في مرحلتهما الزمنية الشعرية - تأثّراً بالفكر الأوروبي و اتجاهاته و تياراته، و خروجاً بالشعر العربي عن لونه القديم، و حدوده التراثية و صياغته التقليدية. و من داخل دائرة التأثّر بالفكر الأوروبي و تياراته، يدعو الشاعر يوسف الخال إلى ضرورة تمثّل الحداثة عبر عقليّة حديثة، باعتبار هذه الحداثة موقفاً كيانياً من الحياة. إنّها تتجسّد »في كلّ شيء، لا في الشعر وحده. » و هي « موقف كياني من الحياة في المرحلة التي نجتازها، فهي ليست أشكالاً يقتبسها الإنسان لأنّ المهمّ هو ما وراء الأشكال و الأزياء، هذا الما وراء هو مانسميه بالعقلية، فإمّا أن تكون ذا عقلية حديثة أو لا تكون، بمعنى أن تأخذ بالجوهر لا بالمظهر «(16). و هذه العقلية الحديثة لا يكتمل بناؤها العقلي و المعرفي، و لا تصبح حديثة إلاّ إذا انتمت إلى الحضارة الأوروبية، التي هي حضارة الفرنسي و الألماني و الروسي، و يرى الخال أنّه لا قيمة للإنسان العربي، إذا بقي خارج هذه الحضارة، و إذا لم يتفاعل معها و يتأثّر بها (17).
و لذا يتّخذ السندباد المعاصر من الرحلة في أعمال يوسف الخال انفتاحاً صوب العالم،
و صوب هذه الحضارة.
يقول الشاعر يوسف الخال في قصيدة بعنوان: « السفر »:
« وفي النهار نهبط المرافئ الأمان
والمراكب الناشرة الشراع للسفر
نهتف يا، يا بحرنا الحبيب، يا
القريب كالجفون من عيوننا
نجيء وحدنا،
...
أخبرنا الرعاة ههنا
عن جزر هناك تعشق الخطر
وتكره القعود والحذر
عن جزر تصارع القدر
وتزرع الأضراس في القفار مدناً،
حروف نورٍ تكتب السير
وتملأ العيون بالنظر.
بها، بمثل لونها العجيب يحلم
الكبار في الصغر.» (17).
يقول بيتر باخمان (18): » من الواضح أنّ اللبنانيين الذين يرجعون بأصولهم الأولى إلى الفينيقيين، من الواضح أنّ مجالهم هو الإبحار أو الرحيل عبر البحار.». فالسندباد المعاصر و رفاقه البحّارة عند يوسف الخال يبحرون صوب حضارة أوروبا - باعتبارها حضارة العلم و المعرفة، و الحرية - بمراكبهم التي تحمل الزجاج، و الصنوبر، و الحرير، و الخمور، ثم يبادلون هذه البضائع بمعطيات أوروبا الحديثة من ثقافة و فكر و حضارة، و هذا السندباد هو الآخر فاعل في الثقافة و الحضارة الأوروبية،
و ليس مجرّد مستهلك لها، بل إنّه متكافئ معها أخذاً و عطاءً على مستوى التفاعل التجاري
و الثقافي، و لذا فهو ليس مستلباً أمامها، بل فعّالاً فيها و مؤثّراً، بقدر ما هي تؤثّر فيه. و هذا هو جوهر التفاعل الإنساني الخلاّق بين الشعوب و الحضارات و الثقافات.
إنّ » التفاعل المفيد بين الثقافات إنّما يتحقق بتكافئها و قدرتها على تبادل الأخذ
و العطاء، أمّا حين يصبح الأمر هيمنة للثقافة الأجنبية على الثقافة القومية فإنّ هذا التفاعل يتحول إلى فصام تحاول فيه كل منهما تأكيد ذاتها و التغلّب على الأخرى «(19). و هذا التفاعل عند الشاعر يوسف الخال ليس فصاماً و لا هيمنة، بل تكافؤاً حضاريّاً و معرفيّاً. يقول في نفس القصيدة:
» إذّاك نصعد المراكب الحاملة
الزجاج و الصنوبر، الحاملة الحرير
و الخمور من بلادنا الحاملة الثمر.
نصيح يا مراكب !
يا سلّماً يرقى بنا،
يصلنا بغيرنا،
يأتي لنا بما غلا،
يأخذ منّا ما حلا.
يا أنت يا مراكب
جئناك وحدنا «.(20)